المرأة بين الحرية والاستلاب

2011-02-11
البعضُ يشيدُ بالعقل. البعضُ الآخر يُشيدُ بالحدس. هنالك من يُعلي من شأن الروح وهنالك منْ يُعلي من شأن المادة والجسد. البعض يرى في الدين الخلاص وآخرون يرددون: العلمُ طوق النجاة. البعض يدعو للتضحية في سبيل الله ومنهم من يدعو للتضحية في سبيل الوطن. البعضُ يقول إنَّ الحياةَ في مكان آخر. آخرون يرونَ أنَّ الحياةَ هنا ولكن في المستقبل.
تُرى م//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/ad653cd9-c90c-415e-bd5d-1f456aaf86f1.jpeg نْ يُشيدُ بالإنسان؟ تُرى منْ يرى أنَّ الحياةَ هنا في هذه اللحظة وفي كلَّ لحظة؟
في طفولتي كنتُ أعتقد أنَّ القمرَ يُضيء من تلقاءِ ذاته، فيما بعد علمتُ أنه ليس إلاَّ انعكاس لضوءِ الشمس. في المدرسة صدقتُ - في البداية - أنَّ هنالك خطوطَ طولٍ وخطوط عرضٍ موجودة على سطح الأرض. لاحقاً أدركتُ رويداً رويداً أنَّها مجرد خطوط وهمية موجودة على الخريطة فقط.
أتساءلُ الآن كم عدد الناس الذين يؤمنون أنَّ هنالك عقلاً منفصلاً عن العاطفة، وأنَّ هنالك جسداً منفصلاً عن الروح، وأنَّ هنالك رجلاً لا يحملُ في داخله طفلاً لهُ أوهامه الكثيرة؟
بين الوسيلة والغاية، بين المقدمة والنتيجة، بين القول والفعل، هنالك دائماً مسافة قد تطولُ أو تقصر. وأحياناً تنعدمُ المسافة. قيلَ سابقاً "الحواسُ مخادعةٌ". إذا ما كان في ذلك شيءٌ من الصحة. كيف للعقل أنْ يكونَ مُنسجماً مع نفسه، وكيف لنا أنْ نعيدَ له التوازنَ فلا يقع في الشططِ أو في الجمود؟
يُعرفُ إريك فروم في كتابه "بوذا وفرويد" اللاوعي بأنه:"هو الإنسان الكلي مطروحاً منه ذلك الجزء من الإنسان الذي يتماشى مع مجتمعه. في حين يُمثلُ الوعي الإنسان الاجتماعي والحدود الظرفية التي يفرضها الوضع التاريخي الذي يجدُ الإنسانُ نفسه فيه. فإن اللاوعي يُمثلُ الإنسان الكلي المتجذر في الكون. كما يُمثلُ الكوكبَ في الإنسان والحيوان فيه والروح أيضاً ويمثل ماضيه وصولاً إلى فجر الوجود البشري ومستقبله".
انطلاقاً من هنا، أتساءل: أين لنا أنْ نضعَ العقلَ البشري - إذا جاز لي التعبير - في أيِّ جزءٍ؟ في المطروح أمْ في المطروح منه؟ هل العقل في هذا الجزء المتجذر في الكون أمْ في الجزء الذي يتماشى مع المجتمع والحدود الظرفية والوضع التاريخي؟
بالعودة إلى خداع البصر الذي نوهتُ إليه آنفاً هنالك أيضاً خِداعُ بصيرة تحدثَ عنه جيمس فريزر في كتابة "فن السحر"، حيثُ يقول: لقد حَسِبَ الناس، عن خطأ، أنَّ نظامَ أفكارهم هو عَينهُ نظامُ الطبيعة، وتصوروا أنهم ما داموا قادرين على ممارسة تحكم بأفكارهم فلا بدَّ أنْ يكونَ في مقدورهم أيضاً أنْ يتحكموا بالأشياء.

السؤال الذي يبدو لي مُلحاً هنا هو: ما منشأُ المبالغة في تبني هذه التقسيمات المثنوية؟ ولماذا التطرف والانحياز لجانب على حساب آخر، وأحياناً كثيرة التمترس وراءها؟ ما هو السبب الذي يدفع بالإنسان للوقوع في فخ خداع البصيرة؟
في كتابه "سيكولوجيا الإنسان المقهور" يُعالج مصطفى حجازي واقع البلدان العربية ويقدم رؤية تحليلية عميقة، حيثُ يقول: "التخلفُ ظاهرةٌ كلية. علاجها يجب أنْ يكون شمولياً. ينتبه إلى كل مواطن مقاومة التغيير يتضمنها ويتصدى لها بنَفسٍ طويل. وأشد نقاط المقاومة استعصاءً على التغيير هي البنية النفسية التي يفرزها التخلف، بما تتميز به من قيم ونظرة إلى الكون. فكما أنَّ الآلة التي هي نِتاجُ التقنية المتقدمة، قد يُعادُ تفسيرها كي تُستخدم بشكل خرافي أو سحري في البلد النامي، كذلك عملية التغيير الجذري (الثورة) قد يُعاد تفسيرها كي تمارس من خلال الأُطر المتخلفة، وتفقد بالتالي قدرتها التغييرية".
كثيرون نادوا بالثورة وبالتغيير الجذري، وعلى رأسهم التيارات الماركسية في بلادنا، ورفعوا شعار أولوية المادة والعقل، بل بالَغوا في ذلك ونظروا إلى الدين على أنه أفيون الشعوب. حتى بدا للناظر من بعيد أنَّ الماركسيةَ والإسلام على طرفي نقيض تماماً - استخدمُ هذه المقارنة كمثال على خداع البصيرة وليس على سبيل الحصر.
تحت هذا الاختلاف الظاهري الحاد يكمُنُ التطابق شبه التام بينهما، الإسلام والماركسية، وذلك في النقاط التالية على الأقل:
1- كلاهما عقائد تبشيرية تدعي امتلاك الحقيقة المطلقة، وتَعدُ بالفردوس الآتي. الإسلام يعدُ بالجنة في الحياة الآخرة. الماركسية تعدُ بمجتمعٍ تزول فيه الطبقات، مجتمع العدالة والاشتراكية، حيثُ تنتفي فيه الحاجة إلى الدولة.
2- في الموقف من الجمال والإبداع الفني والأدبي. نظرتْ الماركسية إلى الفن على انه وظيفة ووسيلة في سبيل القضية وفي سبيل المجتمع، واعتبرته ترفاً بورجوازياً لا يليقُ بالمناضلين، وفي أحسن الأحوال نادتْ بالفن الملتزم وهذا - من وجهة نظري - يُخفي احتقاراً مُضمراً يلتقي مع نظرة الإسلام إلى الفن والجمال.
3- الإيمان بعقيدة التضحية. التضحية بالإنسان. حيث دعا الإسلام للتضحية في سبيل الله، والماركسيون في سبيل الوطن والثورة!!
4- في الموقف من المرأة. وهنا بيت القصيد. الإسلام كان واضحاً وصريحاً في موقفه ونظرته للمرأة. جاء في القرآن الكريم: "الرجالُ قوامون على النساء". هنالك شواهد كثيرة جداً، ولا أجدُ في نفسي حاجةً إلى ذكرها أو الخوض في التفاصيل والأدلة. لكن ماذا عن الماركسية؟ ماذا عن موقف الماركسية من المرأة؟
إنَّ المبالغة والتطرف والانحياز غالباً ما تكون أقنعه تُخفي عكسَ ما تُظهر. لقد تميزتْ الماركسية ونادتْ بضرورة الإعلاء من شأن العقل وقوانينه والاحتكام لمنطق التاريخ؟ لكن ما الذي تُخفيه تلك المبالغة بالإشادة بالعقل والمادة؟ ما الذي تخفيه تلك المبالغة في إهمال الحدس وإنكار وجود الروح؟
في العصور القديمة كان الاحتكام للقوة العضلية سائداً ومبرراً، وهو ميزة الرجل في ادعائه التفوق على المرأة. في العصور الحديثة فقدتْ تلك الميزة أهميتها إلى حدٍ كبير، فكان لابدَّ من إيجادِ تبريرٍ آخر يُحافظُ على الوضع السابق، ويعزز ادعاءات الرجل بتفوقه. يقول بيير داكو في كتابه "سيكولوجيا المرأة": لم يسبق للمرأة أنْ كانت مسحوقة ومنهارة ومُستعمرة وخامدة مثلما هي عليه الآن. ويُمثلُ عصرنا أكثر العمليات دناءة في تاريخ المرأة. فالمظاهرُ خدّاعةٌ، ذلك أنَّ الفخَ مموَّهٌ على نحو يثيرُ الإعجاب. ويضيف داكو: "إنَّ العملَ على شاكلة الرجل ليس إلاَّ ضرباً من ظاهر الحرية، وهذا ليس مخرجاً وإنَّما هو بابُ جهنم".
كيف ذلك؟ والجميع يُرددُ بأنَّ منطق التاريخ يقوم على التقدم. كيف ذلك ونحن نرى ازدياد عدد النساء ومشاركتهن في كلِّ شيء، في المدرسة والجامعة، في العمل والسياسة، في الثقافة والفن...الخ؟ أين هي الخديعة إذاً؟
الطبيعة منحتْ المرأة حدساً أعلى من الرجل، ومنحتها القدرة على الخلق، أي الإنجاب، بينما منحتْ الرجل قدرةً عضليةً أقوى وذهناً قد يكون أكثر منطقية. يقول داكو: "الأنوثة، أياً كان الجنس، حدسية، لأنها تحس بالأشياء على نحو لامتمايز، والذكورة منطقية، لأنها تصطفي الإحساسات التي نتلقاها، ثم تلجأ إلى المحاكمة منتقلة من نقطة إلى أخرى بصورة شعورية".
فما كان من الرجل بعد أنْ ضَعُفت قيمة قوته العضلية في الميزان إلاَّ أنْ بالَغَ في دور العقل وشطَّ في تقديره على حساب الحدس الذي هو قوة المرأة الداخلية وبصيرتها، وذلك حتى يضمن المحافظة على مواقعه السابقة وتفوقه، مما أبقى المرأة في حالة من الإحساس بالدونية والعجز، وجاءتْ الأخلاق لتُخمِدَ طاقة المرأة وتُحيطها بالإثم دائماً. فالشرف يقعُ على كاهل المرأة حتى الآن.
لقد وجدتْ المرأةُ نفسها أمام خيارين: إمَّا الانكفاء والطاعة أو منافسة الرجل في ملعبه، وفق شروطه وقواعده، حيث أنَّ كل شيء يصب في مصلحته بدءاً من فكرة الله وصولاً إلى الأخلاق والأعراف والمنطق.
إنَّ إشعارَ المرأة بالإثم وبالدونية والنقص كان كفيلاً بهزيمتها من الداخل، وبضمان استلابها للرجل، انطلاقاً من الأب وصولاً إلى الزوج. ليصبحَ الرجلُ في نظر المرأة هو الكائن المتفوق، هو المرجع والقدوة.
إنَّ تنازلَ المرأة عن حدسها واستبدالهِ بعقلِ الرجل هو المدخل إلى جهنم التي تحدثَ عنها بيير داكو. فالعقلُ بلا حدسٍ هو مجرد حجاب والحدسُ بلا عقل هو فن أو مجرد عزلة. أمَّا العقلُ المُضاءُ بالحدس فهو المدخل إلى الحرية.

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved