"لقد ترك العزلة الكبرى التي
حملها دائماً في نفسه ذاتها،
لمفاوضات يباشرها، ولكنه أيضاً تركها
من أجل مصير فرنسا الذي تملّكهُ
ولازَمَ وجوده منذ أعوام عديدة"
(مالرو اللاّمذكّرات)
هذا الذي "ترك العزلة الكبرى"، هو جندي فرنسي برتبة جنرال اسمه شارل ديجول. هكذا هو الجندي، الإنسان، الذي يعرف واجبه حيال شرفه الشخصي، حتى وهو يوجه بندقيته ذات الماسورتين، الى المنطقة الرخوة التي تحت حنكه، ويتأمل ماضيه، كما لو أنه في خلوة، كما يقول "مالرو" في "اللاّمذكرات".
الجندي وحده، فقط يعرف معنى العجز التام، هذا الموت الماثل بكل ما في الحياة من قوة التبصُّر في دواخل الإنسان: الآن، حيث لا يكون أمامي سوى أن أعيد ماسورة البندقية نحو الاتجاه المضاد، تكفّ البندقية عن أن تكون معدناً بارداً، أو مثل زجاجة عطر في ثلاجة.
هل يوضع العطر في الثلاجات؟
هل يجهل الجندي لون خوذته؟
هل عاين جنرالاتنا عيون الطائرات الغالية الثمن جدا ، والمدفوعة كرشوة لدول المتروبول ، وهي تخزرنا قائلة : كان جيسون تشيلسي ، اشرف منكم ،
واكثر شجاعة من انواطكم ،
واكثر فحولة من رجولتكم التي استنفذتها المراهم الامريكية !
هذا الجندي البريطاني الشاب، جيسون تشيلسي، ذو التسع عشرة سنة، الذي قال: "لا أستطيع الذهاب الى العراق.. ولا قتل الأطفال"، ثم قطع شريان رسغه، بعدما تناول جرعة كبيرة من المسكّنات، هو "ملحمة كبرى" كما يقول "مالرو" في موضع آخر من "اللاّمذكرات".
قال "جيسون" لوالده، بينما كان يحتضر:
"لا أستطيع أن أطلق النار على الأطفال الصغار.
لا أستطيع الذهاب الى العراق.
لا يهمني مع أي فريق يقف هؤلاء الأطفال".
هذا وضوح تام. أو هو الصبح وقد أسفر، كما يحب بعض اللغويين العرب أن يتحذلقوا.
لم يتحذلق الجندي البريطاني "جاري بوزيل"، وهو الذي لم يتجاوز العشرين من عمره، عندما قتل نفسه في العراق.
ولم تكن الجندية البريطانية "وينيس روس" بسنوات عمرها الثلاثين، تعرف حقيقة حضارة غربها الدموية، إلا عندما اكتشفت فظاعات "المحررين" الأمريكان والبريطانيين، فأطلقت النار على نفسها في معسكر بريطاني بالبصرة.
وكان الجندي البريطاني "بول كونولي" بسنوات عمره الأربع والثلاثين، قد اكتشف "العار الغربي" في العراق، فقضى منتحراً في البصرة أيضاً.
وهذا هو الضابط البريطاني، المكتمل الرجولة والعقل: "كيف ماسترز"، بسنواته الأربعين، قد شنق نفسه داخل مكتبه بالبصرة، لأنه كف عن الانسجام مع سياسة حكومته المتغطرسة.
وفي شهر مارس/ آذار الماضي، أطلق الجندي البريطاني "مارك كريدج" (25 سنة) النار على نفسه في العراق.
هؤلاء رجال عرفوا تماماً ما على الجندي أن يقوم به عندما يراد له أن يتخلى عن شرف الجنود.
واولئك هم الجنرالات العرب ، لا يستحون من النظر الى عيون اولادهم ، حتى بعدما صرخ اطفال العرب : يا آباءنا ، لم تركتم "قانا " وحيدة ...؟
جمعة اللامي
*ـــــــ*
إمارة الشارقة
2006-08-26