"إن الأسباب التي تجعلنا نتجنّب الجرائم،
هي أكثر خزياً، وأكثر غموضاً، من الجرائم"
(بول فاليري)
هذا "تعريف شعري" لثقافة الجريمة"، حسب فاليري.
وهو ما يجعل الشاعر، والأديب المبدع، والإنسان الأخلاقي عموماً، ينفر من الجريمة، يفضح المجرمين، او حتى وهو يعرف أو يتوقع مسبقا ، أنه ربما يكون موضوعاً لتعريف "لا شعري " للجريمة.
المجرم يتعلم من الخبرة، أشياء عديدة من بينها ان يلوذ بالمجاري المعروفة في عمليات تصريف المياه الآسنة ، او " المجاري السياسية" . وهذه مقامها في آخر المقال.
والنهاية في العمل الأدبي بهذه الطريقة، كما يرسمها كاتب يجيد لعبته، تجعلها مقدمة وعقدة. فكل جريمة هي قصة بحدّ ذاتها، أو موضوع قصة، كما في "الجريمة والعقاب" للروئي الروسي الملتبس فيدور دستويفسكي.
لعل قراء القصص البوليسية، كما عند السير "آرثر كونان دويل"، يتذكرون قصته الأثيرة على قلوب كل من جرب كتابة القصة القصيرة، والتي اعتبرت "الجريمة الكاملة". وهي تستحق أن يبحث عنها القارئ الفطن، لأن تلخيصها يسيء إليها.
ولا يمكن الحديث عن هذا الكاتب البريطاني ، الذي انتقل الى الكتابة القصصية بسبب خيانة امه لأبيه كما يقول كتاب سيرته ، من دون الوقوف طويلا عند شخصية قصصه : "شارلوك هولمز" .
ولكنْ، لا بأس. دعوني أخبركم، أن السير "دويل" ، الذي منحته الملكة اليزابيث الثانية ، لقب " سير" افتخارا بموهبته ، ولكونه مواطنا بريطانيا تتشرف المملكة المتحدة بشرف حمل اسمه، سهل علينا معرفة ذلك القاتل ، اي"قاتل" حبيبته في تلك القصة ، من خلال شهادة رجل عادي ، قال بأن مدخنة الشقة الخشبية التي اختلى داخلها العروسان لقضاء شهر العسل بين اشجار احدى الغابات، كانت ترسل دخاناً أسود طيلة أسبوع وعلى مدار الساعة.
لقد اكل القاتل لحم حبيبته مشويا ، وتخلص من عظامها حرقا (!!) .
لو أن السير "دويل" بيننا الآن، وعرف بنبأ العثور على مسدس في بحيرة سويدية، لربما ذهب الى ستوكهولم مباشرة، وأمضى وقتاً غير قصير في غابات السويد، ثم يعود ليقول للشرطة السويدية: "المجرم هنا وبيننا ، انه منا".
لكن "دويل" ميت، مع الأسف. ويبدو أنه يتوجب على الشرطة السويدية العودة الى "الخيال الروائي" لمعرفة قاتل رئيس الوزراء السويدي الأسبق "أولوف بالمه".
مهما يكن، الانتظار الذي هو نوع من الصبر ، ...طيب.!
وهذا ما نحتاجه، مع الخيال الروائي نحت شمس عراقية أيضاً، لمعرفة قتلة اي مواطن عراقي ،او اي مواطن في الشرق الاوسط او الوطن العربي ، لأن نمط القتلة الذين رسم "دويل" شخصياتهم ... واحد، سواء كانوا في بريطانيا أو السويد أو لبنان أو العراق. فلربما يعثر غواصٍ هاوٍ على مسدس في المتوسط.
نعم، وفي "إسرائيل" أيضاً.
فالذين يتنكرون بالزي الفلسطيني الشعبي ويقتلون المواطنين الفلسطينيين، هم نموذج مرادف لقتلة العراقيين،وأولئك المواطنين المُغالين الكثيرين على امتداد بلدان العالم، سوى أنهم يعلنون عن أنفسهم، أو بالحري يعلن "الموساد" عنهم، بكونهم "أبطالاً من اجل الوطن اليهودي""، مع أن شاعراً فرنسياً متميزا يعتبرهم جرذاناً.
إن من قتل رفيق الحريري وسمير قصير وجورج حاوي وبيار الجميل، على سبيل المثال ، لا يختلف عن أولئك الذين يقتلون العراقيين والفلسطينيين والسوريين، إلا بالإعلان "البطولي" ، او بتشكيل محاكم دولية خاصة ، كما في قضية رفيق الحريري، بينما تبقى اسماء وعناوين الجهات والمنظمات والدول والمنظومات التي تُشغِّل قتلة العراقيين في الشوارع العامة ، وعند المساجد،وعلى ابواب المؤسسات الحكومية ، وفي المطاعم وصالات الأعراس ، او حتى في الطريق الى المقابر، سراً من الأسرار، أو في نطاق "الجريمة الكاملة" التي كتبها السير آرثر كونان دويل، أمر تتطلبه دواعي الجريمة فقط.
هذا يعني إلصاقها ب"جهة سياسية". وهذه هي لعبة منظومات محترفة وقاتلة يعمل أعضاؤها في الظلام ، كما تعودوا ، على رغم بياناتهم الممهورة بأسماء وعناوين دينية وسياسية.
وهؤلاء مكشوفون، للمواطن العراقي ، يل مكشوفون تماما ومعروفون حتى بالسحنات والأسماء ، او كما يقول الشاعر "هنري ميشو" لأنهم مثل الجرذي، الذي يمرض عندما يمضي نحو ساعتين تحت الشمس، لأنه سيصاب بالسرطان.
لذلك يجد من يتفهم حالته، عندما ينسحب الى مجاري المياه القذرة ، والعناوين الحزبية، تحت الأرض!
"الجرذان" التي تقتل العراقيين ، علنا وبفتاوى وبيانات مكتوبة مذاعة ومعلنة وموقعة ، من داخل الجغرافيا العراقية ومن خارج الحدود العراقية ، لا تحتاج الى عبقرية السير آرثر كونان دويل ، ولا الى احياء شخصيته القصصية المشهورة : شارلوك هولمز .
تلك "الجرذان" القاتلة نهايتها شمس عراقية ساطعة ، شمس من المصارحة والمساءلة ، وقضاء مستقل ، ومواطن يعرف مسؤولياته وواجباته وحقوقه وان مكانه الساحات العامة ، لكي لا يبقى "جرذي" قاتل واحد .. في "مجاري" المدن والقصبات والصحارى العراقية!
جمعة اللامي
www.juma-allami.com
juma_allami@yahoo.com