الشعلة وكتلة الشعلة في قصائد أنسي الحاج

2015-03-19
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/1ccceaf9-98c5-43b6-91c9-203dbde0f5bc.jpeg
 قرأت (لن) في المكتبة المركزية حين كانت في محلة الساعي، وقرأت فيها أيضا (الرأس المقطوع)..لم أفهم إلاّ القليل منهما..لكنني أحببت بساطته الصعبة، وأستوقفتني قصة قصيرة لأنسي الحاج، منشورة في مجلة الحكمة وهي من المجلات اللبنانية التي كانت تصدر في خمسينيات القرن الماضي..عنوان القصة (بين فكيه) منشورة في ع11 سنة 1956 ولم أقرأ غيرها ومازلت احتفظ بنسخة هذه القصة..أقول ذلك وانا اتوقف عند مفصل مهم في شعرية الشاعر انسي الحاج سأسميه مفصل الحكي الشعري.. مثنوية ..(ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة) لاتقتصر على ثريا الكتاب، بل يمكن ان نلمس مثنوية أسلوبية أيضا
*قصائد تتغذى أسلوبيا من النص التوراتي، ثم تفارقه في المنحى
*قصائد على اسلوبية الحكاية، وهي قصائد تجترح حكيها الشعري.في قصيدة (الفرق/ 152) ثمة اتصالية بين حكاية القصيدة وبين ليالي ألف ليلة.. هنا نكون مع رجل حكّاء يحكي لنا عما رأى ثم يخبرنا ان الرؤية كانت من خلال حكايا الأب :
(فلما أوصلني أبي الى هناك 
حكي والله أعلم
أنيّ ملكت البلاد وحكمت بشبابي بين العباد / 153) ثم ستتكرر شخصية الخيانة السوداء
(حتى صار ماصار مع العبد الاسود) لكن ثمة فرق فالتجربة الشهريارية لن تتكرر إلاّ بالعكس
(والفرق بيني وبين شهريار الأبله 
 أنها
أيضاً
قتلتني !/ 154)
(*)
لنتوقف عند هذه الحكاية الشعرية، التي تتجاور مع نص حكائي متداول (ليلى والذئب) يشتغل على احاسيس الطفولة العذراء، تلك الاحاسيس سوف يطمسها الوعي الاجتماعي المتراكم مع خبرتنا الحياتية الموجعة، وسنلاحظ ان أداة تخويف الطفل هي الذئب، كأن الذئب يطارد الطفل لاليفترسه، بل ليهدهده حتى ينام ، والذئب سنراه مبأرا :
(ذئب يكون دائما 
وراء أحجار
وراء أسفار
وراء أشجار
وراء بستان من الازهار)..
ورغم تموضعه في هذه الماورائيات الاربعة، فهو ليس ذئبا حقيقيا :
(ويهجم الذئب 
في قصص الكبار
ليأكل الصغار )
ثم يجعلنا الحكّاء خارج زمن الحكي، داخل مؤثرية الزمن على الحكائين والمحكي لهم..
(وذهب الكبار 
وأقبل الصغار
وذهب الصغار).
كان يمكن ان تنتهي القصيدة فقد استوفت شرطها الحكائي، لكن يبدو وفق قراءتنا المنتجة 
ان كل الاسطر الشعرية من بداية القصيدة الى هنا ..لها وظيفة المهاد الشعري الجواني
 للأسطر التالية، التي هي رسالة القصيدة :
(ويوم لم يعد
يأ كلني الذئب لكي انام   
بكيت عشرين سنة 
ومت من شوقي اليك 
يا ذئب
من شوقي اليك  ! )..
هل الذئب كان يأكل المتكلم؟ أم كان الذئب يفترس الارق؟ ويطمئن الصغير من خلال تنويمه ،ليس تنويما مغناطيسيا بل تنويما حكائيا.. والسؤال المحذوف هنا هو كالتالي : مَن أفترس ذئب النوم فينا؟ وجعلنا نبكيه شوقا؟ أنه سؤال لاينتظر جوابا من أحدٍ.. القصيدة تستعمل البساطة في توصيل صعوبة العيش في الارق.. والبساطة الاسلوبية تومىء الى بساطة العيش في زمن ذئب الحكاية الذي سوف يزيحه ذئب الواقع اليومي..

(*)
في قصيدة( صاح الأولاد ((يا! يا!))  ) سنكون مع عالم الطفولة ايضا..ستكون للأنثى  الطفلة  محاولتها الثورية في معالجة خراب العالم 
(قالت الصغيرة 
 أنا أضع القنابل 
تحت أبواب الرأسماليين 
لأني شيوعية
وأنت؟ /117)
سنلاحظ ان النص يركز على فاعلية الصغيرة،  وهي فاعلية تشكل تقاطع مع فاعلية الرجل المنشغل بالأنثوي في الصغيرة :
(غمرها بحنان خيبته 
وعينيه العميقتين 
تطلع الى كنزتها
 
وكتبها تحت ابطها
وذكر لها عن العمر
الذي بين لحظة ولحظة
بين رجل وأمرأة
أوبين رجل وفتاة صغيرة)..
نلاحظ الرجل منشغل بجمال الصغيرة، بتفاصيلها واذا تحدث فهو يتحدث عن العلاقة المألوفة 
بين رجل وفتاة صغيرة، وهو يعي ويشير الى تفارق السن بينهما
*ذكر لها عن العمر
*بين لحظة ولحظة
*بين رجل وأمرأة
*أو بين رجل وفتاة صغيرة 
في المقطع الثاني من القصيدة ونقول الثاني، من خلال بنية البياض التي تفصله عن المسطور:
(قالت الصغيرة
أنا أوزع المناشير 
ضد أعداء الشعب 
وأنت؟)
ماسوف يقول الرجل، يعني عدم التشارك معها في حلمها الثوري :
(قال لها 
كيف لم يعد صغيرا 
وكيف يعمل في أشغال
ناقشة لكنها مهمة 
تطلعت اليه 
سكتت 
طويلا قليلا 
ومز ملاكك .
وقالت 
كنت أظنك مع الشعب 
صوتك دافئ
عيناك عميقتان ،
ولن أراك.).. نلاحظ ان الصغيرة توهم الصفات الانسانية فيه، هي مؤشر اجتماعي لأنحيازه الطبقي للمقهورين ( كنت أظنك مع الشعب / صوتك دافىء/ عيناك عميقتان )

(في ما بعد
عرف ان الصغيرة قتلتها الشرطة .
وفيما كان الرجل العميق العينين 
يفك حزنه بالخمرة الرأسمالية )
هنا ستقوده الخمرة الى وجع المعرفة  :
(1) كانت طهارة الفتاة القتيلة 
تعصر قلبه 
(2) وكانت براءته العاجزة وهو حي 
تعصر قلبه 
(1) حتى لم تعد في قلبه نقطة 
من دمه الرأسمالي
 (2) نقطة
من دمها الشيوعي 
(3) نقطة 
من دم أنسان. 
ملأ قلبه الحقد 
وهكذا سيصل الرجل الى تلك الاثنية الحادة في تضادها الفاتك 
الأولاد الذين ضد العالم  ------------  والعالم الذي ضد الاولاد 
وعليه سيكون تحركه ضمن هذه الحلبة ،سينحاز بطريقة تختلف عن طريقة الصغيرة الى فكرها : (وعمل خادماً ليَسُر ّ الأولاد 
     حمل إليهم العالم 
      ليلة عيد
وضعه تحت اقدامهم 
حدثهم عنه
صاحوا : (يا ! يا! )
وخافوا) 
هل استعمل الرجل الطريقة الخطأ في إسرار الاولاد ؟ وهل سيحاول تجاوز الخطأ بإنتسابه الى مشعلي الحرائق ؟ 
(عندئذ أشعل الرجل العميق العينين
 العالم الذي ضد الاولاد
بعود كبريت 
فهب الحريق الى السماء)
وهل هذا الانتساب هو ضرب من التواصل مع الصغيرة ؟
(حتى سمعته الصغيرة التي قتلتها الشرطة
  ومن هناك 
شاهدت حُبّه 
وكل أولئك الأولاد 
يخدمهم لأجل سرورهم
وقالت :
كان لابد أن يعيّد الأولاد . أحسنت )
هل عمل الحرق، نوعا من فعل تطهير
(ونظر الرجل العميق العينين 
ليرى إذا نسي شيئا خارج الحريقة)
أم هو فعل تحرير من الخريطة ؟ بكل ماتحمله مفردة خريطة من ترسيمة محددة المعالم بخطوط حمر؟
( ولما أبصر الاولاد فرحين 
وصاروا أحرارا من الخريطة)
هل أنتهت مهمة الرجل؟ ولم يبق أمامه إلاّ تطهير جسده 
(أغمض عينيه العميقتين
وسدّ أنفه
وأرتمى في النار)
نلاحظ ما فعله الرجل :
*أغمض ...
*سد ّ..
*أرتمى
هذه الافعال الذاتية الثلاثة، لاتذكر بغير السبّاحين في الأنهر، والنار وهي تتعالى ألا تأخذ هندسة
النافورة في تدفقها الى الاعلى، فالنار مهما أمتدت أفقيا، لابد من ارتفاع عمودي 
 ، على مستوى ثان، إذا كانت هذه النار في القصيدة هي شعلة فأن (الشعلة كائن بلا كتلة/ 26) فهل تحول الرجل الى كتلة الشعلة ؟ أليس الشاعر الحقيقي يعبر عن مايجري، بما تراه عين مخياله الشعري ؟ وانسي الحاج من هذا الحجر الشعري الكريم..ومافعله الرجل في القصيدة 
مقارنة بما تفعله الطبيعة، هو أشبه ما يكون بأختزال الزمن (إذا كانت الطبيعة تحتاج الى آلاف السنين لتحول الصخر أرضا زراعية) فالإنسان بمافي فيه من شعلة الحب يختزل الامر بحجم
اللحظة..(فالحب يحتاج الى لحظة وانسان ليحول لحظة أخرى وإنسانا الى السعادة/ 110 -111/ من قصيدة – مّر إعصار ولم يقتلع شجرة ).. والتحريض شعلة لاتخبو  وهذه الشعلة 
محذوفة من القاموس الاجتماعي وقاموس اللهب الازرق ..
(أحب كلمة (محرض ) وتحبني 
ولكن لاأسمع في الاخبار عن الحب 
لأن الحب يحرضني كثائر يُحرض الجماعة 
والأخبار لاتذيع عن الحب 
كي لاتذيع عني 
إني مغتبط بهذه المعاملة السيئة)
وسبب الغبطة ان هذه الاساءة هي زيت يشعل الحقد الحق ومن هذا الزيت سيحبّر العاشق قلمه
ويزيد الشعلة لهبا كتابيا
(فهي تعطيني غذاء للحقد على البؤس العام
 ولهذا
عندما أجلس أمام ورقة وقلم 
كما قُلت 
دائما...)..
وهذا التمرد على الكثرة يتواصل في قصائد أنسي ،من خلال القصيدة الحكائية (فلنقع فريسة الجزيرة/ ص123)..تبدأ القصيدة بهروب من الشعلة المستبدة للسلطة
(لما مات الامير هَرَب َ البستاني الفقير من بطش الخليفة) ..وتعينه شعلة لاتخلو من رطوبة ، إذا تكلمنا وفق المعّلم غاستون باشالار(تسلل في الليل..دلّته نجمة العطش )..في جزيرة النساء هذه سيكون الرجل الهارب له وظيفة الشعلة في حماية البساتين ثم يصير شعلة النساء وتصير النساء
حاضنة شعلة ذكورته..(أعانت النساء راعي البساتين على الاقامة)..(وصار راعي البساتين راعي النساء ،وصارت النساء خرافه ) ويصير الراعي شعلة الارض والحقل والنساء والعشب 
(أعطينه الأرض فأخصبها، أعطينه الحقل فروّج فيه العبير،أعطينه العشب فعلمهن مافيه من كواكب..أعطينه البراري فزينها باللعب والانغام .بلّل عيونهن وقصف التراب بعواصفهن )
ان مافعله  البستاني ليس الهرب فقط ،بل اقترح لنا جميعا ان نحذو حذوه مطمئنين 
فهو(أسس هناك حياته لنا/ ص125)..البستاني هنا لايختلف عن تلك الصغيرة الشيوعية فكلاهما
يشتغلان على التأسيس الاجمل.. وتتكشف الشعلة كمسك ختام شعري للذهب والوردة في القصيدة الاخيرة..(تحت حطب الغضب /163) هذه القصيدة مكتوبة بضمير المتكلم وشعلتها لاتضاهى في نار الغضب 
(ماعدت ُ أحتمل الارض 
فالأكبر من الارض لايحتملها
ماعدت أحتمل الاجيال 
فالأعرف من الاجيال يضيق بها
ماعدت أحتمل الجالسين 
فالجالسون دفنوا.)
وهذا الغضب بشعلته الشجرية الانفتاح والتوسع، يعيد الى القصيدة الاولى والتي تحمل ثريا المجموعة الشعرية، فالشاعر انسي القصيدة الحداثية محبرته شمعات مشتعلة 
(صارت لغتي كالشمع وأشعلت لغتي /19) وهو بالطريقة النارية نفسها يتم توصيفه للحبيبة :
(كالشمس تدوس العنب )(كعنب ترجع النار عليه) (كعاصفة في عطلة) وها يتوسلها
(لتسمع غنائي وتطفىء خوفي /ص14)..(من سراجكم ليؤخذ نور الصباح) (رأيت ُ شمسك في كآبة الروح)..(حبي بار بعد الآوان .نار البر تأكله بعد الآوان )( جسدي كالخزف ولغتي كالشمع)..(أكسرني يا إلهي عليها كالصاعقة في البحر/ 25)...وهذه النار كانت توأم ضديها
في المجموعة السابقة (ماضي الايام الآتية)..(ومن جثتي مهما كان الزمان تفرح الجنّة وينساب حنان الجحيم /20- العاصفة) وفي هذه المجموعة سيكون للحكي غلته الوفيرة .. من خلال مفصل (داناي والزئبق /25- 57)..
*المقالة منشورة في صحيفة طريق الشعب/20تموز2014
*أنسي الحاج/ ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة / دار الجديد/ بيروت / ط2/ 1994
                 ماضي الايام الآتية / دار الجديد / بيروت / ط2/ 1994



  
 






 

مقداد مسعود

مقداد مسعود (من مواليد 15 أكتوبر 1954م البصرة، العراق)، هو شاعر وناقد عراقي بدأ النشر منتصف السبعينات من القرن العشرين ولدَ في بيتٍ فيه الكتب  أكثر من الأثاث . في طفولته كان يتأمل عميقًا أغلفة الكتب، صارت الأغلفة مراياه، فعبر إليها وتنقل بين مرايا الأغلفة، وحلمها مرارًا . في مراهقته فتنته الكتبُ فتقوس وقته على الروايات، وقادته إلى سواها من الكتب، وها هو على مشارف السبعين في ورطته مع زيت الكتب وسراجها بقناعة معرفية مطلقة

مؤلفاته
الزجاج وما يدور في فلكه
المغيب المضيء
الإذن العصية واللسان المقطوع
زهرة الرمان
من الاشرعة يتدفق النهر
القصيدة بصرة
زيادة معني العالم
شمس النارنج
حافة كوب ازرق
ما يختصره الكحل يتوسع فيه الزبيب
بصفيري اضيء الظلمة
يدي تنسى كثيرا
هدوء الفضة
ارباض
جياد من ريش نسور
الاحد الاول
قسيب
قلالي

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved