عبد العزيز ابن عبد الجليل
يبدو اقتراح دراسة العلاقات بين شيئين متناقضين أمرا بمثابة تحدٍّ؛ ومع ذلك فقد تأكد وجود علاقة بين الطب والموسيقى جمعت بينهما منذ فجر التاريخ ووثقت صلتهما بروابط قوية راسخة؛ فهل هي محض صدفة عارضةلا؟
لنطرح السؤالين التاليين": ما هي دلائل الوحدة بين الطب والموسيقى؟ ثم كيف تمت الوحدة بينهمالا؟
تكمن خلف الإجابة عن السؤال الأول - في رأينا - خمسة أسباب رئيسة :
أولها، ذو طبيعة عملية، ذلك أننا تحت تأثير المتاعب التي تفرضها مهنة الطب الشاقة، ومن أجل الحفاظ على صحتنا وعلى سلامة مرضانا قد نجد أنفسنا في حاجة إلى أن نتوقف لفترات عن العمل؛ ذات يوم فوجئ باستور وهو منهمك في قراءة إحدى روايات الكاتب الفرنسي كزافييه دومونتبان Xavier de Montépin، فلما سئل قال: أخضع دماغي للحمية. إنها الحاجة إلى الاسترخاء التام. ولا غرو فكثير هم الأطباء الذين يدرسون الأدب، ويجيدون الكتابة الأدبية، ويجدون في ممارستها مرصدا رائعا لعلم النفس؛ غير أني آخذ على الأدب المعاصر جنوحه القوي إلى استعارة موضوعاته من طب الأمراض النفسية.
إن أفضل راحة يستشعرها المرء من عمله المتعب هي التي يجدها في عمل آخر شريطة أن يكون مختلفا عن الأول تمام الإختلاف .
أستسمحكم إن أنا أعلنت عن هذا السر: يجب أن نمارس نحن الأطباء استرخاءنا الموسيقي بعيدا عن أعين الناس، وذلك بسبب سوء الظن الذي يلاحقنا من طرف بعض زبنائنا لاعتقادهم السخيف أن أي طبيب يدعي معرفة بالموسيقى أو الشعر لا يمكن إلا أن يكون طبيبا فاشلا، وأنه كان أحرى به أن يحصر اهتمامه في العناية بمرضاه ليلا ونهارا دون توقف أو تراخ، وأنه - وهنا تعلن الكلمة الرهيبة - هاوٍ، يمارس الطب كهواية .
ليس هناك وصف هو أشد خطأ ولا أكثر أذى من هذه الكلمة. وللتدليل على ذلك ننتقل إلى السبب الثاني، وهو السبب الأخلاقي. إن الطبيب لا يجد في الموسيقى فضاء للتخلص من تعبه فحسب، بل للسمو بنفسه كذلك. ونحن هنا نساند القول بأن الطبيب الذي يدرس الموسيقى - أو أي فن آخر - يهذب إحساسه الجمالي، ويوسع قدراته العقلية، ويرفع من درجة إحساسه ووعيه. وقد كتب كلود برنار Claude Bernard الطبيب الفرنسي المتخصص في علم الأحياء ذات يوم فقال: لقد ولدت الموسيقى ذات يوم من الإحساس بالحنان. وعلى الرغم من القوانين الاجتماعية المتزايدة التعقيد، وتراكم الوثائق الخانقة، على الرغم من كل هذه الأشياء التي قد تكون علامة على التقدم - والتي تتمثل نتيجتها الأكثر جلاء في تدمير الانسجام الحميمي الذي كان قائما بين المريض والطبيب - يأبى جورج دوهاميل Georges Duhamel الطبيب، والكاتب، والشاعر الفرنسي عضو أكاديمية اللغة الفرنسية في أربعينيات القرن السابق إلا أن يؤكد "أن الطب الجيد والحقيقي كان دائما - وسيبقى - نابعا من القلب" .
ومن الواضح أن الدكتور دوهاميل قد ألقى الضوء على إحدى العظائم التي هي في نفس الوقت من مآسي مهنتنا. يقول في هذا الصدد: عندما نشاهد - نحن الأطباء - الإنسان يعيش متألما، فإننا غالبا ما نجنح إلى القول بأنه هش البنية. ذلك لأن فكرة الكمال تشكل واحدة من هواجس فكرنا القلق؛ وبالرغم من التقدم الهائل الذي تحقق في الطب خلال القرن الماضي، والذي أصبح مذهلا على مدار العقدين الماضيين لدرجة تحملنا على تشبيهه بالأسطورة، فإن "علمنا" - للأسف - ما يزال ناقصا مشحونا بالتخمين إلى حد بعيد .
الموسيقى فن كامل بامتياز، وهي لغة تستطيع بغناها وبساطتها أن تعبر عن كل شيء .
أي شيء هو أفضل للطبيب الذي يعود إلى بيته منهكا محبطا بمشهد الجنون والإهمال والغباء من الاستماع لـ "نشيد الفرح" الذي يختتم به بيتهوفَن سمفونيته التاسعة؟ لقد كان بيتهوفَن أكثر من مجرد موسيقي وشاعر، إنه واحد من أعظم الفلاسفة الذين وطئت أقدامهم أرضنا، وعلينا أن نصدقه حين قال: من يفهم موسيقاي فسوف ينجو من بؤس هذا العالم.
إليكم الآن ثالث الأسباب التي توثق اتحاد الطب والموسيقى: كلاهما فن مؤسس على علوم يتعين الإلمام بها لتحقيق التعبير الجمالي من خلال تركيبها .
أما الموسيقى فهي ترتكز على أربعة علوم أساسية من الضروري دراستها على الرغم من طبيعتها الجافة، هي: علم تآلف الأصوات (الهارمونيHarmonie )، وعلم التسلسل النغمي (الفوجاFugue )، وعلم الطباق اللحني (الكوتروبوان (Contrepoint، وعلم التوزيع الموسيقي ( (Orchestration.
ولا سبيل إلى التمرس بهذه العلوم إلا بعد سنوات من الجهد الدراسي، حينئذ يستطيع المؤلف الموسيقي أن يقتعد كرسي عمله، أو أن يجلس إلى آلة البيانو ليكتب مدونة موسيقية يعبر بفنه من خلالها عن ذاته .
وأما الطب فكثيرة هي المناقشات والدراسات التي عقدت دونما جدوى لتقرير ما إذا كان علما أو فنا. والواقع أنه - كالموسيقى - علم وفن معا. فهو علم بالنظر إلى قواعده الأساسية، وهي علم التشريح، وعلم وظائف الأعضاء، وعلم الكيمياء الطبية، وعلم الطب الباطني، وعلم العلاج. وهو فن بالنظر إلى ترتيب جميع العناصر التي تم جمعها أثناء فحص المريض للوصول إلى التشخيص، ثم إلى العلاج. وهكذا ودون اللجوء إلى الأشعة السينية ولا الفحوصات الكهربائية نجحت الدكتورة كرستين بابينسكي Kristen J. Babinski - اعتمادا على أعراض المرض - في تشخيص ورم في النخاع الشوكي مع التحديد الدقيق لموقعه وحجمه عند مريض مصاب بالشلل في الأطراف السفلية .
ننتقل الآن إلى السبب الرابع. إنه ذو طبيعة علمية، وهو الوحدة الإيقاعية
ما الموسيقى؟ هي عند الباحث الموسيقي الفرنسي جول كومباريو Jules Combarieu "فن التفكير بالأصوات". الطبيعة لا تمنحنا أصواتا، بل تمنحنا ضوضاء كدويِّ الصواعق، ودمدمة الرياح، وهدير الأمواج والسيول؛ غير أن هذه الضوضاء تتحول إلى أصوات بفعل قوانين الفيزياء الصوتية. وستظل هذه الأصوات دون أثر في غياب الإيقاع الذي يشكل العنصر الأساسي للموسيقى .
الإيقاع أساس حياة جسومنا، وكل شيء فينا إيقاع كالتنفس، ودقات القلب. وحركةُ السير هي أيضا إيقاعية. يقول هاملت: النبض يوقع الميزان الموسيقي. علينا أن نتأمل بين لحظة وأخرى في الإيقاع العجيب الذي ينشط الدورة الدموية، وأن نتدبر في محركه، هذا القلب الذي ينبض ثمانين مرة في الدقيقة دون توقف، على مدار الجديدين (الليل والنهار) وحتى قبل قدومنا إلى العالم يوم كان يخفق مائة وأربعين مرة في الدقيقة في رحم الأم، ولا يتوقف عن النبض إلا إذا آذن بالفناء. فهل في الآلات الميكانيكية الصناعية أدق وأجمل وأعجب من هذا الإيقاع ؟
يعتبر القلب في الطب الصيني الذي يعود إلى عشرات القرون بمثابة آلة وترية، وتسمح نبضات الشرايين بتشخيص الأمراض ذات الأهمية الكبرى. إنه أساس العلاج بوخز الإبر .
كل شيء في جسومنا خاضع للإيقاع، سواء في حركة الغدد أم في مكونات الجهاز الهضمي.
النوم الذي يشغل من حياتنا ثلث مدتها هو أيضا خاضع للإيقاع. وقديما ابتعث بعض الأطباء في مرضاهم رغبة النوم بواسطة اهتزازات الديابازون. وهذه ترانيم تراثنا الشعبية يدعو إيقاعها المترنح إلى النوم.
وإذا تركنا الإنسان السليم، وانتقلنا إلى المريض فسنلاحظ أن المرض هو أيضا إيقاع، ولكن مع اختلال في التوازن. ففي الحمى إيقاع: تبدو أعراضها آنا، ثم تختفي، ثم تعود للظهور، كل ذلك في شكل انتظام غريب. ونحن نرى في كل يوم مرضى مصابين بالنقرس والربو والإكَزيما وداء السل الرئوي، تنتابهم نوبات المرض في فترات معينة من السنة.
وإذا كان المرض اختلالا في التوازن وجب أن يكون الشفاء بمثابة عودة إلى النظام واستعادة للانسجام. كانت هذه خلاصة أعمال البروفيسور شارل نيكولCharles Nicolle أحد كبار الأطباء المعاصرين.
وقد عرف البروفيسور لوويبير Loeper الموسيقى في دراسة له بعنوان " الموسيقيون أمام الطب" بأنها "لغة الآلهة، وحديث الملائكة، وذبذبات الطبيعة، واهتزازات الإنسان الطبيعية" .
ننتقل الآن إلى خامس الأسباب التي توثق صلة الموسيقى بالطب: إنه التاريخ. ولنبدأ بالعصور الميثولوجية يوم كان كبار الشعراء يتغنون بآبولون Apollonإله الشعر والموسيقى. وكسائر الآلهة فقد كان أبولون شديد الشراسة، بلغ ذات يوم أقصى درجاتها في طريقة انتقامه من مارسياس Marsyas إله فريجيا الذي تحداه في العزف على القيثارة. وقد كان أبولون طبيبا، بل طبيبا مولدا، بلغه ذات يوم نبأ خيانة خليلته الحورية كارونيس Caronis، فقتل خليلها، ثم أقبل عليها فشق بطنها وانتزع منه الجنين .
ارتبطت الموسيقى بالطب والسحر منذ فجر التاريخ، وقد أظهرت الكشوفات الحديثة في الجيزة والفيوم بمصر الفرعونية مدى قوة هذا الترابط . أما في أرض اليونان القديمة فقد كان الكهنة يعالجون مرضاهم بواسطة التعزيم السحري، وهو سلوك كهنوتي بدائي كان موجودا في قسم "أبوقراط". ثم ظهر فيثاغورس قبل المسيح بنحو ستة قرون، فنشر بين تلامذته آراءه التي أعلن فيها عن كونية الإيقاع والأمواج، وقابل إيقاع الأفلاك بالأبعاد الموسيقية. وقد أوضح المؤلف والمنظر الموسيقي الفرنسي جان أوري Jean Huré في كتابه "جمالية الأرغن" L'Esthétique de l'orgue أن قوانين فيثاغورس التي تحكم الكون كامنة في النظام الصوتي لهذه الآلة. ومن جهته بين المؤرخ والمؤلف الموسيقي جيروم كاركوبِّينو Jérome Carcopino في كتابه فَيرجيل Virgile كيف أن فيثاغورس بنى على العلاقة القائمة بين الأعداد والأصوات الموسيقية نظاما رياضيا وفلسفيا كان موضوع شروح من طرف الفلاسفة .
كان فيثاغورس فيلسوفا وشاعرا، أسس علم الصوتيات الحديثة وفق نظريات ما انفكت قائمة باعتبارها أساس السلم الموسيقي الحالي؛ مثلما كان طبيبا تشكل الصحة - كحالة للتوازن - أساس أفكاره، ومن ثم كان يقدم لمرضاه "وصفات موسيقية".
ومع أبوقراط الذي توفي عام 380 ق.م.نجد أنفسنا في فضاء تاريخي أكثر غنى، فقد فصل الطب عن السحر، ووضعه على السكة المثلى التي هي الملاحظة، كما درس بعمق أثر الموسيقى على أجسامنا، ومدى استفادتنا منها. وما يزال الطب الحديث بالرغم من مبتكراته الغنية يجد في منجزاته منجما غنيا بالملاحظات والنصائح .
كان أبو قراط يعير أهمية كبرى للرقم (7)، فهو يقسم حياة البشر إلى سبعة أعمار؛ وهذه نظرية يبدو أنها تتطابق مع الحقيقة التي أكدتها الدراسات المتعلقة بعلم وظائف الأعضاء وعلم الطب الباطني. أليس السلم الموسيقي قائما على سبع درجات ؟
وهذا أفلاطون (400 ق.م.) يعلم طلبته أن الموسيقى ينبغي أن يتجاوز دورها إمتاع الناس إلى السمو بأرواحهم. وإذا كان في كتابه "الجمهورية" - حيث وضع أسس المدينة الفاضلة - قد أظهر بعض الحيطة من الشعراء، فإنه على النقيض من ذلك منح للموسيقيين كامل ثقته .
ثم هذا أرسطو، يمنح بدوره الإيقاع والأصوات المرتفعة وظيفة أخلاقية. وعلى الرغم من أننا نجهل الكثير عن واقع الموسيقى في العصور العتيقة، فإن هناك حقيقتين لا يتسرب الشك إليهما :
أولاهما دور الموسيقى في الحياة اليومية، حيث كانت تشكل إلى جانب الرياضة البدنية العنصرين الأساسيين للتربية. يقول أفلاطون في حواره مع تلميذه "غلوكون": "يجب القول إن الجمناستيك (الرياضة البدنية) تراد لترقية العنصر الحماسي في طبيعتنا، كما تُراد الموسيقى لترقية العنصر الفلسفي" .
أما الحقيقة الثانية فهي أن الموسيقى لم تكن بدائية ساذجة، فقد كانت تقوم على الآلات ولاسيما النايات والخشبيات. ولعلها أن تكون أولى وسائل التعبير التي استخدمها الإنسان للتواصل مع غيره، فكان النقر على القطع الخشبية أو على الجلود الموَتَّرة أول ما عبر به عن قلقه وانفعالاته أمام لَغزَي الحياة والموت. وهكذا عاصر الإيقاع صرخات الإنسان وصيحاته وهي يومئذ عارية عن الكلمات، وهكذا أيضا تأكد أن الموسيقى سبقت الكلام إلى الوجود .
ولقد كان الطب الإغريقي على مستوى كبير من الروعة، وكان الطبيب الإغريقي (إيراسيسترات Erasistrate الذي عاش سنة 330 ق.م. على وشك أن يكتشف الدورة الدموية؛ وهو الذي أعلن أن سائر الأدوية سموم، وكان يعالج مرضاه عن طريق الاستماع إلى الموسيقى خلال الحمية أو الاستحمام أو ممارسة الرياضة البدنية .
بعد الإغريق انتقل مشعل الطب إلى العرب الذين كان نفوذهم يمتد من هضاب طليطلة بالأندلس إلى سواحل بحر قزوين. وعلى عهدهم اشتهرت قرطبة وبغداد كمركزين كبيرين للطب العربي، وكان لتعليم الموسيقى فيهما شأن عظيم. وقد برز أطباء أجلاء يلقنون الموسيقى كفن للعلاج، نبغ من بينهم الطبيب الرازي، وابن سينا أبوقراط العرب، وتلميذ ابن رشد الطبيب ابن ميمون الذي عاش في قرطبة في القرن الحادي عشر وكتب قَسَما يضاهي قسم أبوقراط، والفيلسوف ابن رشد الذي عاش في مراكش وشرح أفكار أرسطو حول القيمة العلاجية للموسيقى .
Dr René Lacroix. La Revue Musicale. Editions Richard-Masse.1962 Paris.Numero Special n° 250 pp 27 - 33. ترجمة (بتصرف)