" أنا مُوجِدُنِي فَي أزَلِيَّتي ، وَتَوْحِيِدي "
(من : "لوح المقالات" ـ شَمسُ ميسان الْبِشِني )*
وفدت على ميسان(1) عندما كنت في السابعة عشرة ، فأخذت اختلف الى سوقها ، لأبيع البطيخ . كانت الناس في حال مَحْلٍ حينها ، فزهدت بحرفتي تلك ، لأن " البطيخ لأهل البطيخ " ـ كما يقول شريكي شمس الدين ، فلم اجد افضل من التحول الى سقاية الناس ، بعدما استشرتُ غاوتاما غوبند ـ بينما رائحته للعامة ، مثلما كانت السنة نسوة العامة اللاتي يرتدن السوق تردد هذه اللازمة. كما سمعتها من فم إيلياء العاقب شمس الدين ، الذي يشاركني اهتمامات لا عدّ ، كما لم اسمعها من غيره.
ثم ان الماء كثير ومبذول حول بلدتنا ، وهذا من نِعَمِ الله علينا وأَلطافه ، فآشتغلت بحمله الى الناس في ساحة البلدة ، او اطّوف به على عدد من بيوت العوائل الموسرة . كنت اضع الماء بعد ان انضحه من " كُوْد السَّادة " القريب ، في جردلٍ سويته من جلد سخلة جبلية ، وأنادي على السابلة : " من يرغب في ماء من بلاد كلها ماء ؟" ، فيستجيب اليَّ بعضهم ، ويعرض آخرون ، بينما كان نفر من االصعاليك والنفّاجة يسخرون من دعواتي ، ويقولون للعامة وآل الشيصباني : " هذا رجل ما عنده عقل ، فكيف يقوم ببيع الماء وهو غير مسموح به شرعاً ؟ ومن يضمن انه لن ينادي علينا لشراء الهواء ، او النار، او الدِّهْلة ، في ميسان او في غيرها غداً . وهذا غير مسموح به شرعاً ؟ " .
النوكى يبقون نوكى متحامقين ، ولو جلسوا على كرسيّ الإمارة . وهكذا هُمُ كلماتهم ، فالبشريُّ لسانه .أنا لا ابيع الماء ، وإنما اسقي الخلق.
قال لي شريكي :
ـ " ستجد رزقك في كوخك ، يا شمس ميسان".
لم اكترث لهؤلاء المهرجين والنفافجة والحمقى ، (حسب سُلَّم الطبقات والفئات الذي وضعه أمير سيفستان هَفاف بن تولون الشيصباني ، للمجتمع الميساني . وهذا سُلَّم متطور ، ورثه هفاف عن كبير اجداده الممعروف بإسم " زَلْنَبور الأَعْوَر ") ، ولكنني شعرت بحسرة عندما اطلقوا عليّ كنية جارحة ذات صباح .
قال كبيرهم الذي علمهم الهَرْج والمَرْج :
ـ " هذا هو طه بن عبدالله ابو البدع " .
فسرى ذلك في البلدة ، سريان النار في هشيم تذروه رياح شرقية ذات يوم صيفي . وأخذ الصبية ، وحذا حذوهم صغار العقول ، ينادون عليَّ : " طه ، يا طه يا بُو البِدَعْ " .(( حاشية من الكاتب : " كبيرهم الذي علمهم الهَرْج والمَرْج ، هو "إبن الخاركي" ، الذي لا يَبزّهُ في نفاجته الاّ "محفوظ النقاش" الذي اورد حكاياته " الجاحظ" في كتاب "البخلاء". وعندما سخر مني ابن الخاركي بقوله "أُدعُ ربك ليأتي بالشمس من المغرب الى المشرق ، إن كنت من الصادقين ، لم اكترث لسخريته ، وفساد قوله )) ....
... ولم اكترث لهذه الكنية ايضا ، لأني اخترت ان اجعل من الالم نقطة أعرج منها الى فهم وتجاوز، كثير من الحالات المؤلمة والصعبة . وهذا ما املاه عليّ شريكي ، في وصية له بعد ان فقدت اي اثر له في اصقاع مدينتنا (2) .
قال زارا غوبند شمس الدين ( وهو شمس ميسان ، كما ارغب في مناداته) ، عندما نادى عليّ للمجيء الى كوخه ، عقب إثني عشر شهرا على وصولي الى هذه البلدة ( التي سميتها سيفستان ايضا) : " إسمع مني يا شمسنا . انت في هذه القرية ، او في غيرها من القريات والأمصار ، ستحيا غريب الروح والبدن ، وسوف تتعرض الى سخرية الجمهور وتنفجاتهم ، وهذا ما سيجلب لك الماً وحزنا وسعادةً ، ويجعل حياتك مرجلاً في وادي" جوهانم" التي تحتها نهرك الذي من الكوثر(3) ، فاذا ما اردت ان تعيش في غرفة (4) تتوسط حديقتنا ، حوِّل آلامك الى سعادة وشوق الى الأمل " .
ـ "كيف ؟"
قال: " لا تغضب " .
ـ "وماذا غيره ؟"
قال شمس ميسان : " لا تغضب يا شمس شموسنا " .
ـ " وماذا بعده ؟" .
قال شمس الدين : " لا تغضب ، وآصبر " .
ـ " أصبر؟ " .
قال شمس الشموس " نعم ، يا شمس العناصر الأربعة " .
ـ "علمني؟".
قال المعلم:
ـ" الصَّبْرُ صَبْران: صَبْرٌ عَلى نَفْسِكَ ، وَصَبْرٌ عَلى مَنْ هُم خَارج نَفْسِكَ وَجَسَدكَ " .
ومع الايام، وتقلبها ، وتداولها بين الأنام ، جعلت جسدي حديقتي ، وقلبي غرفتي ، وكوخي كوني بحافاته غير الممنتهية .
وأَوصاني شمس الدين ، .. قال : " اوصاني المعلم شمس ميسان ، قال : " إلزمْ بيتك بُعيد مغيب الشمس ، وراجع نفسك ، بُعَيدَ كسرات خبز العشاء ، عن كل كلمة نطق بها لسانك ، وكل عمل قامت به جوارحك ، وأي فكرة ابقيتها في سريرتك ، ودوِّن ذلك تدوينا ، إنَّ الخَطَّ كان مَحمودا " .
قلت : " معاً على السمع والطاعة" .
ثم أخذت الوذ في كوخي عقب غلبة الخيط الأسود على اخيه الخيط الأبيض ، بعد ان أجد اداماً وكسرات خبز من دخن في بطن جردلي ، ثم ابدأ بتلاوة أورادي وأحزابي وأدعيتي وألواحي ومزاميري وآياتي ، حتى أصل الى شاطيء الرضا ، فتنقلني سفينة الرحمة الى عالمي اللاّمحدود .
وفي ذلك العالم ، تعرفت اكثر فاكثر على هَفَاف بن تُولُون ، بأسمائه التي لا يعرفها غيري ، وبصفاته الخمس (5) ، بينما كنت أشاهد جسدي خفيفا وشفيفا ، وأرى ميلاد نجوم جديدة ، وأشهد على موت الكواكب الهرمة ، وفوران التنانير في عوالم بعيدة او مجهولة لدى عوالم الكائنات ، حتى راقني هذا البرزخ ، فداومت على تمرينات ومجاهدات ، كان المعلم شمس الدين ، يزقها في قلبي، كما تزق الحمامة الحب لفراخها.
قال المعلم شمس الدين :" سيرى الناس دمك ينساب في عروق جسدك".
ولقد وجدت نفسي تحصنت في ليلي الطويل الطويل ، وانا احمل جردل الماء من الترعة الى بيوت البلدة ، حتى حاول ذلك المخلوق الذي سوف اشير اليه بإسم:مَيطَرون ... إقتحام صمت عزلتي، فطرق باب كوخي، وقال :
ـ " يا طه ، يا من تسمي نفسك : العاقب شمس الدين : انا حَيْزَبُ الأجْدَعُ " .
قلت له : " انت تريد مناظرتي ؟".
ـ نعم
قلت له : " في اي مسألة ؟" .
ـ ربك .
قلت : " الباب مفتوح " .
رايت حَيزَب يتوسط كوخنا ، كأنه هبط علينا من علو شاهق ، فتبسم المعلم شمس الدين ، وقال " هو لك ، يا روحي " .
سالت الاجدع :" قلت : نفسي ؟" .
ـ " سمّهِ ما شئت ، نعم . ولكن صفه ؟".
قلت : " حُبٌّ احَدٌ ، أحَدٌ حُبٌ " .
ـ " وبعد ؟".
قلت : " حبٌ صَمَدٌ ، حُبٌ لم يَلِدْ وَلَمْ يُوَلْد ، حُبٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدْ " .
انطلقت صرخة غاضبة من حَيْزَب الاجدع، فرايت سقف الكوخ يتطاير في الفضاء الشاسع ، ثم قال :
ـ " وبعد ، يا ابا البدع ؟".
قلت : " حُبُّ الرحمنُ ، الرحيمُ ،
حُبُّ ملكُ الزمن ويوم الدين ،
حُبُّ الذي ليس كمثله شيء ، بينما هو يُدركُ كلَّ شيء ، ولا يُدركهُ ايّ شَيء ،
حُبُّ الذي إحْتَجَبَ بذاتهِ عن مخلوقاتهِ ، وتَجلَّى لهم بصفاتهِ
، حُبُّ الذي ارسلني الى هذه البلدة المارق اميرها لأسقيهم ماءً ، وابارز رئيس مجلس علمائها الظالم لعباد الله " .
علا صراخ الأجدع ، :
ـ " وهل رايت ربك ؟".
ـ يا اجدع ، حبيبي تحت جبتي .
اطلق الزائر المهزوم صرخة عظيمة ترددت في الآفاق التي يراها البشريون ، ثم إنفجر جسده في فضاء الكوخ ، فقال شريكي :
ـ يا شمس ميسان، تجاوزت الإختبار .
قلت : " ايها المعلم .. وماذ بعد هذا؟" .
ـ انظر الى عروق كفَّيك .
ورأيت دمي ينساب في عروق كفيَّ ، فقلت :" زدني".
ـ أعلنِ حكايتك امام الناس ، عند ميدان البلدة ، عندما يؤذن المؤذن لصلاة الظهر .
ثم استدرك المعلم : " عليك ان تحمل زقّاً من خمر ، وتنادي: "من يشاركني كأساً من خمرتي التي ليس كمثلها خمرة؟ " .
ـ ايها المعلم ؟ .
قال شمس الدين :" هكذا يا طه ، صدقك الناس اول الأمر بالإتباع والتقليد . امّا ما بعد يوم غد ، فَسَتَشْخَل الناسَ ، كما تمخض الزبدة من اللبن" .