يعتمد ازدهار صناعة الفن: انتاجاً واستهلاكاً: من الصانع الماهر والفنان... والمعارِض ودور المزاد وأسواق الفن... والمتاحف... على الاستثمار، سواء من قبل الدولة أم الأثرياء... ويشكل هذا الازدهار التراكم الثقافي المعاصر وإرثه للمستقبل والذي تقام عليه النهضة الثقافية تجديداً وابداعاً وابتكاراَ.
وتُتابع الدولة الوطنية عادة استثماراتها في الفنون كمنتوج ثقافي تماماً كالمنتجات الوطنية الصناعية والزراعية والسياحية... وذلك لضمان الجودة والإفادة والتواصل والتطور... وتسجيل التاريخ الروحي والمادي للشعوب.
وذلك رغم أن أول ما يتضرّر من سياسات التقشف هو الفن. ومن ذلك اغلاق متحف المتروبوليتان لخمس عشرة من متاجره التسويقية في الولايات المتحدة. وتقليص الدولة البريطانية تحت حكم الثنائي: المحافظون والأحرار لتمويل الفن ومتاحفه في بريطانيا. ونفس الشئ يجري في دول غربية أخرى: بوقف اقتناء التحف واللوحات، بتجميد التشغيل، وتسريح بعض العاملين، وتخفيض المرتبات، وفرض رسوم دخول للمتاحف لم تكن موجودة سابقا...
وفي استثمار الأثرياء في الفن لذّة الجمع ومسرّة التمتع بالتحف واللوحات، والفرح بتملّك الأشياء الجميلة، والإطمئنان من ان سعرها لن ينهار مع تقادم الزمن؛ بل على العكس.
ويتصاعد استثمار الأثرياء في المقتنيات الفنية خلال الأزمات المالية والركود الاقتصادي كطريق آمن لتوظيف الأموال مقارنة بالاستثمار التقليدي والنمطي في العقارات والأسهم والمعادن النفيسة، التي كثيرا ما يخضع تذبذب أسعارها الى قرارات سياسية لآلهة الأرض مما لاعلاقة له بحقائق وقوى الاقتصاد ومصالح الناس. اضافة الى خشية الأثرياء من ارتفاع الضرائب. ففي فرنسا مثلا تشرع حكومة الرئيس " أولاند " باقتطاع ضريبة مقدارها 75% على أي مدخول سنوي يفوق مليون يورو.
كما تستثمر المتاحف الغربية ودور المزاد وأصحاب الصالونات الفنية في الفن من خلال مايُعرض للبيع في سوق الفن. حتى ان بعض دور المزاد تقيم أقساماً متحفية خاصة بها. اضافة الى السفر الى البلدان العربية وايران وتركيا والهند وباكستان واندونيسيا وغيرها لاصطياد الاعمال الفنية وشرائها من أصحابها مباشرة. وما يفعله تجار الفن هؤلاء هو إخفاء مايقتنونه من أعمال فنية كبضاعة رأسمالية مؤكّدة الارباح في المستقبل: فاذا تحول الفنان الشاب المغمور اليوم الى فنان كبير ومشهور فان أثمان لوحاته التي انتقلت باسعار زهيدة الى تجار الفن في الغرب ستحقق مئات الالاف وربما الملايين من الدولارات، خاصة عندما تُسلَّط عليها الأضواء، فيهرع الأثرياء من مواطني بلده الذي تسربت منه هذه التحف لدفع مبالغ طائلة لاستردادها. فالربح هنا بضعفين، كالمنشار: صاعد ناهب ونازل ناهب.
وفي مقال:
Jack Malvern, Tate goes on safari for artworks by emerging African masters, The Times, November 2, 2012
بان الفن أصبح عالمياً، وان متحف ال Tate Modern سيفتح جناحاً خاصا ًعن الفن الأفريقي. فبلا شك، ان لهذه الحركة بعداً ايجابياً يتمثل في دورها في حوار الثقافات وتعرُّف الغرب على فنون المستعمرات. فبعد الشرق الأوسط وشرق آسيا وصل الآن دور أفريقيا للاستثمار في أعمالها الفنية.
ومن جهة أخرى فان ذلك يحصل على حساب تفريغ مجتمعاتنا من تراثها، وحرمان هذا الجيل والاجيال القادمة من الاستفادة والاستمتاع بمنجزات الموهوبين والفنانين الكبار، ومن دَوْر الفن الصادق في رفع الوعي الثقافي والفني والجمالي والذوقي للمجتمع. فيساهم هذا الافراغ المخطّط للنتاج الفني الاصيل في تكريس تخلّف وتبعية شعوب المستعمرات.
وهذا بالضبط ماحصل لمصاغ المسلمين عندما داهمت قوافل تجار الفن، مؤسسات ومجموعات وأفراد، في القرن الماضي مدن وقرى العالم الاسلامي لجمعه من غرب أفريقيا الى شرق اندونيسيا، وشرائه بأسعار زهيدة. حتى تجمّعت افضل الحلي الفضية للطوارق في سويسرا. وأبدع مجموعة للحلي القبائلية الجزائرية في الولايات المتحدة. وأروع مصوغات بلاد المغرب في فرنسا. وأحسن مجموعة من الحلي الاثنية لشعوب العالم الثالث في بلجيكا والمانيا... مما يُعرض الآن في متاحف الغرب، ومما لاثمن له.
و" صَفينا " كما أنْشَدَ طيّب الذكر المونولوجيست العراقي عزيز علي: " وِحْنَه نايمين شلون نومة مستريحة والنبي "!.
يجب التأكد من نوعية الاعمال الفنية التي يضع فيها المستثمِر أمواله: على ان تكون فريدة وأصيلة وجميلة وجذابة وبهيجة وواضحة في ندرتها، ومما له أفق مستقبلي، يرفع العمل الفني الى مصاف الموجودات المصرفية ذات المحافظ الاستثمارية الواعدة، بل المؤكدة. ونضرب على ذلك مثلين: الأول، من مؤسسة الاهرام التي بادرت في ستينات القرن الماضي بالاستثمار في الاعمال الفنية لرواد الحركة التشكيلية في مصر مثل محمود سعيد، راغب عياد، جمال السجيني، صلاح طاهر، حامد ندا، سيف وائلي، جورج البهجوري، تحية حليم، وغيرهم... كجزء من الممتلكات الثقافية المصرية الحديثة والمعاصرة، اضافة لكونها موردا استثماريا ثبت نجاحه الكبير. إذ أضحت: " هذه اللوحات الموجودة الآن في الأهرام تمثل واحدا من أهم أصول الأهرام حيث تساوي مئات الملايين من الجنيهات " ( الأستاذ في حوار الثقافة والفكر مع محمد الشافعي: السياسة بدون ثقافة مجرد سلطة، الهلال، ديسمبر 2012 ص. 31 – 32 ).
حيث تكسر لوحات محمود سعيد مثلا في دور المزاد العالمية حاجز المليون دولار؛ بينما اقْتُنِيَت في حينه ببضعة مئات من الجنيهات. اضافة الى دَوْر مؤسسة الاهرام من خلال هذه المبادرة الاستثمارية الرائدة في الحفاظ على جانب من تراث البلاد للحاضر والمستقبل، ورعاية الفن والفنانين، و نشر الفنون الراقية في المجتمع وتصعيد وعي الناس باهمية الفنون فائدةً وجمالاً.
والثاني، تجارة كاسدة وخاسرة، كمن يبيع الماس النفيس بمعدن بخس. فهل هناك مستقبلا في الاستثمار في رأس خنزير، أوخروف مسلوخ، أو حذاء ممزق مستلّ من برميل قمامة، أو قماشة رسم عاطلة وفارغة وخاوية... أو زجاجة كوكا كولا...؟ أو غيرها من " التحف " المعروضة في متاحف عالمية للفن الحديث؟ وهل سيحقق هكذا استثمار أرباحا في المستقبل؟ أم ان حيازة وتعليق مثل هذا الهراء البصري على جدران القصور فيه زينة وجمال وبهجة ومسرّة؟
فرأس الخنزير هذا حتى لو كَبرَ ونما في أسبوع أو شهر أو سنة أو عقد أو قِرْن... وأصبح خنزيراً كامل الحُسن والبهاء... يمجِّدُ التخلُّف والاستعمار... ويلهج بذكر الدولار آناء الليل وأطراف النهار... وبلغ ذروة تجلياته، فحلّق وصار يُغَرِّد ويُغَنِّي: خرو...خرو...خرو...ثم نمت له قرون... وتزيّن بالقلائد والشنوف، وأصبح فريد زمانه، وحديث دور المزاد وصالونات العرض والاعلام الارهابي الغربي الكذّاب الذي يختلق اشياء لاوجود لها مثل أسلحة الدمار الشامل العراقية التي مرّرت كارثة غزو العراق وتدميره وتخريب حياة الناس وجعل يومهم أسوأ من غدهم وغدهم أسوأ من يومهم... فكيف اذا كان الاعلام الغربي هذا صادقاً ونزيهاً وأميناً، أي ليس كذّاباً، ويتحدث عن حقيقة لايصفها واصف، مثل رأس خنزير كَبرَ... ونما... وغنّى... و" قرّن "... وتجمّل وتزيّن؟... ومع ذلك فهل سيرتفع ثمن هذا الخنزير ويحقق استثماراً مجزياً؟
فما ارتفاع أثمان منتجات فنون الحداثة العبثية، الا نتيجة فقاعات تظهر في زمن غريب في طبيعته. وهو ليس من باب وجود أذواق راقية وثقافة فنية عالية، بل على العكس تماما: لِحَوَل وَعَوَر وعمى بصيرة، ولوفرة المال الذي ترصده عيون النخب الغربية و" رجال الأعمال " و" المستشارين " والنافخين في الفقاعات حتى انفجارها أو تفجيرها. الى جانب عوامل المباهاة والمظهرية والوجاهة الاجتماعية والمنافسة... لذلك فان ثمن اقتناء الفن لايعكس المعيار الحقيقي والواقعي لقيمة العمل الفني.
والان وفي ظل وجود وفرة غير مسبوقة من ترليونات الدولارات في أيدي السوبر أغنياء، يبرز السؤال: ماذا سيضع بناة مئات المتاحف فيها من أعمال فنية؟. تصوروا متاحف بلا فن مفيد وجميل وسِجِل للتاريخ؛ بل مَحْشُوَّة بمنتجات فنون العبث: فعوضاً عن لوحات دافنشي يجد الزائر لوحات فارغة؛ وبدلا عن تماثيل ميخائيل انجلو يشاهد أجساد حيوانات محنطة...
ترى كم من الوقت والطاقة يستهلك مُنْتِج أي بضاعة في أي حقل من حقول الاقتصاد، أو مُبْدِع قصة ورواية وديوان شعر... وكم مردوده المالي مقارنة ب " فنان " العبث الذي لاعلاقة له بالفن، بل بأنشطة مافيوية تسهل له العيش من استخراج حذاء بالي من القمامة ووضعه في متحف عالمي!. هنا تظهر الصورة المشوهة التي يرسمها ويروّج لها الاعلام الكذّاب المتحالف عضوياً مع الساسة ومع دور المزاد لتحقيق أكثر مايمكن من الأرباح من أقل جهد بشري.
والى جانب الاستثمار في منتجات فنون الحداثة العبثية التي لامستقبل لها، هناك المبالغة المفرطة في شراء الفن الجيد الجميل: فبينما اقتنت العائلة الحاكمة في قطر لوحة عبثية ل " مارك روثكو " بحوالي 73 مليون دولار؛ فانها اشترت لوحة سيزان الراقية " لاعبي القمار " بأكثر من 258 مليون دولار، وهو أعلى سعر للوحة في تاريخ الفن.
فاذا كان الاستثمار في امبراطورية التغريب الاستهلاكي، ومنه في فنون العبث عبث؛ فان الاستثمار في الاعمال الفنية الجيدة باسعار خيالية إسراف وتبذير... والله لايحب المسرفين. إذ هل سيرتفع سعر لوحة سيزان هذه باكثر من ربع مليار دولار؟ هذا الا اذا طاح حظ الدولار، وانكشف وانهار، وأصبح الألف منه بريال ودينار؛ كما حصل بالنسبة لعملات أخرى ، منها الدينار العراقي الذي كان يعادل 3.4 دولارا قبل الحروب التي فرضها الغرب لاحتلال الخليج ونهب ثرواته، بينما يعادل الدولار الآن 1200 ديناراً!.
أم ان هذا المسلك الاستثماري غير المدروس علمياً هو جزء من تحويل الفن الى: تجارة، ونخبوية، وسياسة: تجارة تدرّ أرباحا خيالية. ونخبوية، بتأميم الفن للوجاهة والمنافسة بين الاثرياء وتغييب ثماره عن الناس. وسياسة، لارضاء الدوائر السياسية الغربية: كإبراء ذمّة: بأن بعض العوائد اليسيرة من النفط والغاز تعود أدراجها الى آلهة الأرض في الغرب.
وقد اشارت The Art Newspaper, No. 240, November 2012, P 12
الى سعي دبي بان تتحول الى لاس فيجاس أخرى بمشاريع استنساخ أشهر المعالم المعمارية في العالم، مثل برج ايفيل، وسور الصين العظيم، وأهرام الجيزة... وتاج محل... وغيرها من مشاريع ضخمة تبلغ كلفتها عشرات المليارات من الدولارات في تمويل تنفيذ أفكار بالية وعقيمة لاقيمة ثقافية اواستثمارية لها؛ وكأن الفكر المعماري العربي والاسلامي والعالمي المعاصر عاجز عن ابداع وابتكار الجديد، لكنه قادر فقط ليس على التقليد فحسب بل بتضخيم الاصل ثلاث وأربع مرّات، كما هو الحال في مشروع تاج محل المقترح اقامته في دبي لجعله فندقاً ضخماً من فئة خمسة نجوم للبقاء في فقاعة الأطول والأول والأكبر........ في العالم.
نعم سترتفع أثمان الفن المُبْهِر والمُدْهِش الذي يعكس الموهبة والخيال والمعرفة والاقتدار التقني ويقدم الفائدة والجمال... و سترتفع أثمان زرابي الكاشان... وأثمان المصاغ الاسلامي... ولكن ليس منتجات فنون الحداثة العبثية. فالخلود والرسوخ في الفن لايُكْتَب الا للفن الجيّد الذي هو استثمار جيّد في نفس الوقت. أما " الفن " الجُفاء فتذروه الرياح كما تذرو الأكاذيب والحيل والفقاعات السياسية والمافيوية والمخابراتية الزائلة والعابرة.
www.al-jadir-collect.org.uk jadir959@yahoo.co.uk