الصاغة وظروف عملهم
تسارعَتْ عوامل التغيير الاقتصادي والاجتماعي في بلاد العرب مع الربع الأول من القرن العشرين بفعل تطبيق مؤامرة سايكس – بيكو الاستعمارية؛ وتضاعَفَتْ في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. وكان من نتائجها اختراق التغريب لثقافة ... تقاليد وأعراف ... وعمار وفنون ... مجتمعات المسلمين. ومن ذلك انحسار الحِرف والصناعات اليدوية. مما أثّر على طُرز العمار واللباس ... وكثير من بضائع الاستهلاك ... والمصاغ التقليدي الذي تقلّص استخدامه.
فحلّ تراث المسلمين كبضائع في أسواق الغرب؛ ونماذج في المتاحف والمجموعات الخاصة.
مما يشكل خطراً فادحاً على البُنية الاقتصادية، وعلى خصوصيّة ونمط تطور الحياة الاجتماعية، وعلى مستقبل الإحياء الشامل لثقافة المسلمين.
ومن أسس التغيير هذه، انفتاح عواصم وحواضر العرب والمسلمين على مختلف التأثيرات الخارجية المُدعّمة بالاعلام الغربي الكذاب، مُسَوِّق المؤامرات وبائع السرابات الحربائية ... وتوسُّع وتسارُع الاتصالات بين الناس. وتنوّع قواعد الانتاج بفعل استخدام المكننة والاستيراد. وتضاعُف حجم السكان. وتمدّد وزحف العواصم والحواضر والمدن والقرى ... وزيادتها ... وتكريس آلهة الأرض لتخلّف وتبعية واستغلال المستعمرات.
ونتيجة لذلك يقع الصائغ، كغيره من الحِرَفيين، في كمّاشة التراث والمعاصرة: التواصُل الابداعي المعاصر لثقافة المسلمين، والتغريب. ولم يجد الصائغ نفسه بعد في خضمّ هذا المعترك. حيث يميل الى التقاليد تارة؛ وتجذبه مظاهر وبريق التغريب تارة أخرى. فهو يعيل عائلة تتكون من أسرته، وربما جدّته وجدّه، ووالديه، وإخوته الصغار، ومَنْ تطلّق من أخواته، وترمّل من عمّاته وخالاته، ومَن معهم من أطفال ... في ظروف التضخُّم السريع وارتفاع تكاليف المعيشة. هذا من الناحية الاجتماعية والاقتصادية. أما في المجال التقني: فالحِرفي حائر ومتردِّد. اذ أن التقنيات التقليدية أضحت عاجزة أمام تيار العصرنة ... وتوسّع الاستهلاك باستخدام آلات ومكائن ومعدّات ومواد حديثة تتميّز بالمطاوعة في العمل، وتقلّص اليد العاملة، والسرعة والوَفْرة في الانتاج، والأسعار المناسبة ...
كما أنّ أغلب الحرفيين هم من ذوي الامكانات المادية المحدودة الذين لم تسمح لهم ظروفهم الاقتصادية على التوفير وتراكم رأس المال. وبالتالي ليس بمقدورهم فتح محال تجارية، أواقتناء المعدات التقنية الحديثة. لكنّ هناك قلة ممن استطاع شراء بعض الالات لتنفيذ جزء من العمل اليدوي. مما أوجد نمطاً جديداً من المصاغ: نصف مُصَنَّع، يتميّز بالمحافظة على بعض ملامح الصورة الفنية للمنتجات التقليدية.
هذا بجانب الملاحظات التي يُبديها المعلمون من الجيل القديم؛ ومنها ضعف مستوى الصنّاع الشباب، وسيطرة روح السهولة عليهم، ولهفتهم وراء الربح السريع بالعمل المستعجل المشوب أحياناً بالغش، وإهمال النُظم الايجابية التي كانت تحكم سِيرة الحِرف التقليدية ... وكذلك تطفّل عدد من الطارئين، وخاصة التجار، على ميادين وتقاليد الصَنْعة، وهم بعيدون عن فهم طبيعتها وإتقانها؛ فَيُخِلُّون بعلاقات الانتاج، ويُسيئون إلى جَوْدة المصنوعات.
بالاضافة الى ضُمور ظاهرة التعاون المباشر الذي كان يربط بين معلمين وصُنّاع من مهن مختلفة يشتركون في إنجاز عمل فني واحد، كما في المآثر القديمة ... ومنه تكامل التكوينات الزخرفية المعمارية من الجبس والخشب والفسيفساء والذهب والفضة ... التي أنتجها عدة فنانين في وحدة جمالية متميزة. وذلك على أفضل أمثلتها المعاصرة: مسجد الحسن الثاني في الدار البيضاء بالمملكة المغربية.
ويسري كلّ هذا وغيره في ظل تخلّف الدولة عن رسم استراتيجية مدروسة علمياً لتطوير الفنون الزخرفية الاسلامية، وتكوين وتدريب الحرفيين والفنيين، ورفع مستواهم الثقافي، وتهيئة الدراسات الواقعية للنهوض بقطاع الفنون والصناعات الحِرفية ... بالرغم من وجود تجارب جيدة كما في المغرب وتونس ومصر وتركيا وإيران وماليزيا ... التي أصبحت بعض منتجاتها الفنية تسدّ جزءً من احتياجات المجتمع، وتصدير بعضها الى الاسواق الخارجية. كما تنتشر أساليب العمارة المغربية التقليدية في بلدان غرب أفريقيا والخليج الاسلامي من خلال تشييد المساجد والقصور والمباني الادارية.
وباستثناء مؤسسات إنتاج المصوغات مثل الشركة المصرية لتجارة المعادن "سيجال "، و " مركز الحلي " بتزنيت في المغرب، و " أوناتا " في الجزائر .... وغيرها من مُجَمّعات للدولة فيها دَوْر بهذه الدرجة أو تلك ... هناك شركات خاصة تتركز عادة في العواصم والحواضر يقودها تجار أثرياء يقومون بكراء محلات العمل وتوفير المواد الخام والمعدات والاثاث ... ويستأجرون صاغة: معلمين وصنّاع للعمل فيها.
وتبقى أغلب ورش الصياغة عبارة عن محلات صغيرة ومحدودة لا يتعدى عدد العاملين فيها على خمسة اشخاص يقودهم معلم محترف. وقد يقتصر المحل على المعلم وحده.
ومن الصاغة المعاصرين مَن يعمل في داره، أو في دكاكين متناثرة، أو في " فنادق " ( الملكة المغربية )، و" وكالات " (في مصر) ... وأسواقا قد لا تتوفر فيها الشروط الصحية. منها مباني قديمة ينقصها الماء والكهرباء والمرافق الصحية، تتكون من طابق واحد أو إثنين تضمّ محلات لا يتجاوز مساحة الواحد منها عشرة أمتار مربعة، بعضها أشبه بالكهوف منفذها الوحيد الباب. وهي عرضة ليس للبرد والقيض فحسب وانما للحشرات الضارة كذلك. إضافة إلى الإزعاج الذي تُحدثه بعض هذه الصناعات للسكان المجاورين والتي تكون عبئاً إضافيا على الصُناع، ومنها منازعات تؤدي أحياناً اللجوء إلى القضاء ...
في مثل هذه الظروف الصعبة يعمل عدد من الصاغة. مما يدفعهم لدعم الصياغة بأعمال أخرى لضمان معيشتهم: فمنهم من يُمارس الصياغة والتجارة بتسويق التراث الصياغي القديم الذي يجلبه السماسرة والباعة المتجولون. وهناك صاغة آخرون يعملون دورياً في القرى والارياف، ويسافرون بين المستوطنات لاصلاح ما عطب من مصاغ لدى السكان، وبيع المصاغ الحديث، وشراء المصنوعات والحلي المعطوبة والقديمة .... وآخرون كالطوارق، والحدايدة ... كما في الجزائر وغرب أفريقيا يجوبون أرجاء المناطق الصحراوية والجبلية حاملين معداتهم البسيطة ينتجون مختلف المصنوعات اليدوية، ومنها الفضية.
ومن الحرفيين مَنْ يُمارس أكثر من عمل واحد: فبعض صاغة سوس في جنوب المغرب يعملون بالزراعة، ويبيعون إنتاجهم الفضي في الاسواق الاسبوعية والمواسم، أو في دكاكين الصاغة في القرى والمدن .
وكذلك الحال بالنسبة إلى عدد من الصناعات الاخرى، وخاصة الزرابي. إذ ربما لا يخلو منزل في وادي ميزاب ( وعاصمته مدينة غرداية، على بعد حوالي 600 كيلومترا الى الجنوب من الجزائر العاصمة ) من غرفة خاصة بالنسيج تُوَجَّه عادة نحو الجنوب والجنوب الغربي لكي تتسلم أكبر قسط من نور الشمس ولأطول فترة ممكنة من النهار.
كما يقوم بعض الصاغة بوظائف أخرى: تبديل العملة، وتأجير وبيع وشراء العقار، ورهن الحاجات الثمينة، وكراء الحلي لحفلات الأعراس ...
ومِنَ الصاغة مَنْ يفتح محلات في قرى مختارة ومدن صغيرة يديرها معلم غالباً ما يلتحق به أحد أفراد أسرته. إذ يستمر الطلب على الحلي الفضية في الارياف بفعل تواصل تقاليد التزين بها.
وإذا كان الصائغ المتجول ظاهرة معروفة داخل بلدان المسلمين، فان هناك من مهرة الصاغة، كالمغاربة والهنود ... الذين يجوبون مدن أوربا للسياحة والصياغة يُبهرون بمهاراتهم من يشاهدهم من الذين يقبلون على شراء منتجاتهم الجميلة بأثمان مناسِبة.
وبهذه الازدواجية الانتاجية يوازِن الصائغ مدخوله ويعوّض خسارته الناجمة عن كساد التجارة ...
ويتطعّم المشهد الصياغي المُتَقَدِّم بوجود المحال الحديثة. ومنها القيساريّات، خاصة في العواصم والحواضر، التي تُقدِّم فرصاً أفضل للعمل وتحقيق الأرباح. وهي ذات واجهات جذابة وفترينات أنيقة يغمرها الضوء، ومزودة بآلات حديثة ... وقد يكون في المحل كمبيوتر.
وبمقارنة الصاغة بغيرهم من الحرفيين العاملين في مختلف حقول الصناعة التقليدية كالخشب والجلود والزرابي والنسيج والنحاس والفخار ... من خلال بعض الدراسات التي أُجريت حول الوضع الراهن لقطاع الصياغة في المملكة المغربية، وُجِد بأن أغلب مراكز الصياغة تتركز في المدن، وبالتالي تكون أصول العاملين فيها حضرية، ونسبة أميتهم أقل: إذ لوحظ بين العاملين في الصياغة نسبة أمية " منخفضة " تبلغ 42% مقابل 60% في صناعة الجلود، و84% في صناعة السلالة، و 89% في الزرابي والنسيج، و83/ في النحاس.
وبالطبع، وللأسف، فإن نسبة الامية بين الاناث هي الأعلى في مختلف مجالات الانتاج .
ويعمل الصاغة في المتوسط ثماني ساعات في اليوم. وتكون أجورهم مرتفعة قياسا بالعاملين في باقي قطاعات الصناعات الفنية. وتقدَّر أجرة الصائغ في القرى والارياف بـ 25% من قيمة المواد الخام. بينما ترتفع في العواصم لتتعدّى أحياناً 300%. كما تعتمد أجرة الصائغ على إتقان وجمال العمل الصياغي: فالبنسبة إلى القلائد المنظومة تصل أجرته أدنى حدّ لها. لكنها ترتفع بالنسبه لنقش العُلَب والخناجر والمشابك ...
وتجدر الاشارة إلى مساهمة الاناث في الانتاج الفني في المنازل، مثل غزل الصوف، وصناعة الازرار الحريرية، والتطريز والخياطة، وصنع الزرابي والنسيج ... ونَظْم الحلي، كالقلائد والتيجان والعِصّابات ... حتى أن بعض القلائد تبقى مفتوحة الطرفين لتسهيل التغيير والاضافات باستمرار. حيث تضيف المرأة وتحذف المفردات الصياغية والمواد المصاحبة حسب ذوقها. وقد ينجم عن ذلك مُكوِّنات صياغية من مناطق مختلفة، بل متباعدة أحيانا. لكن تستطيع المرأة الحِرَفيّة بذوقها الابقاء على سيادة الروح التقليدية للمصوغة.
وهذه الظاهرة معروفة منذ القدم يقول فيها الشاعر النابغة الذبياني ( توفي عام 605 للميلاد ):
أخذ العذارى عِقدَها، فنَظَمْنَهُ، مِن لُؤلُؤٍ مُتتابِعٍ، مُتَسَرِّدِ
و للشاعر أعشى همدان ( توفي عام 83 للهجرة ):
أتحسب غزو الشام يوماً وحربه كبيض ينظمنَ الجُمان المفصّصا
وللنساء مساهمة أخرى في الصياغة، كما في تونس: دلّالات لبيع التراث الفضي بين العوائل. منها مصوغات يعرضها أصحابها للبيع دون اللجوء إلى المحلات التجارية. وخاصة زينة العروس من حلي وملابس مطروزة بالفضة والذهب قلما تحتاجها العروس بعد زفافها وتريد بيعها... ففي مثل هذه المُهمّات تقوم الدلاّلة بتسويق البضائع بين العوائل.
الصياغة
كباقي الفنون والحرف اليدوية يتعذّر معرفة مهد فنون الصياغة. وربما كان نحت الآلات الحجرية أولى التقنيات الصياغية التي تواصل توارثها وتطورها عبر العصور. فيأخذ الجيل التالي بالاضافة والحذف عما كان يتعامل به سلفه. ويبرز بين فترة وأخرى صاغة موهوبون يدفعون عجلة الصياغة بابتكار أشكال ونماذج وتقنيات غير معروفة.
والصياغة نشاط حيوي في البُنية الثقافية للمجتمع مهما كان مستواه الاقتصادي والثقافي. ولا يخلو بيتاً من المصاغ الذي يُزين حياة الانسان، خاصة في حفلات المهور والزواج. وتتلهّف النساء لاقتناء الحلي والتزيّن بها ... دائماً ... وفطرياً.
والصياغة فنّ فريد قَطَعَ رحلة طويلة تمتد آلاف السنين تَوارَثت الجمال والابداع والصبر. ومهما أصابَ الدمار المدن، وهاجم الصناعات وخرّب بعضها ... فان الصياغة تستمرّ ولو بتؤدة. فعمرها طويل، وزبائنها كُثّر، ومشجعيها وعشاقها متنوعون ... لذا لم ولن تغيب من وجدان الناس.
والصياغة من أكثر الفنون الزخرفية تعبيراً عن الذوق الفني للشعوب. ومن الحِرف اليدوية المرموقة، كأدقّ الصناعات الفنية وأجملها. حيث تتجزأ المصوغة إلى أقصى ما يمكن من الأجزاء فتبدو بعض تحفها وكأنها نسيج من الدانتيلا.
وتشتهر الأقاليم الاسلامية بانتاج المصوغات التي تمتاز بتعدد نماذجها، وتنوع زخارفها، وثراء لغتها الصياغية، وتميُّز صورتها الفنية
وينبهر زوّار المتاحف وأسواق الأنتيك بأفانين وجماليات المصوغات وأناقة الزخارف وبهاء الالوان. وسرعان مايتبادر إلى الذهن الجهود المضنية التي بذلها الصاغة في إخراج هذه التحف. هؤلاء الجنود المجهولون الذين لم ينقشوا أسمائهم على ما أبدعته أناملهم إلا نادراً. ولم ينصفهم التاريخ رغم دخول إنتاجهم التاريخ ... لكن بوصفهم حرفيين وليسوا فنانين.
فالفضة والذهب أو أي معدن أو مادة أخرى لا ثمن لها أكثر من سعرها كمادة خام. لكن ما أن تعمل فيها يد الصائغ حتى يظهر إلى الوجود مدلولا آخر هو قيمتها الجديدة كقطعة فنية تلج الحضارة والفن والجمال.
والصياغة عمل نادر يتعامل خلاله الصائغ مع الذهب والفضة والبلاتين والاحجار الكريمة والثمينة؛ وكلها مواد غالية ومقنّنة التوزيع مما يحتاج إلى حرص ومسؤولية وتفنّن ومهارة خاصة. لذا يفوق الصائغ الماهر والحاذق أقرانه في الحِرف الأخرى: فالصائغ أعلى ثقافةً وكفاءةً. وغالباً ما يعرف القراءة والكتابة. وهو أقل فوضى، وجو العمل الصياغي هاديء نسبياً، يشغل مساحة صغيرة، لا تُسمع فيه " موسيقى " أدوات العمل ...
ويعتمد فنّ الصياغة على الكدّ والمهارة ودقّة الملاحظة والقدرة على ابتكار تكوينات فنية جديدة. ولا طريق للحصول على هذه المؤهلات إلا عبر سنوات التدريب الطويل. لذا يجد البعض مهنة الصياغة قاسية لما تتطلبه من صفاء ذهن وقوة بصر وصبر ودقة واتقان وظروف شاقة للتعامل مع المعادن والنار ... وبعد سنين من التدريب والتجريب يجد الحرفي نفسه وهو يصوغ أحياناً دون وعي منه بالحركات الآلية التي أتقنها بالمراس.
وإذا سألتَ صائغاً ماهراً كيف يتسنّى له العمل المُتقن بدون نقش مُسبق؟ فانه سرعان ما يجيب بان النموذج مطبوع في دماغه، وما عليه الا تنفيذه. ومثل هذا الصائغ يأخذ على زميله الذي يعمل بنموذج " نَقْشَة " بأنه حديث عهد على " الصَنْعَة ". خاصة وأن أدنى خطأ في مسيرة العمل، كما هو الحال بالنسبة للنماذج المنقوشة، أوالمُخَرّمة ... يمكن أن يشوِّه المصوغة قيد الاخراج.
ويتعاون بعض الصناع فيما بينهم أحيانا لانتاج مصوغة ما. وذلك بتقسيم العمل تبعاً للاختصاص: كالقَطْع، والنَقْش، والتطعيم ... فهناك مَنْ يختص بتحضير شكل النموذج فقط، ثم يحوله إلى آخر لنقشه. وما أن يُنهي الثاني عمله حتى يُسلمه بدوره إلى مختص بتطعيم القطعة بالاحجار، أو توشيتها بالمينا. أو أن يصنع كل صائغ جزءً معيناً من المصوغة باعداد كبيرة ثم تُجمع هذه الاجزاء المختلفة لتركيب المصوغات بشكلها الكامل. ومن الصاغة من يتخصّص بنموذج معين من الصناعة كالاساور والحجول ....
وكان صاغة مدينة الجزائر يصنعون سبيكة من الفضة على شكل سلك غليظ قطره سنتمتراً واحداً يرسلونها إلى الصاغة والحدادين في أنحاء البلاد يُقَطِّعونها ويصنعون منها الأساور والخلاخل.
ويلاحظ في بعض الاحيان وجود مفردات زخرفية غير متجانسة في نموذج واحد. وربما يكون سبب ذلك مرور العمل بمرحلتين: صائغ اشتغل في فترة ما، وأعقبه آخر لاحقاً ... فأضافَ، أو حدّثَ. أو صانِعَيْن اشتغلا في إنجاز العمل: أحدهما متواضع الامكانيات وأدنى درجة من زميله المعلم الجيد.
لكن هناك من الصاغة الماهرين والحاذقين القادرين على تنفيذ مختلف الاشكال والنماذج والتقنيات دون الاستعانة بزملاء المهنة. فهم صاغة ومصمّمين ونحّاتين ورسّامين وفناني مينا في آن واحد.
ويزداد عجب الانسان إذا عرف بان انتاج روائع الصياغة نُفِّذَ بأدوات بدائية وتقنيات بسيطة. فالصاغة الموريتانيين مثلا، وبرغم بساطة تقنياتهم فانهم يُحولون المعدن الفضي إلى تحف ثمينة بفضل غِنَى خيالهم الذي يصبّونه في الأشكال والزخارف والنقوش والخطوط. فمفرداتهم الصياغية محدودة وتعتمد على الاشكال الهندسية، كالمثلث والمعين والمربع والدائرة والنجمة والحلزون ... إضافة إلى الخطوط المستقيمة والمتعرجة. غير أن إبداعهم يتمثل بمهارة وجمالية تنظيم هذه المفردات وتجاورها وضبط نسبها.
كما يلاحظ في المنتجات الحديثة مفردات غريبة عن التراث المحلي. وهذا الباب ذو نتائج متنوعة: كسهولة إنتقال الأساليب الصياغية ومفرداتها بين البلدان. و التأثير السلبي على صورة الطراز المحلي المتميز. وربما يكون الصائغ من الحذق بحيث يستفيد من بعض مفردات الصياغة لاقليم آخر فيُعشِّقها باسلوب شيق ممتاز من شانه تجديد تراثه. وهو أمر من سُنّة التطور. فهناك صاغة يقودون الموضة، وآخرون يكررون ويَنْقلون، وفريق ثالث يأخذه خياله إلى إستيحاء المبدأ وابتكار نماذج جديدة ومُغايِرَة.
ويختلف إخراج نفس المصوغة بين صائغ وآخر تبعاً لمهارة كل منهم وخلفيّته وتكوينه. حتى أن نفس النموذج يكون " ميّت " الحركة عند صائغ ما، وغنيّ ومتميّز لدى آخر. ويظهر ذلك بشكل خاص عند المقارنة بين المجموعات الصياغية النمطية التي تتضمن أشكالا مختلفة لنفس النموذج، نفّذها صاغة متمايزون في مواهبهم ومعارفهم وتقنياتهم وأذواقهم.
وبذلك تعتمد أهمية المصوغات على عوامل عدة، مثل علو عيار المعدن النفيس، وكثافة العمل اليدوي، وجودة التنفيذ، وندرة وفرادة المصوغة... وتميّز صورتها الفنية ...
فهذا الفن والسحر والجمال جاء نتيجة لأيام وشهور من العمل الصبور الدؤوب. حتى أن الانسان حينما يعجب لجودة بضاعة ما يقول: كأنها مصوغة ... مُصاغة صياغة.
كيف يحصل الصاغة على الفضّة؟
يحصل الصاغة على الفضّة غالباً من إذابة الحلي القديمة، أو المسكوكات المحلية والاجنبية المستخدمة في الاقاليم الاسلامية المختلفة تبعاً لاستعمارها: ففي شبه الجزيزة العربية هناك مسكوكة " ثالر مارياتريزا ". وفي بلدان المغرب النقود الفرنسية والاسبانية. وفي الشرق الاوسط العملات العثمانية والانجليزية ...
كما تُستورد الفضة كسبائك من أوربا، أو أمريكا، أو الصين ... فيحصل عليها الصاغة من البنك المركزي في بلدهم. ولكل صائغ استحقاقه المقرّر حسب إجازته.
وتباع الفضة بأشكال متعددة: سبائك، أسلاك، قضبان، صفائح ... بسُمك وشكل وحجم متنوّع.
وتُوفِّرالدولة، الغنيّة بمناجم الفضة، مثل السعودية والمغرب، المعدن في الاسواق.
ويتحدّد سعر المعادن النفيسة يومياً على النطاق العالمي. ويؤثر في السعر عوامل عديدة ... منها العرض والطلب. وما تطرحه الدول المُنتجة أو المحتفظة بالمعادن النفيسة في خزائنها، كاحتياطي للاقتصاد الوطني والعُملة المحلية. إلى جانب المناورات السياسية والجيوستراتيجية العالمية ذات الدور الكبير في تذبذب أسعار الذهب والفضة.