إلى ذكرى أستاذي دكتور العلوم ياروسلاف فلاديميروفيتش كوسِّيتْسكي ، الأستاذ في معهد موسكو للهندسة المعمارية ، الذي احتل مكانة مرموقة في نظرية التخطيط - المعماري في الحقبة السوفيتية . وكان المشرف على رسالتي للدكتوراه الموسومة : " أهم قضايا تخطيط المدن في مناطق العراق الزراعية " ، على هدي الإحياء المعاصر للتخطيط - المعماري العراقي القديم والإسلامي .
النقد الفني ، ببساطة ، ودون الإستناد الى الآراء المتنوعة لفلاسفة علم الجمال من شتى المدارس التي أفرزت أنظمة تفكير وتعابير معقدة ومتباينة ومُثقلة بالآراء الأكاديمية المشحونة بالمصطلحات : هو فهم و إدراك وتذوق العمل الفني وجوهره من قبل مُختص يتفحصه ويُمحِّصه ، ويكشف ظاهره وباطنه بمعرفته وبصيرته : فيُحللّه ويُفنّده ويُفسّره ويُوضّحه ويُبسّطه بموضوعية وبلغة مُقْنِعة تصل الى القاريء بتعابيرغير منحازة ، مُظهرا مواطن الابداع والجمال ، ومواقع النقص والاخفاق بهدف : تقييم العمل الفني وتقويم الفنان ؛ و تنوير المتلقي ( الزائر والمجتمع ) بخلفيات خفيَّة وغامضة ، سواء من جماليات لايبصرها ، أو إضافات معرفية لايدركها عن أسرار الموهبة الفنية والأسلوب التقني والابداع الجمالي .
وفي النقد الفني عملية بناء وتنوير، أو هدم وتدمير؛ بثنائيات : الفن واللافن، الجمال والقبح، المحاسن والنواقص، المنجزات والعيوب، التفرُّد والتقليد، الدقة التعبيرية والهذر، الصدق والكذب، المعرفة والتسطيح، تطوير المجتمع أم تكريس تخلفه .... فالإلتزام بالمسؤولية الثقافية والفنية هي واجب أخلاقي قبل كل شيء . ولا يمكن لنقد قائم على التزوير الدخول في تاريخ وتراث وثقافة الفن .
والناقد الفني هو من تخصَّص بدراسة تاريخ الفن وعلم الجمال . وتشبّع ثقافيا بمختلف المدارس الفنية في العالم . وعلى دراية بمبدعيها وبرموزها . واطَّلع على ماتعرضه المتاحف، والمعارض الدورية . وتعرّف على فناني زمانه . وأن يتقن، أو يجيد، أو يكون على مستوى لائق من الإلمام بلغة أجنبية أو أكثر . ويتابع بجهد وتواصل مايستجد من اتجاهات في عالم المعرفة والفن والجمال . مما يجعله محيطا بالعمل الفني ومقاييسه الصحيحة والمتفق عليها أكاديميا لتقييمه جماليا وتقنيا . وتتعلق هذه المعايير : بالموضوع الهادف والرموز الإيحائية، والتكوين الفني، والشكل، والمنظور، وايقاع النسب ، والتجاور اللوني، ومواقع الضوء والظل، وقوة الخطوط، وتوزيع الكُتَل، والاقتدار التقني، وجمالية الاخراج ، وجاذبية الصورة الفنية ؛ وذلك من دون انحياز لشيء الا للفن : كيف يُنتج ويُفهم ويُطوّر . إضافة الى إلقاء الضوء على تفرّد كل فنان بطبيعة إبداعه .
والملاحظ في عالم النقد الفني وجود قِلَّة قليلة من النقّاد الأكاديميين، الموضوعيين، المنهجيين، الجادين، الصادقين، المستقلين، الحياديين والمتميزين بعمق معرفتهم الفنية - البصرية، وأحاسيسهم الجمالية، وثراء أدواتهم النقدية .
ومَثَلُ نقّاد الفن، كمثل الفنانين العرب المحدثين والمعاصرين، الذين لم يتشكلوا وينتظموا بعد في مدرسة فنية ونقدية عربية - اسلامية ذات سمات متميزة .
كما ان مايُنشر في الصحف والمجلات وعلى الانترنيت من نقد في الرسم والنحت والفنون الصناعية، كالصياغة مثلا، هو عُشْرُ معشار مايُنشر عن الشعر والأدب .
ومن مهام نقّاد الفن نشر وترسيخ مفاهيم مهمة، مثل : ان الفن ليس ترفا نخبويا؛ لكنه موهبة واحترافية وذوق ورؤيا وإبداع وأداة معرفة وجمال تساهم بفعالية عظيمة في تطوير المجتمع وإسعاده . وتوضيح مزية الفن كونه صنعة إبداع وجمال بواسطة الصورة الفنية . وأن يكتب من واقع خدمة الفن والفنان والمجتمع . وأن يتعامل مع العمل الفني بديموقراطية وحياد . و أن يكون له موقفه البنّاء من التراث الثقافي - الفني - الجمالي المحلي القائم ، ومن ذاكرته التاريخية . إضافة الى دعم ظهور وتطور فنانين مبدعين من الشباب .
ولهذه العوامل وغيرها أهمية كبيرة بين العرب والمسلمين، خاصة وان مئات الملايين منهم لايقرأ ولا يكتب، ولا يزال أميا في مجال الفنون، كما يجهل حقيقة الإسلام وسمو ثقافة المسلمين .
فمحصلة مسؤولية الناقد الفني هي أن يكون مُعَلِّماً في المجتمع . وان يكون حلقة الوصل والربط والتفاعل بين الفنان والمنتوج الفني والمتلقي / المجتمع ؛ مقدما قراءة معرفية تساعد على توسيع دائرة فهم وإدراك خصائص الفن واستكشاف جمالياته والتمتع به .
وبذلك تتفاعل وتتكامل دورة الفنان - الناقد - المجتمع في منظومة من شانها رفع وتطوير وعي وثقافة الفنان والناقد والجمهور معا . الكل يصب في مصلحة الكل كأحد الأسس المهمة للنهضة الفكرية والثقافية بين الناس .
ومن هنا فان للناقد الفني سطوة ثقافية على المجتمع ؛ و على الفئة الحاكمة، خاصة من تلك المتواضعة ثقافيا وفنيا وجماليا وأخلاقيا، كما هو الحال في مستعمرات العرب والمسلمين .
لذلك فان الناقد الفني، كالفنان، هو ممّن تستهدفه الأنظمة الحاكمة، خاصة في المستعمرات، لاستخدامه في أغراضها السياسية في السيطرة على المجتمع، وبالذات على المثقفين والفنانين لدورهم العظيم في تنوير الشعوب بالحقائق وإنارة طرق التطور والإزدهار أمامهم . وللأسف فقد انتقل حشد كبير من الفنانين والنقاد من صفوف الشعب الى شِبَاك الطغم المحلية الحاكمة، أو أصبحوا أدوات مرتبطة بأجهزة النخب الغربية الإستعمارية .
فأضحت العمالة لمنظومة الإستعمار، و انعدام الإستقلالية لدى قطاع كبير من مثقفي العرب والمسلمين ، أحد أهم وأخطر أسباب تخلف مجتمعاتنا وتبعيتها واستغلالها ، وتمكين الغرب من تفتيت واستعمار وتخريب ونهب الوطن الإسلامي . لأن المهم عند خونة الوطن والشعب وثقافته التاريخية، ومنهم الناقد المنافق، ليس النزاهة والمسؤولية الوطنية والإجتماعية والاخلاقية والثقافية والفنية والجمالية في قول الصدق والحق ؛ بل الوظيفة والصك والعطايا وتذكرة الطائرة وغرفة الفندق والأماسي الحمراء والكوكتيلات الوردية والمهرجانات المظهرية الدورية وموائد الطعام ...
وعن أهمية الناقد الفني تكتب ( د. زينب عبد العزيز، لعبة الفن الحديث بين الصهيونية - الماسونية وأمريكا، القاهرة 1990 ، ص . 121 ) : " ...إن أهمية الناقد الفني، الذي يقوم بواحد من الأدوار الرئيسية في هذه المسرحية التراجي - كوميدية للفن الحديث، تعد أهمية متعددة الجوانب : فهو الذي يمسك بخيوط اللعبة في يده من ناحية الشكل على الأقل . ذلك أنه يرفع هذه " الموضة " أو " التقليعة " ويزلزل تلك . ففي تأثير قلمه الشيء الكثير الذي يستمد قيمته من عوامل متعددة تتضمنها وسائل الاتصال في ذاتها، إنه قادر على أن يخفض أو يعلي من شأن هذا المصور أو ذاك، يسيء إلى صورته وأعماله أو يزوقها في إشادة تبرز معطيات أعماله أو تدينها، يرتفع بها إلى سماوات متوهجة أو يخسف بمحتواها وشكلها، ويا له من دور يتقنه وهو المتخصص في الكلمة المكتوبة، والمتحكم في توجيه الرأي العام عبر وسائل إعلام مصنوعة ومتسللة حتى نخاع الجماهير .
ومن ثم ما من أحد - أظنه - يجهل، في يومنا هذا، إلى أي مدى يمكن لنفوذ الناقد أن يتلاعب بمصائر الفنانين؛ فبفضل مايكتبه يمكن لعمل الفنان أن يدخل ضمن المجموعات الكبرى، ويغزو المتاحف، ويفوز بالجوائز في المسابقات .. إلخ ، أو يختفي عن الوجود تماما أو ينزوي في جب النسيان، مما يكشف إلى أي مدى يعد الناقد الفني عنصراً أساسيا في دوامة هذه الآلة الجهنمية التجارية . "
www.al-jadir-collect.org.uk
jadir959@yahoo.co.uk