" جمعة اللامي " من زمرة الكتاب الأخلاقيين الذين تشغلهم الأسئلة والقضايا الوجودية التي واجهت ـ وتواجه ـ الانسان في الحياة والوجود . و قد انعكست هذه الانشغالات في اعماله الادبية ، القصة القصيرة بدايةَ ، ثم تطورت قي منجزه الروائي .
اسَّس جمعة اللامي ، ليس في تجارب ابناء جيله الستيني العراقي فقط ، بل على صعيد الكتابة القصصية العربية ، مداميك منجزه الخاص ، على التراث العراقي ، و الموروث العربي ـ الاسلامي ، و المدوّن من اهتمامات الانسان في القضايا الوجودية الكبرى .
إن مدينة " اليشن " ...الخريطة التاريخية والديموغرافية والاخلاقية والاجتماعية ، مؤسسة افتراضية ، كما تبدو في الوهلة الاولى لغير الدارس المتمرس والموضوعي . لكنها اليوم حقيقة ثقافية ـ واقعية في فضاء السرد العراقي و العربي .
لم يسبق جمعة اللامي في هذا الانجاز سوى الامريكي وليام فوكنز، الذي اخترع مقاطعة " يوكاناتوفا " في روايته المعروفة : " الصخب والعنف "
كانت نواة " اليشن " ، المثيولوجبا العراقية الموغلة في القدم ، متخذا من " يشن " محافظة ميسان العراقية، ارشيفا شخصيا لهذه المدينة . وهو قد ماهى بينها و بين التراث العربي ـ الاسلامي ، فآبتكر " شخصية " عراقية اعاد تثقيفها بأنبل اختيارات الانسان : الحرية و المسؤولية . وهو ما سنلاحظه في اعماله القصصية الاولى التي تطورت الى روايات بعد ذلك .
إن اسماء مثل " حكمة الشامي " و " ابراهيم العربي " و : متعب المطرود " و " غريب المتروك " و " سليمة "و "سلم بن يوسف " و" المواطن ع ـ التستري " و " الآنسة م " و" سلمان المحمدي ") و"ماجي العجوز " و " مريم بنت مطر " وغيرها ، أصبحت شخصيات عراقية ـ عربية ذات مضمون انساني .
هذه إضافة للسرد العربي ، كما هو معلوم في يومنا هذا .
و قبل أن يُعرف عن الروائي عبد الرحمن منيف اهتمامه ب " المكان " ، كان اللامي يشتغل على هذا الموضوع في قصصه القصيرة التي نشرتها الصحف والمجلات العربية ، لا سيما في سوريا ولبنان ، في سنوات الستينات والسبعينات من القرن الماضي . وهو ما لاحظه الروائي اللبناني الياس خوري ، في دراسة قدمها الى ملتقى " أصيلة " الاول بالمغرب في مطلع سنه 1980 و نشرت في عدد من الصحف العربية ، منها جريدة السفير اللبنانية ، التي كان الياس الخوري محررها الثقافي في حينه .
هذه المدينة ، بشخصياتها ايضاَ ، المفتوحة على المستقبل ، هي " النص المفتوح " الذي طوره جمعة اللامي ، استناداَ الى المدوّن من السرد العربي ، كما الشفاهي منه كذلكَ .
و ستكون " الهوامش " و " الملاحق " من ابداعات الشكل القصصي لدى جمعة اللامي على الصعيدين العراقي و العربي ، لكنها من الناحية التأويلية ، ستكون ترجمة للظاهر و الباطن في تطور شخصياته القصصية و اشتياقاتها الروحية ، و هذا هو التجريب تماما لدى جمعة اللامي .
استخدم اللامي الاغاني الشعبية العراقية ، وأناشيد السجون ، واشعار الحسين بن منصور الحلاج ، والامام علي بن ابي طالب ، والسهروردي القتيل ، والامام الغزالي ، ومرويات "ابن مخنف "، واشعار الروسيين بوشكين وسيرجي يسينين في متنه السردي ، مثلما استثمر الموروث الاسطوري العراقي والانساني في اعماله القصصية والروائية.
من أجل هذا ، تم تكسير الشكل التقليدي ، بل تحطيمه اذا ما اردنا تعبيراَ دقيقاَ ، كما في قصة " الليل في غرفة الانسة م " ، و " وثائق للوحشس " و "قراطيس السكران مايه بن بوذخشبان بن ده ديره السكران " ،التي تماهت فيها اللوحة التشكيلية بالشخصية الواقعية . و هذه التجربة تشبه الى حد كبير تجربة خاضها انطوان تشيخوف.
لم يستخدم أي قاص عربي ، وربما عالمي ، الصورة والرسوم التشكيلية في عمل ابداعي قصصي قبل جمعة اللامي ، كما سجل ذلك الراحل عصام محفوظ في كتابيه " دفتر الثقافة العربية " و " الرواية العربية الطليعية " .
اما الملاحق كما في قصة " اليشن " وهي القصة الاخيرة في مجموعة " من قتل حكمة الشامي " التي ستشكل البنية الكاملة للمجموعه القصصية التانية " اليشن " فإنها من ابتداع اللامي ، مستفيداَ من تجارب الالماني هيرمان هيسه ، في رواية " ذئب البراري " ، و كذلك الروسي باسترناك في رواية " دكتور جيفاكو " .
يستدعي اللامي ، الشهداء و الصديقين ، و العرفانيين ، و الرموز التاريخية في الحضارات العراقية ، و التراث العربي ، و الموروث الانساني ، من كلكامش "السومري "الى " الحلاج " البغدادي ، الى " حكمة الشامي " الذي هو شخصية أي انسان يضحي بدمه من اجل قضية عليا سامية . وهذا التنوع في "صناعة " الشخصية القصصية ، منحها حرية اكبر في النص . و هكذا فانها لا تموت ، او انها تبعث حية مرة اخرى ، بعد ان تقتل بشر الوسائل ، مثلما هي تمتلك السيادة الروحية و الطيران و الاندماج في الهواء و المطر .
ان ما سماه النقاد الاجانب ب " الواقعية السحرية " فكان متحققاَ في نتاجات جمعة اللامي ، في قصصه التي نشرها في عقود الستينات ، السبعينات ، الثمانينيات ، كما في رواياته اللاحقة .
البيئة العراقية عامة ، و بيئه الجنوب العراقي "( المائي " ، لا سيما َ " ميسان " او " ميشان " التي تعني " مَي ـ آسِن" " هي الشخصية و المنهل و المنجم الذي ينهل منه اللامي موضوعاته. و سوف ترتبط به هذه الخصوصية العراقية ، حتى ليكاد يكون من الصعوبة ترجمة بعض قصصه الى لغة غير عربية ، او ان فهمها في حاجة الى ايضاحات وشروحات ، كما فعل اللامي، حين اعاد طباعة اعماله القصصية والروائية الكاملة .
( الناشر)