تقبل أو تدبر أو تهجر .
تقبل أو ترفض .
تومئ أو تتحدث بغلظة .
تمطر تبرق ترعد تعصف أو تبتسم .. تساكنني مخدتي ، أو تساررني عن ماضي المستقبل . تقشر لي جلد السلالات ، أو تعلمني أن النار فاكهة للفقراء . تحدثني عن ضعفي ، أو تضعني أمام قوة الاستشهاد .. فأنت ، يا عراق ، ماؤنا الذي يبرد على السطوح ، وحديقتنا الصغيرة قرب باب البيت ، ونشيد صغارنا الذين يكبرون بين دفتي كتابك ، وحرارة دعاء أمهاتنا عند شواطئ الأنهار ، وغبار المنافي الجديدة والقديمة ، وهوسة الصيادين ، وعونة الفلاحين ، ورائحة أول مظاهرة للمسلولين في شارع الرشيد ، وصداقة عامل الليل لطبع منشورات تحت الأرض ، وصهيل الجياد التي خبت ، وجابر عثرات الجياد التي انتكست ذات يوم ، وصديق الذين احتربوا مع الحياة فتطهروا من الدنية بالإقبال على الأخرى ، ورديف تعلم حرفة القتال خلف الأسوار ، وخدن الأمي الذي يمتلك الثقافة من جرائد الحائط ، ودليل العسكر إلى التنظيم ، وأنت قبل هذا وبعد هذا : روح ميسان.
وعندما يشرق تموز ، ويهبط على أرضنا ، من أهوارنا إلى جبالنا ، ينضج الرطب والرجال في العراق . وفي قيظ تموز تلتحف الصبية بجلدها ، فيتلقفها غرين دجلة ، وتدور الاستدارات حول نفسها ، لتظهر الصبية الميسانية محروقة بالحناء ، مميزة بالديرم ، تحمل بيسراها كتاب الخليقة ، وترفع بيمناها راية الأهوار.
وما بين ميسان والكوفة نضج تموزنا.
هو ذا تموزنا الذي عجنه الاشتياق الميساني إلى مصر ، وسوريا ، والمغرب ، والبحرين ، والشط الذي يحاور نفسه باستمرار ، فلا يختار إلا طريق البصرة وسيف علي ودبوس طلحة ، ليصب في هذا الترف المائي الأوسع : الخليج !
وهذا هو حبنا وما نملك : إنك لتدري أن دعاء الحرائر في غسق البساتين أكثر تدميراً من الطلقة .. وإنك لتعرف أن جسراً يمر على " المشرّح " ، يعكس نفسه في تطوان ، وأن عباءة ينسجها عرب السماوة ، سكنتها رائحة المتنبي وهو يبحث عن سر أبيه ، ويتعالى بعلو أجداده ، ويترفع برفعة نسبة وأصالة أرومته ، فيكفيه فخراً له أنه نشأ عند سور بناه إبراهيم الخليل ذات يوم ، وبعد أن رأى صنعته تدلل على صنيعه ، ارتكن إلى حائط ظليل وأخذ ينشد ويغني اغاني " تموز " التي تحولت إلى مزامير!.
حنانيك .. نفديك بماء العين ، ونمد قلوبنا بسطاً لمقدمك ونجمع دفاتر أشجار عائلاتنا ونكتب حكايتك ، ونأرق لأنك قسوت ، وتحمر عيوننا لأن الموج العاتي قذفك بعيداً عنا ، وندوخ ـ يا تموز ـ عندما نفكر قليلاً أننا ذات يوم فارقناك قليلاً.
للميسانيات شموخ العراق ، ولتموز في عربنا منبت كريم ، وللشجر الكريم على الشطَّين رائحة التاريخ عندما ينهض ، ملك ميساني من بين " العمارة " الخالدة ليعانق الشهداء ، ويهش على الجياد المنكسرة ويعاتب أبناء عاقين ، أو يسكب دمعة على أناس دفنوا في مقبرة جماعية!
يقبل تموز ، فتقبل الحياة ، ينضج رطبنا ، ويفور دجلة في الليل ، ويغادر المتنبي السيد المفازات الثلاث ، ويقول شعراً لم يقله رجل من ظهر أبيه.
يا لهذا الميساني سليل قلقامش إذ يحل اليوم ضيفاً على كل بيت.
الشارقة ـ 1980