الاستثمار في التحف واللوحات الفنية( الحلقة الثالثة )

2014-07-11
جمع الأعمال الفنية كاستثمار


بالنسبة لجمع الأعمال الفنية الاسلامية مثلاً، فقد كان لمهرجان العالم الاسلامي الذي أقيم في لندن عام 1976 الريادة في تقديم فنون المسلمين الى مجتمعات الغرب، وخاصة في بريطانيا. وهو نفس العام الذي أقيم فيه أول مزاد للتحف الاسلامية في دار كريستيز في لندن. وحالما استشعرت دور المزادات العالمية الاخرى صعود الاهتمام بفنون المسلمين فقد نشطت في هذا المجال أيّما نشاط. وهي الحملة التي انطلقت ولم تتوقف حتى الوقت الحاضر. إذ شهدت حركة اقتناء الاعمال الفنية الاسلامية منذ ثمانينات القرن العشرين نهوضاً بارزاً، بدأ باثارة شعبية لوحات المستشرقين، التي يعود معظمها الى القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والتي سرعان ماأصبح لها سوقاً في مزادات الغرب وصالونات الفن يدرّ أموالاً طائلة. حيث أقبل ولا يزال، على اقتنائها أثرياء العرب، خاصة من ذوي المستويات الذوقية المتواضعة، وجهلا منهم بالقيمة الفنية والجمالية الحقيقية لكثير من هذه اللوحات مقابل ماتمّ دفعه لشرائها.
 //api.maakom.link/uploads/maakom/originals/f9fb8744-baf2-43de-b66b-adbbe73e3a82.jpeg

 وبموازاة ذلك فقد اهتم بعض أثرياء العرب والمسلمين، كما في  الخليج، باقتناء التحف الاسلامية باتجاهين: الاول، بالتركيز على جمع المخطوطات والمسكوكات، المفضّلة لدى هؤلاء على التحف المزيّنة بزخارف ورسوم ونحوت لكائنات حيّة، كان يُعتبر، ولا يزال، أمرا يتراوح بين المحرّم والمكروه والمحذور. والثاني، عندما تطوّرت التصوّرات والمفاهيم الفنية التي أدت الى فك هذه العقدة تدريجيا، فأصبح استرجاع تحف المسلمين، والحمد لله، يشمل شتى صنوفها، عدا لوحات وتخطيطات وتماثيل الاجساد العارية، مهما كانت قِيَمَها الفنية والتقنية والجمالية راقية، دون تمييز بين الفن والحب والجنس والفحش.

ومنذ ذلك الحين حصل تطور كبير في الاقبال على جمع التحف الاسلامية، مما أدى لارتفاع أثمانها. والى جانب التحف والأنتيك صعدت لوحات الفنانين العرب والمسلمين المحدثين والمعاصرين لتتصدر سوق الفن الاسلامي. 
  
لكنه وفي الوقت الذي تقام في الغرب متاحف خاصة للفنون الاسلامية، كما في برلين وأثينا، ويتم توسيع وتطوير أجنحة للفنون الاسلامية داخل المتاحف الرئيسية، كما في المتحف البريطاني، وفكتوريا وألبرت، واللوفر، والمتروبوليتان، والأرميتاج... فانه لم تدخل اللوحات الفنية بعد للعرض في المتاحف العالمية، إلا ، غالباً، لأفراد من ذوي الحظوة من " زملاء " أصحاب القرار في المتاحف ودور المزاد. ويعكس هذا نظرتهم الى الأعمال الفنية المعاصرة لعرب ومسلمين فقط  من زاوية ما تدرّه من أموال من خلال الاعلام والقرار المتحيّز وتسعير حمّى المضاربات في دور المزاد.

ليس كل الجامعين مستثمرون. فهناك من يقتني لارضاء حاجاته الروحية والجمالية.  ومن الاثرياء من يقتني للاستثمار. حتى ان " تشارلس ساتشي "، مثلا، اقتنى عام 1991 " سمكة داميان هيرست " مقابل 70.000 جنيه استرليني، وباعها عام 2005  باثني عشر مليون جنيها استرلينيا، أي ب 71 ضعف ثمن شرائها!. علماً بأن " سمكة داميان هيرست " هذه، ليست سوى سمكة محنّطة داخل صندوق زجاجي، لافنّ ولا جمال ولا إبهار ولا إدهاش... فيها!
 //api.maakom.link/uploads/maakom/originals/c2c8a29d-1483-4cf3-bc48-066027f9f90b.jpeg

ومن المستثمرين من يقتني التحف واللوحات ويهرع لحفظها في البنك دون التمتع بها، لأنه في الحقيقة ليس من ذوّاقي الفن بل ربما ممّن يبحث عن غسيل الأموال الحرام والأرباح الناجمة عنها.

ومن الاثرياء من يشتري التحف ولا يعرف قيمتها الحقيقية، ولا ثمن التأمين اللازم دفعه لحمايتها، ولا كيف يستخدم مجموعته كاستثمار في الوقت المناسب تبعا لصعود وهبوط أسعار التحف ومناخ عالم الفن. فهذه الفئة من الاثرياء لاتعرف كم لديها من الاموال، وتقتني مايعجبها باي سعر كان. وقد شهدت أسواق الفن عددا من هؤلاء في العقود الثلاثة الأخيرة. 

وعند اهتزازات سوق الفن العالمي فان الأثرياء القادرين على الاقتناء يسعون دائما الحصول على التحف الفريدة والنادرة وعلى لوحات مشاهير الفنانين؛ ذلك ان الطريق مفتوح أمامهم وأقل منافسة من آخرين، كالهواة وتجار الفن غير القادرين على خوض سباق شرس للحصول على التحف العالية الثمن.

 وتدخل البنوك والمؤسسات المصرفية والشركات الكبيرة مجال الفن: جامعين، وعارضين، وممولين، ومستثمرين... واذا كانت بعض مصارف الدول العربية ، كما في الخليج، قد شرعت بالاستثمار في الفن، كاستثمارات تدرّ عوائد شبه مضمونة، وكأصول في المحافظ الاستثمارية، ولتحقيق التنوع في الاستثمار... فان هذا المسلك معروف لدى مصارف الغرب منذ عقود. ومن ذلك مثلا Bank Leu في زيوريخ الذي كوّن مجموعة مهمة وضخمة من المسكوكات، ومنها الاسلامية. اضافة الى مشتريات Deusche Bank الألماني، وUBS السويسري..... الذين يستثمرون في الاعمال التشكيلية.

فقد وَجَدَتْ البنوك وأثرياء الغرب بان مااقتنوه قبل سنوات وعقود من أعمال فنية، خاصة بالنسبة لعمالقة الفن من امثال بيكاسو ودالي ورنوار ورودان.... صار يحقق لهم أرباحا خيالية دون مشقة تذكر؛ كالذهب القابع في خزائن وصناديق البنوك، منذ ان كان سعر الاونصة عام 1970 يعادل 37.4 دولارا، وصعد عام 2010 الى أكثر من 1600 دولار. وتماماً كالمال الربوي الذي يتراكم دون توقف في بنوك آلهة الأرض الذين يأكلون أموال الناس بالباطل وينعمون بأفضل عيش على حساب الضحايا من الطبقات الفقيرة والمتوسطة في العالم.

 وأصبحت البنوك تشير على الأثرياء من زبائنها، كالعرب مثلا، خاصة ممن ليس لديهم الخبرة والتجربة الاستثمارية في الفن، لتخصيص نسبة معينة من استثماراتهم باقتناء التحف والألطاف واللوحات... وإتماماً لذلك توجِّه البنوك عملائها هؤلاء نحو دور المزاد للاقتناء؛ ونحو نقّاد الفن ليصبحوا مستشارين فنيين لهم. 

 فمن الأثرياء مَنْ لايفهم لماذا تباع لوحة لبيكاسو بمئة مليون دولار، وأخرى لبيكاسو أيضاً بخمسين الف دولار؟. فيكون الثري المستثمِر ضحيّة للمستشار الفني المحتال. كما تثير أجواء المضاربة في دور المزاد الوضع النفسي والثقافي لهؤلاء الجامعين وتستفزّ عاطفتهم وتهيج وتؤجج حماسهم. فيصبح من عَقَدَ العزم على شراء التحفة أو اللوحة التي تعجبه كالمقامر وشارب الخمر الذي لايستطيع التوقّف وهو في حالة نفسية غير طبيعية. ففي المزاد تتوتر المشاعر طيلة المضاربة رغم قصرها، والتي لاتتجاوز عادة الدقيقة الواحدة، نتيجة التنافس على امتلاك التحفة واللوحة. وهناك التميّز الاجتماعي وعامل " الغيرة " الذي يغلي ابان المضاربة التي يجوِّد الدلاّل باشعال أوارها مثيراً الرغبة والفرحة بالانتصار وبحيازة " المنتصِر " على مايرغبه  جامعون آخرون في قاعة المزاد. 

ذلك على خلاف المعارض وأسواق الفن حيث يستطيع الشاري ان يستفهم عما ينوي اقتناؤه و " يتَبَازَر " ويفكِّر ويتجوّل في السوق والمعرض قبل ان يقرِّر الشراء. أو أن يوصي المهتم بعض التجار لاقتناء مايريد.

وطبعاً فان شيئا من الدجل والشعوذة والكذب والفهلوة من جانب بعض دور المزاد وتجار الفن والمستشارين الفنيين تصيب بعض المستثمرين بخسارات كبيرة، سواء بتزوير الاسعار الحقيقية، ام بالاتفاق مع البائع من خلف ظهر الشاري، او باستحداث الفقاعات والفورات الكاذبة لبيع منتجات فنون الحداثة العبثية بأثمان باهضة. او كما صعّد بعض " مستشاري الفن " أسعار لوحات فنانين معينين من مافياتهم الى أضعاف استحقاقاتها على أساس المعلومة الكاذبة دون وازع من ضمير بأن الخطأ المذكور في دليل دار المزاد لخداع المضاربين سيفضحه الزمن. 

ومن الجامعين /  المستثمرين من تورّط، وقائمة المتورّطين مفتوحة مادام هناك ثري جاهل، ومستشار حرامي، ودار مزاد /  تاجر كل همّه تحقيق الارباح اليوم وليحصل مايحصل غداً. ومن أمثلة هذا التورّط ان بعض الاثرياء ممّن استثمر في الفن بواسطة مستشاري السوء، أصبح لايستطيع بيع مااشتراه لابثمن اقتنائه ولا بعشر معشاره. لكن العمليّة تمّت...وطارت الطيور بأرزاقها الحرام: فقد وجد هذا المخدوع بانه حين اقتنى كان مَنْ هُم حوله ثعالب تبتسم وتشجِّع بأنها فرصة ولقطة... وانه يشتري تحفة نادرة وثمينة وبسعر مناسب. لكنه عندما أصبح بحاجة الى سيولة مالية وأراد البيع وطاف على المتاجر والأسواق فقد أُسقط في يده وخاب ظنه وضاقت عليه الأرض بما رحبت؛ فقد وجد أمامه عالَماً من الذئاب والضباع  كل يريد نهشه لمصلحته و بطريقته الخاصة: بان تلك التحفة التي اقتناها بمال كثير ما هي الآن غير " قطعة عادية " لاتستحقّ ذاك الثمن!.

وعلى الضد من الصورة السلبية المتقدمة، هناك في سوق الفن عدد من الجامعين -  المثقفين  – التجار – المستثمرين: لبعضهم متاجر في أسواق الأنتيك مثل بورتوبللو في لندن و مارشيه أوبوس في باريس... أو معرض أو غاليري، ومنهم من يعمل مستشارا في دور المزاد والمتاحف... وهؤلاء الجامعين هم الأكثر نجاحاً ونقاءً في البيع والشراء والجمع والاستثمار. ويُراكِم هؤلاء  مجموعاتهم بالتشذيب: الحفاظ على ما يرغبون به، وبيع المكرّرات أو ما لا يرونه نافعا ًوملائماً. 

وقد صار لهؤلاء، كما في أوربا  والولايات المتحدة، مؤسساتهم المهنية التي تقدم لأعضائها خدمات الاعلام والارشاد والاستشارات النزيهة، مثل:
LAPADA, The Association of Art and Antiques Dealers في بريطانيا، و
FADA, Fine Art Dealers Association في الولايات المتحدة،
 مشجعين الجامعين والتجار بان الشراء من خلال مثل هذه المؤسسات أفضل من اي مكان اخر. فهم يقدمون المعلومات الصحيحة، ويسعِّرون التحفة واللوحة بشكل موضوعي. وعلى العكس من دور المزاد التي تفرض شروطا تحميهم للتعامل، فان هذه المؤسسات تضمن حقوق الطرفين: البائع والشاري.

وعبر السنين تتكون لدى هذه الفئة من الجامعين – التجار – المثقفين - المستثمرين مجموعات نادرة تَراكمَتْ بأسعار مناسبة، وحققوا أرباحا ضخمة، وقضوا أوقاتا سعيدة بين جماليات التحف وقصصها وتاريخها. وتؤول مثل هذه المجموعات في النهاية اما الى بيعها في خريف العمر وأوان الرحيل، او التبرّع بها الى مؤسسة ما، او اقامة متحف خاص لها.  فمن هؤلاء الجامعين من أصبح ثريا ولا حاجة له ببيع مجموعته، أوليس لديه خلف جدير ومتمكِّن يرثه، أو لارغبة لديه بتوريث أحد... وله القدرة على إقامة متحف لمجموعته في حياته أو كتابة وصيّة لحفظها، أو توزيعها هدايا على عدد من المتاحف تحمل إسمه... لإشراك وإمتاع الناس بالمعرفة والفن والجمال.

 ومن المتاحف المتميزة التي أقامها أفراد، على سبيل المثال فقط:

J. Paul Getty Museum in Los Angeles;- 
The Museum of Modern Art in New York;-
National Gallery of Art in Washington D.C.;-
Tretyakov Gallery in Moscow;-
 Museum of Private Collections in Moscow;-
  دار الآثار الاسلامية في الكويت-
متحف محمود خليل في مصر-
متحف صبانجي في تركيا -

وعن
Louisa Buck and Philip Dodd, Relative values, or what’s Art Worth, BBC Books, London 1991, P.82
في مقالة بعنوانThe Power and the Glory     :
’ but the benefits of the collector/art relationship do not flow simply in one direction. Being in a famous collection gives art works a special aura – and can even protect fakes and misattributions. Cornelius Vanderbilt won his acceptance on to the Board of Trustees of New York’s Metropolitan Museum by his bequest of nearly 700 Old Master drawings which were quickly proved to be works not by Michelangelo, Raphael, Leonardo, Titian and Rembrandt but copies and school studies. But such was the standing of their donor that the Vanderbilt gift hung prominently in the Metropolitan for many years and helped to create a new interests’ drawings. 

وكما جمع الغرب تحف وآثار جنوب الارض وشرقها بالاستعمار والغزو والنهب، صار الشرق والجنوب: عرب وروس وهنود وصينيين وأفارقة ومن أمريكا اللاتينية... يستعيد تراثه المتسرِّب بالاقتناء الشريف وبدفع مليارات الدولارات في مزادات ومعارض وأسواق ودكاكين الفن المنتشرة في أوربا والولايات المتحدة. 

وهكذا فان جمع الأعمال الفنية، ودورة نهبها وتهريبها وبيعها وشرائها والتمتّع بها والاستثمار فيها وأنشطة دور المزاد وأسواق ومعارض ودكاكين الأنتيك وتكوين المجموعات و المتاحف الخاصّة... قد شكّلت، خاصة منذ سبعينات القرن العشرين ولا تزال، ظاهرة فريدة في تاريخ مختلف مجتمعات العالم بالنسبة للعلاقة بين الفن والمال والجمع والاستثمار.


www.al-jadir-collect.org.uk                      jadir959@yahoo.co.uk  


 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved