الصائغُ والصياغةُ ونظامُ الحِسْبَة ( 3)

2015-10-17
الصائغ والصياغة في نظام الحِسبة
 
الحِسبة نظام للتعاون والعدل والميزان قنّنه حكّام المسلمين وأسندوا مهام إدارته إلى المُحتسب. ويُدعى كذلك " متولي الحِسبة "، أو " صاحب السوق "، أو " العامل على السوق ".
يُمَثِّل المُحتسب الدولة ويستمدّ سلطاته الواسعة من الحاكم، أو محافظ " باشا "، " عامل " المدينة. إذ كان العامل على السوق يُعينه الخليفة في العاصمة، والولاة في الامصار .

ومنذ فجر الاسلام عهد النبي الكريم إلى سعد بن سعيد بن العاص مهمة الاشراف على أسواق مكّة بعد الفتح. وإلى عمر بن الخطاب في المدينة. فكان يطوف الاسواق لتفقّد أحوالها بنفسه. وشوهد ذات مرّة وهو يضرب جمّالا ويقول له ( حمّلْتَ جملك مالا يطيق ) . كما مارس علي بن أبي طالب بنفسه الرقابة على الاسواق. وكان كثير التأكيد على التجار ألا يظلموا الناس، وألا يغشوا بالكيل والميزان. وحذا حذوهم الصحابة الذين كانوا يراقبون الاسواق طلباً للثواب وحفاظاً على مصالح الناس. وكذلك بعض الحكام المسلمين مثل هارون الرشيد الذي لم يكن ليكتفي بما يعهد به إلى المُحتسب والامناء، بل يطوف أسواق بغداد يتفقّدها بنفسه متخفياً أحياناً بزيّ التُجّار.
وفي عهد الخليفة عمر بن الخطاب، بدأت الرقابة على الاسواق تتطوّر تدريجياً وتأخذ أشكالها التنظيمية. إذ سُمِّي رقيب السوق بـ " العامل على السوق ". واحتل المنصب آنئذ السائب بن زيد. وهناك اشارة إلى عامل سوق المدينة في عهد الخليفة عثمان. وعامل سوق البصرة في ولاية زياد بن أبيه.

وبازدهار الاقتصاد أصبح نظام الحِسبة رسمياً في العهد الاموي في مطلع القرن الثاني للهجرة حيث كان مهدي بن عبد الرحمن، ومن بعده أياس بن معاوية مُحْتَسِبَين في واسط في زمن يزيد بن هبيرة عامل مدينة واسط من قبل يزيد الثاني بن عبد الملك. ثم عُرفت الحِسبة في الكوفة.
وكانت الدولة تهتم كثيراً بمؤسسة الحِسبة كإحدى واجهاتها الرئيسية لعلاقتها واتصالها المباشر مع الناس. لذا كان جهاز الحِسبة كبيراً وتُرصد له أموالا ضخمة . 
وبمرور الزمن نُظِّمت طرق الاشراف على الاسواق وتطورت وظيفة الحِسبة ومهام المُحتسب كمنصب ديني وأخلاقي واقتصادي حتى أضحى من أهم المناصب في الدولة العباسية في القرن الرابع للهجرة/ العاشر للميلاد.
ولخطورة منصب المُحتسب وحيويته كان " رئيس الدولة " يُصدر بشأنه مرسوماً: " ظهيراً " خاصاً بتعيين المُحتسب يُعَمّم على الناس بوسائل عديدة أهمها منابر الجوامع. 
وتُسند الحِسبة عادة إلى أناس أقوياء وذوي مهابة خاصة ومن سُراة القوم ووجوه المسلمين، ذوي سلوك حسن وأخلاق فاضلة ونفس قوية ونظيفة بعيدة عن الموبقات كالرشوة، ويُعرفون بالعدل ... أمناء لا يظلمون أحداً، ومحل ثقة الحاكم والناس بِعِلْمِهِم وتديّنهم وسلوكهم.

والمُحتسب يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر حسبما جاء في النص القرآني:
- " وَلْتَكُنْ مِنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ ".  
ويؤكد ذلك الرسول الكريم في احاديثه:
-  " من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فان لم يستطع فبلسانه، فان لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الايمان "؛
- " لا تزال أمتي بخير، ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البر، فاذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات، وسلط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الارض ولا في السماء ".
 وأمر الله تعالى التعامل في المال بالحق لا بالباطل. ومن ذلك ضبط الموازين والمكاييل والامانة فيهما:
-  " وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُون ... "؛
- " وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ".
ومن السنة النبوية الشريفة:
- " مَنْ غشّ ليس منّا "؛
- " إنّ الله يحبُّ إذا عمل أحدكم عملا أن يُتقنه ".

وللمُحتسب سلطة مهمة في تحقيق العدل، وضمان حقوق وواجبات جميع العاملين، ورعاية أصحاب الحِرف والصناعات والتجارة والعقارات، والحكم في الخلافات التي كانت تنشأ بين أصحاب الحرف والتوفيق حُبِيّا في النزاعات الناشئة بين التجار والمعلمين والصناع والمتعلمين والمستهلكين ... حتى أن الدولة منحت للمُحتسب سلطات تنفيذية، فكان يملك حق الاتهام، وباستطاعته ايقاع عقوبات ( التعزير)، أي الضرب والغرامة المالية والنفي ... بالمطففين والمتلاعبين من الباعة.
وإذا اقتضى الامر فمن حق المُحتسب حَبْس من يخرج على أفراد المهنة والتقاليد العامة. رغم أن هناك تبايناً بين دَوْر كل من المحتسب والقاضي: فالاول، يشرف ويراقب ويلاحظ القضايا الظاهرة والواضحة ويصدر بشأنها أحكاما تأديبية دون حاجة إلى شهود ومحكمة ومرافعات مما يدخل في دور ومهام القاضي. إذ أن من صفات المُحتسب أن يكون " من أهل الاجتهاد العرفي دون الشرعي".

يقوم المُحتسب بمهامِّه بواسطة مساعدين وحُراس تطبيقاً للحديث الشريف: " استعينوا على الصَنْعة بصالح من أهلها "؛ مثل أبو حنيفة الذي عُيِّن عريفاً للحاكم. فقد كان في حداثته يبيع الخِزّ في سوق الكوفة.
 ويُذكر أنه حينما توسّعت مدينة بغداد، وتعدّدت أسواقها، وازدهرت تجارتها، تجمّع الحرفيون من كل صنف في سوق خاصة بهم. و صار من الضروري على المُحتسب الاستعانة ببعض المهنيين لمساعدته في أداء مهامه. فرأسَ كل صنعة أميناً محيطاً بشؤون تلك المهنة ومحلّ ثقة العاملين فيها، يشرف على أحوال الصناع وطرق تعاملهم مع الناس، ويفحص المصنوعات بدقة لتلافي الغش، ويُبلِّغ المُحتسب بأخبار ذوي المهن وبضائعهم وأسعارهم ومايكتشفه من زيف لاتخاذ الاحكام اللازمة بحقهم. 
فعِبْر أمين الصاغة مثلا، يقوم المُحتسب بمهامه في حقل الصياغة. فأمين" شيخ "، " رئيس "، " عريف " الصاغة يُنتخب من قبل المعلمين ويتم إعتماده بعد موافقة المُحتسب. ويرأس الامين مجموعة الصاغة المعلمين ويُعتبر بمثابة رئيسهم النقابي. ويكون من التُقاة المعروفين بالصدق في التعامل التجاري وله منزلة واحترام خاص بين زملائه. ويُفضل أن يكون من بين أمهر الصاغة لكي يتمكن من القيام بمهامه التقنية والفنية. ومنها وسم المصنوعات من المعادن النفيسة.

تشعُّبت اختصاصات مُحتسب بغداد الاقتصادية والاجتماعية والمهنية لتشمل: رقابة الدولة على اتّساع الاسواق وتنظيم ممرّاتها، وإلزام الباعة اتخاذ الاوزان المختومة، ومنع احتكار المواد وخاصة الغذائية، وتنظيم شؤون ممارسة كل مهنة من الجزار إلى الطباخ والصيدلي والحائك والخياط ... مرورا بامتحان الاطباء ليجيز لهم ممارسة المهنة، ويأخذ عليهم العهد بعدم الاضرار بالمرضى ... وحماية المستهلكين من الاستغلال والغش، والسهر على توفير منتجات مفيدة ومتقنة وجميلة إلى الناس ... بموجب تشريعات يلتزم بها الصناع سواء بالنسبه إلى الانتاج أم عند البيع والشراء.
ومن مهام المُحتسب مراقبة جودة الانتاج وتوافر المواصفات المقررة في القوانين، أو المتعارف عليها مهنياً، والتحقق من أسعار المواد الخام والمنتجات.
واهتم المحتسب بشكل خاص بمراقبة دار الضرب وتثبيت إسم الخليفة على ما يُسك من نقود بالذهب والفضة. ومراقبة الصيارفة وتفقد أسواقهم ومنعهم من ترويج العملات المزيفة ... 
وامتدت هذه المسؤوليات لتشمل جباية الضرائب، والاشراف على سوق الرقيق ... ومراقبة درجة إهلاك المباني لحفظ السابلة من تداعيها ...
كما يعمل المُحتسب على المحافظة على النظافة والصحة العامة في الطرق والساحات والاسواق والاماكن التجارية والمهنية. والاشراف على المساجد والمباني الدينية والحمامات والفنادق والرقابة على الاخلاق العامة فيها، ومنها السلوك العام، وترويج المسكرات، وأعمال السحر والشعوذة ... والموضة وأزياء النساء ...
ويشرف المحتسب على تعليم الصغار وحمايتهم من تعسُّف المعلمين.  ويقوم بالنظر في ترقية الصناع والتلاميذ إلى معلمين. اذ يترأس الامين اجتماعاً خاصاً يحضره مجموعة من المعلمين الاكفاء الذين يشهدون على مدى جدارة الصناع والتلاميذ وأحقيتهم في الترقية تبعا للشروط اللازمة. ومنها تقديم نماذج من براعتهم إلى الحاضرين الذين يأخذون في حكمهم على الصانع والتلميذ سلوكه  وعلاقاته الاجتماعية.
 وما أنْ ينجح التلميذ المتدرِّب ويحصل على لقب صانع حتى يستطيع أن يفتح محلاً خاصاً به، فيتدرّج في المهنة تبعاً لقابلياته وسلوكه. وهو ترفيع مهم في حياة الحرفيين. لذلك كان يُقام وسط احتفال بهيج تُتلى فيه الفاتحة وتُنشد الامداح النبوية. وفي هذا الاحتفال يُقدِّم الصانع تعهداً شرفياً بالالتزام بأخلاقيات المهنة وعدم الخروج عنها والاخلاص لأعراف الطائفة التي ينضوي تحت لوائها.
 وأشار الحسن الوزاني الفاسي ( ليون الأفريقي، من القرن السادس عشر )  خلال زيارته للقاهرة، إلى ما كان عليه أهل الصَنْعة من ترابط وثيق فيما بينهم، ومن افتخار بالمجددين والمُبتكرين وتشجيعم ... فيقول: " واذا اتفق أن أحد الصناع أنجز في حرفته عملا جيداً مُبتكراً لم يسبق أن شوهد له مثيل، ألبسوه سترة من ديباج وطافوا به من دكان إلى دكان مصحوبا بالموسيقيين في شبه جولة المنتصرين، وأعطاه كل واحد شيئا من المال ...."
وفي عهد المُحتسب لم يكن هناك وسطاء في البيع والشراء. إذ يصحب الوسطاء الغش والتدليس، وخسارة الصانع من الارباح، والحاق الضرر بالمشتري نتيجة ارتفاع سعر البضاعة. فكانت الصلة بين الصانع والمستهلك مباشرة.
 ولم يكن المحتسب ليصبر على احتكار البضائع بعد أن نهى الرسول الكريم عن الاحتكار:
- " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون "؛
- " من جلب طعاماً فباعه بسعر يومه، فكأنما تصدّق به "؛
- " إثنان لا تقربهما: الشرك بالله والإضرار بالناس ". 
وللامام علي بن أبي طالب:
- " إمنع الاحتكار، واعتن بالمساكين والمحتاجين ... ".
ففي المعاملات التجارية حرّم الاسلام الربا واعتبره من أشد المنكرات. إذ قال تعالى: " يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة ". فالربا هو استرجاع الدَيْن مع الأرباح، مما قد يؤدي الى إفلاس المَدِيْن وتدمير حياته. بينما يثرى صاحب رأس المال طُفيلياً دون قيامه بعمل منتج صالح. فالربا عمل شرير تقوم عليه أنظمة البنوك وتستفيد منه آلهة الأرض عُبّاد المال الجشعين.
 
استمرّ المحتسب بممارسة مهامه في مصر حتى عهد محمد علي باشا ( حَكَمَ مصر بين عامي 1805 – 1848 ). ولا يزال المحتسب يمارس بعض مهامه في أسواق الاندلس. إذ احتفظ حكام اسبانيا بدوره ... بينما زال نظام الحِسبة من بلدان المسلمين نتيجة تراجع ثقافتهم واختراقهم بالتغريب.
وفي المملكة المغربية، مثلا اختفى نظام الحسبة بتأثير الاستعمار الفرنسي. لكنه في عام  1982م صدر قانون رسمي تقرّر بموجبه عودة مؤسسة الحِسْبة بنظام يلتقي في عدة أوجه مع ما كان سائدا قبل الاستعمار.

إنه في ذاك الزمن من تطور ثقافة المسلمين ... عندما كان الفن بفوائده وجمالياته يحيط الانسان في المدينة التي يسكنها، وفي المنزل الذي يقطنه ... حتى حلّ سوء التغريب وفنون الحداثة العبثية لتدمِّر النظام المتوازن والمفيد والجميل، وتحيط الانسان بالقبح والقلق والاستلاب واللاإنتماء والعدمية والابتذال ...
وأمام شقاوة العولمة الوحشية بقيادة الولايات المتحدة العسكرية التجسسية فإن للفن الاسلامي مهام مفيدة وجميلة ومعاصرة بالابداع والتجديد والابتكار والحفاظ على فرادة الصورة الفنية الاسلامية: بداية من إحياء الفنون والصناعات الحِرفية: فائدة وجمالا: فائدة مهمة للاقتصاد: التشغيل، واستغلال المواد الخام المحلية، واستخدام التقنية المعاصرة ... وعودة معاصِرة الى جماليات مُتجذِّرة الأحاسيس في مجتمعات المسلمين.
فالحِرف والصناعات الفنية التقليدية ليست تراثاً مضى ولا علاقة له بالحاضر والمستقبل، بل ثقافة تواصَلَت قروناً، ولها فائدة الحاضر وأفق المستقبل المضيء بما تقدمه من مجالات اقتصادية واجتماعية وثقافية وفنية وجمالية.
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/567e0e07-87de-4038-831c-22ab4ca384d4.jpeg

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved