هناك علاقة عضوية بين النقد والآيديولوجيا، وأعني بالأيديولوجيا ليس فقط المنظومة الفكرية، إنما القدرة على الربط بين الثقافة والمجتمع، بين الثقافة والإنسان . وهذا هو الغائب الكبير عن الممارسات النقدية وعن فكرنا وثقافتنا عامة !!غان الثقافة بمسارها التاريخي، إبداعا أو نقدا، شكلت ظاهرة اجتماعية ودافعا لإثراء الوعي الثقافي والفكري للإنسان . والنقد هو أحد الأدوات الهامة في هذا الفعل . وهنا لا بد من التأكيد أن النقد هو مدرسة للتوعية وليس مجرد مديح او ذم .
للثقافة النقدية مدلولات أبعد كثيرا من مجرد الإبداع الأدبي، الأدب هو الجانب الروحي للثقافة، والثقافة بمفهومها التاريخي تشمل الإبداع المادي أيضا، أي إنجازات الإنسان العمرانية في الإقتصاد والعلوم والمجتمع والأدب والسياسة، وهذا يُحمّل الناقد على الأخص، وكل المبدعين في مجال الثقافة الروحية، مسؤولية كبيرة أن لا يغرقوا في المبالغات المرعبة في بعدها عن الواقع، تماما كما في العمليات الإقتصادية والإجتماعية والسياسية. أي الإلتزام بفن الممكن ومعطيات الواقع، بدون مبالغات باسم الثقافة والنقد الأدبي واثارة الأوهام بالوصول ألى القمة الإبداعية من أول غزوة، خاصة لدى الأدباء الناشئين... وأضيف لدي غير الناشئين أيضا كما نعاني في ثقافتنا ونقدنا !!
لاحظت، وهذا يؤلمني حتى النخاع، التضليل الأدبي الذي يقوم به بعض مثقفينا، تحت نصوص تسمى بالنقد، يغيب عنها النقد، وتغيب عنها الذائقة الأدبية البديهية، وأكثر ما يغيب عنها المصداقية والإستقامة الأدبية. هذه الظاهرة تتسع باضطراد في الثقافة العربية داخل إسرائيل، خاصة بتناول أعمال أولى لأدباء أو بالأخص لأديبات، قد يبشرون بمستقبل واعد، لكن يجري شبه تأليه لنصوصهم، هو أقرب للتضليل، كأن النقد يتحول إلى ظاهرة ذاتية، لا علاقة لها بالثقافة، ويساعد على ترويجها في الفترة الأخيرة بعض الكتاب العرب المنقطعين عن المفاهيم البدائية للفكر الثقافي، فيما يسمى نقدا يفيض بالمدائح غير المعقولة والتضليلية للأدباء او الأديبات الناشئين وهم في بداية طريقهم لتشكيل عالمهم الأدبي ووعيهم الثقافي .
ما أكتبه ليس نفيا لإبداعهم لكن للتنبيه لهم ولمن ينتقدهم ان الهدف ليس ابراز مكانة الناقد وكسبه شعبية، وهي ظاهرة عالجتها سابقا، بل إعطاء المبدعين والمبدعات مجالا لتطوير أدواتهم وعالمهم الفكري والإبداعي وليس إيهامهم أنهم وصلوا القمة من أول صياغات أدبية . طبعا لا أنفي أن في صياغاتهم بشارة كبيرة بظهور أُدباء أو أديبات لهم مستقبل زاهر، لذا المديح المنفلت للجيل الناشئ خاصة باسم النقد هو تخريب وإيهام قد يشل المبدع ويقضي على تطوره .
لا أُريد أن يتوهّم القارئ أني أُستاذ في النقد الأدبي، انا أساسا قارئ متذوق للأدب، خضت ساحة النقد مجبرا من رؤيتي الفوضى النقدية وتحول النقد إلى علاقات شخصية أو حزبية أو عائلية، وإهمال أعمال أُدباء ناشئين وأنا منهم .
تأثرت في اقتحامي لحلبة النقد (وليس حلبة المصارعة) من أُستاذ الأجيال مارون عبود، بنهجه ورؤيته إن الذائقة الإدبية هي أفضل معيار نقدي، وعلى أساسها مارس أعظم النقاد العرب (مارون عبود) عمله النقدي الثقافي الإبداعي الخالد، ونفس الظاهرة نجدها لدى الناقد الكبير محمد مندور. وقد دمجت مع ذائقتي الأدبية فكري الفلسفي العام والنظري الثقافي مما يجعلني أفكر ألف مرة قبل ان أخط جملة او موقفا نقديا، خاصة بإبداع الناشئين، الذين يجب تناول أعمالهم بحذر وبرعاية، وليس بتأليه مضلل قد ينعكس سلبا على تطورهم ثقافة وإبداعا .
أقول بوضوخ وبدون تحايل : حين نُغيّب العقل نُغيّب الفطنة، ونستبدلها بكليشيهات جاهزة، ملّها المتلقي (القارئ) وبالطبع في هذه الحالة يصبح الإدعاء أن واقعنا الثقافي يشهد نهضة ثقافية وانتشارا واسعا للثقافة، نوعاً من السخرية السوداء .
الثقافة بكل أشكالها الروحية (أي الإبداع الأدبي) والمادية (أي الإنتاج الصناعي والتقنيات والعلوم) كانت دائماً معياراً صحيحاً لتطور المجتمعات البشرية، ومازال المؤرخون يعتمدون الثقافات القديمة وإنجازاتها في جميع مجالات الحياة والمجتمع، كأداة لفهم طبيعة تلك المجتمعات ومدى رقيّها وتطورها .
للأسف نقدنا لا يتعامل مع حركتنا الثقافية بتعدد وجوهها الإبداعية، إنما بانتقائيـة لا تعبـر إلّا بشكـل جزئـي عـن ثقافتنـا، وأحيانا بتشويه مؤسف !!
اكتب هذه الملاحظات بدون علاقة مع ما ينشر من مقالات نقدية، فانا هنا لا أقيّم تلك المقالات، وفي بعضها جهدا نقديا واضحا، إنما في الكثير منها مجرد صياغات لا تمت بصلة لموضوع النقد والإبداع الأدبي .
ما اطرحه هنا هي رؤية فكرية ثقافية فلسفية عامة .