الخميس : 21ـ 1 ـ 2010
" دائما، الفنُّ اقوى "
( مالرو )
انها لعُزلةٌ ذات مغزى ، حياة الكاتب الفنان التي اختارها الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي . فهو يتصرف مع الفرص الحياتية والمناسبات الرسمية ، وتقاليد البيئة ايضا ، من اجل ان تتبعه ، وتجري خلفه ، فيما هو يبقى ، كما هو الشاعر المُقَنَّع الكندي ، منشغلا بمصائر الاهلين ، في ديارهم البعيدة والقريبة.
يفتكر الناس انه هنا ، بالشارقة حيث دارته واهله ، او في القاهرة او بيروت ، وربمافي باريس ، او يمسك بالهاتف ويتحدث الى قدرات علمية بالنجف الاشرف ، كما ألفَ احيانا ، يتابع حالة انسانية ، او يسال عن كتاب ما ، وربما يُعدّ تخطيطات اولية لعمل مسرحي قابل ، بينما يظن اعلام غشيم انه منهمك في اهتمامات حكام الطوائف الغابرة . وحاشاه .... ! .
ساروح الى غرف اخرى في فضاء عزلته الاخلاقية ، عزلة الكاتب الانسان والفنان ، رغم ان هذه الايام تستدعي الحديث في المعاني الكثيرة التي ينطوي عليها قرار جائزة زايد للكتاب ، باعتبار الدكتور سلطان القاسمي ، الشخصية الثقافية لسنة 2009 . انها غرف ذات ظلال خاصة ، غنية بالمعاني والدلالات الاخلاقية ، لاضيء على مبادرة شخصية له ، وربما على مبادرتين ، حيث سبيجد القاريء ، ان سلطان الانسان الكاتب الفنان "يقسّم جسمه على جسوم كثيرة " ، كما قال الشاعر العربي ، في تأويل ما ، ذات يوم .
وهذا هو شعوره ، بل موقفه في الاخوّة ، تلك الاخوّة التي طالما تحدث عنها الشعراء العرب المعاميد ، واندريه مالرو . واني لأعرف كم هو مالرو اثير لدى الشيخ ، سليل المرابطين عند ثغورنا المائية .
هو اخوك ، وانْ لمْ تلْتَقِهْ .. !
بل هو اخوك ، رغم ملابسات هذه العريكة العربية الرخوة ، والمعرفة اللسانية للمعرفة ، والخطاب الذي كله عوج ، . لكن سلطان ، الانسان الذي طالما خصني باحاديث عن اندريه مالرو ، ياتي اليك كريما ، كالصداقة ذاتها . بل كما هي الاخوّة عينها .
وفي شان الاخوّة ، ليس ابلغ من اخلاق الاخوة وتقاليد اقطابها .
في ساعة مبكرة من صبح يوم في العام الماضي ، رنّ جرس هاتفي المنزلي ، وكان المُهاتفُ الشيخ سلطان بن محمد القاسمي ، او صاحب السمو كما اعتدنا ـ تادّبا ـ على مخاطبته في اوساطنا الثقافية ، ليقول لي : اخي اللامي ، ارجوك ان تجد لي هاتف الاخ الروائي يوسف ابو ريّه .
كنت اعرف من الصديق الكاتب القدير محمد سلماوي ، ان " ابو ريّه " يعاني من سرطان مستحكم في كبده .
وكان فارق الوقت بيننا نحن الذين بالشارقة ، وبين وقت اهلنا بالقاهرة ، ليس فس صالحنا . ثم ان الرجل مريض وطريح الفراش . لكنني من جانب اخر ، كنت على يقين ان الشيخ يعرف ان يوسف عليل ، وان علته احد اسباب هذا الاتصال الهاتفي المبكر جدا معه .
بعد ثلاثين دقيقة ، كان مُرادُ سلطان ، بصدد ابو ريّه ... معه . وبقية الحكاية ، تحتفظ بها جدران مقر اتحاد كتاب مصر .
وفي امر اخر ، وعندما كان صديقنا العزيز مظفر النواب ، بيننا بالعاصمة في زيارته الاولى لابو ظبي ، بجواز سفره الليبي ، وباسمه المستعار ، حدث ان اعرب لي النواب عن رغبته في السلام على الدكتور سلطان . ولم تاخذ ترتيبات اللقاء وقتا طويلا ، مع اشارة من قبل الشيخ ان يبقى مظفر ورفيق رحلته في حينه : الشاعر رياص النعماني ، فترة مناسبة بالشارقة ، ليطلع على هذه المدينة ، التي طالما شهد الصديقان العزيزان ، النواب والنعماني ، علامات هيامي بها ، ونحن في منزل بمخيم فلسطين في دمشق ، على امتداد ايام من سنوات في عقد ثمانينات القرن الماضي .
في البدء ، استقر الراي على ان يستقبلنا الشيخ في مكتبه الرسمي ، الذي اعتاد ان بستقبل فيه كبار ضيوفه الرسميين . لكن الذي فاجاني ـ شخصيا ـ ان هناك من اتصل بي وقال لي : اخ جمعة ، صاحب السمو يسلم عليك ، ويقول ان اللقاء مع النواب والنعماني سيكون في منزله .
نهضت الصداقة على حيلها ، اذن .
وحين وصلنا الى عتبات المنزل ، كان سلطان بدشداشته البيضاء ، يقف عند البوابة الرئيسية . في حينها عرف مظفر انه تبلغ رسالة ضخمة في الاخلاق . "انت في بيتي ، كما لو انك اخي ، او اخي فعلا " . هكذا كانت رسالة الشيخ .
وعندما انتهينا من حديث شيق ، له وقت اعلانه انشاء الله ، اصطحبنا سلطان ، وهو في تلك الوضعية غير الرسمية ، حتى البوابة الرئيسية للمنزل ، ليقول مظفر له : "كان عندي معلومات ناقصة . والان اكتملت " .
هنا قال سلطان :" يا مظفر ، انظر ، نحن لا نملك ، نحن نحكم " .
اعرف مغزى هذه الاشارة القاسمية . واعرف اي لحظة ذات خصوصية ، تلك المبادرة السلطانية
وحدث ان ان امرا صحيا غيّبني عن الكتابة اياما معدودات . وكنت في حينها نزيل مستشفى بالعاصمة ، بين الياس والرجاء . وفجاة كسر صمتي ، وانا وسط مجموعة من المرضى الاسيويين ، صوت ينادي علي للجري خلفه الى غرفة الهاتف . كان الفراش الهندي برما بي ، فهو لم يجدني الا بعد لاي . وحين اخذت بسماعة الهاتف ، كان على النقطة الاخرى من الخط ، سلطان القاسمي ، وهو يقول لي :" وَينكْ ياجمعة ، لكْ وَحْشَة "
بعد ذلك عرفت انه امضى قرابة ثلاثين دقيقة ، وسماعة الهاتف في يده ، بينما فراشو المستشفى يبحثون عن مريض اسمه : اللامي ، بين مرضى غالبيتهم لا يعرفون لغة الضاد .
لماذا اتحدث على هذا المنوال ، بينما وسطنا الثقافي والاعلامي ، منشغل بنبأ اختيار سموه ، بكونه الشخصية الثقافية لسنة 2009 ، من قبل جائزة زايد للكتاب ، وهو اختيار له ابعاده الوطنية ، ورمزيته الثقافية والوجدانية ؟
واجيب ببساطة متناهية : ان فيض الكلمات الادبية ، وفيوض المواقف الاخلاقية ، هي مواقف صاحبها . انها علامات على طريق الوصول اليه .
اتوقف كثيرا عند قيام شاعر المانيا الفذ : جوته ، بالتنازل عن منزله الخاص ، لصديقه الشاعر فردريك شيللر ، الذي كان يمر بازمة عاطفية في حينه ، لكي يتفرغ لابداعه .
واتذكر مالرو وديجول .
واستعذب الحديث في رفقة الشريف الرضي ، لعدد من وجهاء زمانه .
والحق ، ان الانهار الكبيرة لا تشبه الا نفسها ، وكذلك هي النفوس الكبيرة ، نفوس الفنانين والكتاب ، التي قناعها هو جلدها الحقيقي . ولذلك عندما تأتي اليهم ايات التقدير والعرفان بالمكانة اللائقة بهم ، فكأنها النهر حين يستدعي البحر .
او البحر حين يرجع الى اصله : النبع .
اليس مالرو هو القائل : " الانسان ، هو ما يفعل ! " ...؟