التغريب الإستهلاكي في إمارات الخليج الإسلامي (1)

2014-09-01
لم تتحرّر وتستقل وتزدهر اليابان والصين والهند وكوريا الجنوبية وإيران وماليزيا... باتِّباع نمط التغريب الاستهلاكي؛ بل بتراكم التجديد والإبداع والإبتكار؛ وبالمواطنة والوطنية في هدى مواصلة التراث الثقافي التاريخي المتميّز لكل من هذه البلدان والشعوب. وتنهض روسيا حاليا بإحياء تراثها السلافي – الاسلامي...

 فهل انّ اتخّاذ العرب للتغريب الاستهلاكي نموذجاً للتطوّر يضمن لهم أوطاناً حرّة وشعوباً سعيدة؟.
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/82bea12d-200f-4ef3-b740-45c94cf22289.jpeg
يقوم تنفيذ مخطَّط النخب الغربية على جبهة ثقافة العرب والمسلمين على ركيزتين أساسيتين: الأولى، تدمير وتخريب ونهب تراثهم، ومنه عواصم ثقافية تاريخية وعالمية مثل بغداد ودمشق، وحواضر مهمة مثل الموصل والبصرة وحلب وحمص وطرابلس... وعدد كبير من المواقع الأثرية... وذلك بموازاة فرض وتنفيذ حركة سريعة من نشر العمار التغريبي الاستهلاكي وفنون الحداثة العبثية كما في إمارات الخليج . والثانية، تثبيت واقع التغريب الاستهلاكي كنموذج للنهضة الاسلامية المعاصرة... وذلك بموازاة منع المسلمين من تحقيق هذه النهضة على أساس تواصل روح التراث الاسلامي.

إنّ العرب والمسلمين ليسوا غربيين، بل أبناء ثقافة عربية إسلامية عالمية مبتكرة وأصيلة . وان فرض واتخاذ التغريب الاستهلاكي نموذجاً للتطوّر يعني ضمناً تدمير بلاد ومجتمعات المسلمين من الداخل بأوامر ومصالح من الخارج . واذا حصل هذا فانه سيقود الى إشاعة الفوضى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واستبدال نظام المثمّنات الاسلامي بالنموذج الثقافي الغربي القائم على المال والأرباح والأنانية . مما سيخلِّف مزيداً من التفرقة والتشتُّت، واستمرار الهيمنة الغربية على مقدّرات المسلمين،

الاستهلاكية المُنْفَلِتَة هي الابنة الشرعية للرأسمالية الوحشية. إذ يؤثر الحدّ من الاستهلاك على مرجل الانتاج الذي يقود بدوره الى الحدّ من الارباح. لذلك لاتتوقّف المعامل والمصانع عن إغراق الاسواق بالبضائع الجديدة التي تسمح بتنوّع وتوسيع واستمرار مجالات الاستهلاك وتعظيم الارباح.

كتب ( محمد المختار الفال، مجتمعات الترف الخليجية، إيلاف، عن الوطن السعودية، 16/06/2012 ): " " الترف " كلمة موحية بدلالات التراخي والوفرة والاستهتار وقلة الانتاجية وعدم الشعور بأهمية التخطيط للمستقبل. ويمكن تعريفه، ببساطة، بأنه: مجاوزة حد الاعتدال فيما يحتاجه الانسان. ومن ملامحه تحول الكماليات الى الضروريات عند أفراد المجتمع. وتنامي تطلعهم الى الاكثار من الاسباب التي تدفعهم الى الاستهلاك غير الضروري مع تراجع قيم الانتاج. وعادة ما تصاحب الترف مظاهر البطر والتفاخر والتعالي والرغبة في بلوغ ما لم يبلغه الاخرون، والدخول في سباق مجنون لانهاية له، تغيب فيه عن المترفين مقاصد ومنافع الثروة، التي من أهدافها سعادة الانسان واحساسه بالمشاركة في دائرة المنفعة الانسانية. والترف واحد من المخاطر " الخفية " التي يخشى ان تهدد سلامة المجتمعات الخليجية بعد تدفق الثروة وعجز المؤسسات التربوية – الأسرة والمدرسة والاعلام والمسجد – عن بناء منظومة تربوية تعلي من شأن العمل والانتاج وتضعهما في أولويات سلم القيم الحاكمة. "//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/e45bde9b-1b3a-4ace-8324-d037286ce12f.jpeg
صدَّرت النخب الغربية ايديولوجية الاستهلاك الضار إلى الامارات الخليجية: النخبوي للأثرياء؛ والمُسْرِف للطبقة الوسطى. و ترويج فكرة مفادها ان امتلاك الاشياء الثمينة بأسعار مرتفعة يُميِّز الاشخاص عن بعضهم، وكأنه يسير بمبدا: أنا أتملَّك وأتسوَّق، إذن أنا موجود ومتفوِّق.

ويصبح  الاسراف مثالاً " تربوياً " يقتدي به وينشأ عليه الجيل الجديد الذي لن يفهم العمل المنتج كسبيل طبيعي للحياة السويّة، وكواجب إيماني ووطني. بل سيعيش، وبقناعة، أوهام التغريب الاستهلاكي: نخبوية وترف وزهو وتفاخر ... وركض وسباق وراء الأطول والأكبر والأول... الذي يسري في نظام تفكير الشباب الخليجي.
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/ca2c0258-88e4-497c-b60d-5353aa89149f.jpeg
 وقد تناقلت وسائل الاتصال الاجتماعي معلومات تستعرض مجالات الاسراف الشديد  لدى النخب الخليجية الثرية. ومن الأمثلة التي لاتحصى ان شابا دفع 500 ضعف ثمن " الايباد " الجديد ليكون أول من يقتنيه في العالم وذلك بقيمة 300 ألف دولار... ومزاد علني خليجي اشترى فيه أحد الأثرياء رقما لسيارته بحوالي 15 مليون دولار... و " أغلى مرآب شخصي في العالم "... وعن ( محمد نصار، مادونا تبيع مقتنياتها في دبي بملايين الدولارات، أكثر من 60 قطعة في معرض لأول مرة في المنطقة، الشرق الأوسط، 22/05/2012 ). والحديث عن فساتين ومجوهرات وأكسسوارات ومقتنيات شخصية...

وتقام، كما في قطر والبحرين ودبي، معارض دورية للمجوهرات والساعات الاستثنائية والفريدة تساهم فيها عشرات الشركات مثل " فابرجيه "، و " بولغاري "، و " فان كليف آند آربلز "، و " كارتيه " و " ديفيد موريس "، و " بانيراي "، ... مما لايمكن مجاراة أسعار سلعها . وعن ( رويترز، تقرير: نمو مبيعات السلع الفاخرة في دبي مع احتلال المنطقة العربية المرتبة العاشرة عالميا بأسواق الترف، القدس العربي 13/08/2013 )، بأن هناك إقبالاً قوياً على شراء المنتجات التي تحمل علامات تجارية مرموقة... ومن السيارات الفاخرة " لامبورغيني " لم ينتج في العالم منها سوى 19 سيارة، ويبلغ سعر الواحدة منها مليونا دولار... 

وما موضة توسيع استخدام الذهب في شتى مجالات الحياة إلا واحدة من أحدث فقاعات الاستهلاك العالي العابر، لكنه " المبتكر ": سيارات وكمبيوترات وآلات تصوير وجوّالات ... وأدوات مائدة ومواد صحيّة من معادن نفيسة... وأقمشة وألبسة وأحذية من ذهب... وفوز البعض في المهرجانات الترويحية والحفلات الترفيهية بكيلوغرامات من الذهب ...
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/65211351-d7bf-4c9b-a681-1b8ac369a8b9.jpeg
كتب ( أحمد هاشم، آخر تقاليع الخليج ... عباءات نسائية بملايين الدولارات من الذهب والألماس، الهدهد، 14/04/2013 ):   
" العباءة الجديدة، مصنوعة من الذهب، ومرصعة بالألماس ومجوهرات وأحجار كريمة...  وشهدت مدينة دبي الإماراتية  مؤخرا عرض واحدة من تلك العباءات تعدى سعرها 65 مليون درهم أي ما يعادل 18 مليون دولار لتكون أغلى قطعة أزياء نسائية على مستوى العالم... ولا يقتصر الأمر على العباءات، بل امتد  لتصنيع قماش غير تقليدي من الذهب... وتتباين أسعار هذا القماش تبعا لكثافة الذهب المستخدم في صنعه لتبدأ في بعض الأنواع من 40 ألف دولار للمتر الواحد وتتعدى قيمة العباءة المصنعة منه اكثر من 500 ألف دولار...  و أن هناك نوعين من أقمشة الذهب أحدهما من الذهب الخالص يمكن استخدامه في أي تصميم كخامة لفستان أو في صناعة الستائر المذهبة التي تنتشر حاليا في قصور الأمراء  ويتراوح سعر المتر منه ما بين 20 ألفا إ لى 40 ألف دولار وفقا لكثافة المعدن به، والآخر قماش تقليدي لكن يتم تجميله بنقوش ورسومات من الذهب ويتراوح سعر المتر فيه ما بين 15 إلى 20 ألف دولار .. . وتصف بينا سوني مصممة الأزياء الهندية المقيمة في دبي نفسها بأنها من أولى مصممات الأزياء في دول الخليج اللاتي لجأن إلى الذهب لتزيين تصميماتها حتى أنها استطاعت أن تسجل في موسوعة جينيس بتصميمها عباءة خليجية تحمل في تفاصيلها 10 كيلو جرامات من الذهب ارتدتها عروس خليجية في الأيام الأولى لزواجها...  ولفتت إلى أن إقبال الخليجيات على اقتناء العبايات المزينة بالذهب شجع المبتكرين في مجال الموضة وتصميم الأزياء على استخدام أقمشة الذهب لصنع فساتين زفاف كاملة من خيوط وقطع الذهب عيار 24. .. وشهد هذا العام عرض فستان زفاف من الذهب الخالص تعدت تكلفته المليون دولار، ثم بدأت دور الأزياء الشهيرة فيما بينها  في طرح فساتين للخطوبة والسهرة من الذهب والحرير تتباين أسعارها ما بين  100 ألف إلى 850 ألف دولار بالإضافة إلى أغطية للرأس بسعر 5 آلاف دولار للقطعة الواحدة. "
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/9d146e77-68a1-47ae-929c-a5eca17d4994.jpeg
ونختتم هذه المقتبسات عن الذهب باستحضار مقتطف آخر، لكنه من التاريخ،  للتذكير... الذي يروي سلوك الغازي التتري هولاكو ( 1217 - 1265 ) مع الخليفة العباسي المستعصم بالله ( 1213 – 1258 ) إبان احتلال وسقوط بغداد عام 1258. فقد سَجَنَ هولاكو خليفة المسلمين في واحدة من غرف قصره وحَرَمَه من الطعام. ولمّا أضرّ الجوع بالخليفة وطلب طعاماً قدّم له هولاكو طبقاً فارغاً من ذهب وأمره أن يأكل. فأجابه الخليفة بأن الذهب لايؤكل. فردّ عليه سيّده الغازي: إذن لماذا لم تُحَوِّله الى قوّة تدافع بها عن بلادك؟ فقال: تلك إرادة الله. فردّ عليه هولاكو: إذن سقوط بغداد كذلك من إرادة الله... ثمّ تركه بحضرة الذهب وأطباقه، يتلوّى ويتضوّر حتى مات جائعا. نعم مات خليفة المسلمين كفقير مُعْدَم.

أتذكّر، اني دخلتُ مبنى في حاضرة أوربية متخصّص ببيع الكريستال، ويتكوّن من عدّة طوابق، وفي الطابق العلوي يوجد قسم خاص للتوصية على صناعة  النموذج الذي يرغبه الزائر، والعبارة التي يودّ نقشها عليه. علماً بأن كل هذا المبنى يسوِّق مادّة واحدة ذات تنوّع واسع، لكنّها نفسها أساساً ليست ضرورية للمجتمع.

ووصيفة لشيخة خليجية أثّرَتْ من كثرة المجوهرات والحلي الذهبية التي ترميها الشيخة دورياً  لأنها " صارت قديمة "، ويجب استبدالها بشراء مجوهرات أخرى لتجديد الموضة وللتسلية والاشباع والاسراف.

ومن الاستهلاكية الضارّة كذلك إشغال بال وأوقات الناس بمجالسة التلفزيون الذي يبثّ برامج ساذجة . اذ تحولت الثقافة والفنون الى دعايات لسلع وبضائع وأسواق وصالونات ومعارض ومزادات... وأفلام هابطة... بعيداً عن وظائفها التاريخية / الثقافية: الفائدة والجمال.
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/a5384017-ae17-45f4-acd4-d709348eabeb.jpeg

ويعمل خبراء الاعلام وعلم النفس للسيطرة على العقول، بالكلمة والصورة والتكرار؛ للتأثير والترويج والتشويق والتزيين والترغيب... والادمان على شراء الضروريات والكماليات، و " على الموضات ". وتوجيه أنماط  سلوك وأذواق الناس، وتزييف الوعي، والارتفاع الدائم بمستويات الاستهلاك كأمر واقع وضروري لتثبيت مكانة اجتماعية ومظهر ووجاهة  وفخامة ومستوى " ثقافي " يميز المستهلك بالتفرُّد بما لديه، مما يُفقده إسمه ولقبه: فيصبح اذا أشار اليه أحد يصفه ب: صاحب السيارة الذهبية... أو صاحب الجوّال  الماسي.... فيعتقد المومى إليه انه بهذا يضيف لانسانيته وقيمته وأهميته... قدراً وبُعْداً أساسياً، لكنه في الواقع ماهو الا مكانة مزوّرة . 

وتسري غواية ودعاية الاعلام مدعوما بأنواع التسهيلات والمُغريات لامتصاص السيولة المالية، واستخراج، بل سرقة، مافي جيوب الناس، سواء عن طريق الدفع المؤجل، أو على شكل أقساط، أو تنزيلات من مثل: " اقتني قطعة وخذ الاخرى بلا مقابل "، أو " ثلاث قطع بسعر اثنتين "، أو " اشتري اليوم وادفع بعد مرور سنة "... مما يَلْتفّ على ميزانية العائلة ويكبِّلها بالديون والهموم واللجوء إلى الاقتراض.
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/4e5fc882-b049-4d6d-ad1f-efcc528ca7ab.jpeg
وتَصْدُر في الغرب مجلة: How to spend it، التي تُرشد الاثرياء كيف يُبَذّرون ويبدِّدون ويهدرون أموالهم في مختلف مجالات الترف والرفاه والاستهلاك من شتى أنواع البضائع الفاخرة: قصور، أبراج مرتفعة، وفنون عبثية، " سوبرماركيتات "، " مولات "، سيارات، زوارق ويخوت، مجوهرات وساعات، أثاث للمنازل والحدائق، أدوات منزلية وكهربائية، ملابس، موضات ومواد تجميل، مأكولات ومشروبات.... سهرات وحفلات... وتنظيم السفريات الخيالية... وطائرات تنقلهم مع سياراتهم وزوارقهم وصقورهم الى أي مكان يتمنونه في العالم... وفنادق وبارات تقوم حمولاتها القيمية والمعرفية على إدمان وهوس غرائزيات الجسد الفاتن وإثارة اللذة ... وتحويل هذه الفنادق والبارات الى صناعة في الداخل يُعلن عنها في الخارج  كسياحة وفرجة... فالغاية هي المال والوسيلة هي اللذة، والغاية تبرر الوسيلة .

 وكأن موسوعة " غينيس " قد استنفذت أوراقها بعد ان حطّمت دول الخليج  كل الأرقام القياسية وسجّلت لهم  بنوداً غير مسبوقة في كم وتنوّع الاستهلاك وطرق المعيشة والبيئة المزدحمة بالأول والأعلى والأكبر...في العالم.

وبذلك فُقِدَ الميزان واختلَّ بين مفردات ومعاني من مثل: الاستهلاك، الانتاج، الادخار، البطر، الثمن، الجودة، الماركة، الموضة، الحاجات، الضروريات، الكماليات، التملُّك، التميُّز، التنافس...
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/5e4263c9-0315-4007-884c-5aeedd7d8554.jpeg
وأصبحت مدينة دبي إيقونة إيديولوجية التغريب الاستهلاكي العبثي الواضح الفادح الفاضح. فمن التشويق السريالي المثير، فرادة هذه المدينة التي لاتشبهها أي مدينة أخرى في العالم، لا في سرعة نموها الذي يتّسِع ويرتفع ويَشْسَع، ولا في تناقضاتها بواقع شائِه وزائِف وأغرب من الفنتازيا: ، مدينة " دولة " لم يشيّدها أهلها بل عمّال مستوردون؛ بلد إسلامي محاط بواقع دراماتيكي مرعب من الانتفاضات والمعارك والحروب؛  تزدهر فيه تجارة المخدّرات والكحول والبغاء... ويريدونه مركزاً للاحياء الاسلامي المعاصر!.

 وهم موغلون في هذا النهج الغريب والشاذ بين قمم الاسراف وكأن العالم لايسمع ولا ينصت، ولا يرى ولا يبصر... أو انهم خالدون أو محصّنون من الأمراض والموت... لايعون ان أهدافهم ضائعة بين الرغبة والطموح والأنانية والغرور والامكانية والواقع والحاضر والمستقبل... والاستهداف.
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/8670002a-1798-4a22-b0c2-b555f9f021db.jpeg
وأشد مايميِّز حياة الترف والرفاه والبذخ والتبذير هو مَسْلَك الأسر الحاكمة وأطقمهم والأثرياء من مسيِّري شؤون الدولة: غربيين وعرب  وبعض الوافدين الآسيويين . هذا في ظل حرمان غالبية السكان من حصّتهم الشرعية في خيرات وموارد بلادهم، مما يثير ويُراكم غضبهم؛ خاصة وان الاقتصاد الناجح لايعني ولا يقاس  بتكديس الاموال، بل بمدى تحقيقه لسعادة الناس وكرامتهم في الحياة والتطور كالعلم والتربية والمعرفة والعطاء والتضامن والتشارك... فهل هناك سعادة في النمط  العالي للاستهلاكية في الاقتصاد والمجتمع والثقافة والفن...؟. 

انه أمر مطلوب استراتيجياً واقتصادياً تطوير الثقافة والفنون والسياحة، على الا تقتصر على النخبة الثرية المحلية والعالمية، لان للجميع حق التمتع بخيرات التنمية والتطوير. وعلى أن تُوَجَّه بوصلتها توجيهاً صحيحاً. كما يجب تثقيف المجتمع بترشيد الاستهلاك. اذ ليس هناك خيراً يُرتجى ويُنتظر من وراء التغريب وحصد الارباح  الناجمة عن جموح ايديولوجية استهلاكية مفرطة تُضاعِف من تآكل خزّان الطاقة، الذي يباع خاماً بسعر التراب.
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/3d5f75de-c650-4742-a569-4ed48c050a2a.jpeg
فالخليجيون لاينتجون بضائع لا لأنفسهم ولا للتصدير، إلا مارحم ربي من النفط والغاز.
وما يُصنع داخل الامارات مثل الألمنيوم في البحرين، والحديد في السعودية... وبعض المواد الزراعية  ومنتجات الصناعات الخفيفة... هو ضئيل وغير محسوس بالنسبة لما يستورد . إضافة الى الاتِّجار بالعقار والبشر والمخدّرات والجنس... والرشاوي... وليس الثروة الناجمة عن العمل المنتج للمصانع والمزارع،  وما يبني مجتمعاً متوازناً وانساناً سويّاً... يتكوَّن من خلال تطوير مستمر للمعارف والمهارات، والنمو الروحي .  بينما مايطغى على كلمة " عمل " في الخليج لا يعني في أغلبه العمل المنتج للبضائع، بل العمل الروتيني في إدارات الدولة .

وهكذا فان الاستهلاكية المُفْرِطَة في إمارات الخليج على قدم وساق، كما يقول المثل، لاحتواء كل جديد في العالم: فنتيجة لنشر الغرب ثقافة الاستهلاك الشَرِه في مستعمراته، فإنه يُغرقها بمنتجات أوربا والولايات المتحدة واليابان ذات الاسعار المرتفعة؛ التي تنافسها صادرات الصين بسلع وبضائع بمتناول قاعدة واسعة من المجتمع. غير ان مايشترك به الغرب والصين هو سحق البُنْيَة الانتاجية لاقتصاد المستعمرات. فأصبحت ثقافة الاستيراد والاستهلاك، نمطاً حياتياً: بضائع من كل صنف ولون،  تُستورد ويُعلن عنها وتُسوّق  وتُشترى... 
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/9d1ed7db-fb09-457e-b149-b94bd461773e.jpeg
وتطوّرت ظاهرة الاستهلاك السهل والمُسرف إلى إدمان على الطريقة الغربية Shop until you drop بشراء سلع لايحتاجها المستهلك نتيجة وفرة المال وتوافر بضائع في الاسواق تفوق الطلب بلا حدود . فما أن يدخل المستهلك الخليجي إلى " المول " حتى ترتفع لديه حمّى ونهم الشراء وتتحرك دودة الاستهلاك لما يحتاجه وما لايحتاجه من أغذية وألبسة... وبضائع مكلفة يوجد عدد منها في المنزل الواحد مثل السيارات والتلفزيونات والكمبيوترات وأجهزة الهاتف... وآلات التصوير والساعات... كما يُتخذ اللباس والاثاث من أفحر وأغلى " الماركات " العالمية... وكل شيء في تغيير مستمر لمجرد انتهاء موضته وصلاحيته النفسية والمزاجية.

وهكذا تدور وتتكامل عجلات الانتاج والدعاية والاستهلاك والاقتراض والارباح معا مكونة جهازاً مُحْكَمَاً ومتداخلاً عضوياً لا يتوقّف، بل سريع الحركة والدوران على طريقة: " أصرف مافي الجيب يأتيك مافي الغيب ".

كما ان الاستهلاكية الضارّة، بالشكل الخليجي، تعني إعادة جزء كبير من واردات النفط والغاز الى البلدان التي تستورد منها الامارات مختلف احتياجاتها... وهو توجّه غربي ثابت لاستنزاف أموال الخليج المودعة في الغرب، والسيطرة المسبقة على التسعة تريليون دولار المنتظر استحصالها من نفط وغاز الخليج للعشر سنوات القادمة .
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/6ea222cd-ecf8-4237-a36d-4e76765c1b42.jpeg
وهكذا تعمد الرأسمالية المتوحشة الى إنتاج بضائع جديدة باستمرار،  وأنواع كثيرة لبضاعة واحدة باستمرار، لخلق أسواق جديدة للتصريف باستمرار، مما يحقق أعلى درجات الارباح باستمرار. وفي خلق وإدارة هذه الاستمرارية تُحقِّق النخب الغربية أعلى درجات الارباح وتضمن استمراريتها...  

بينما من حِكَم التراث الثقافي لمختلف الأمم، ومنها الاسلامية ان: " القناعة كنز لايفنى "، و" ان مع العسر يسرا "،  ففيها السعادة الحقيقية عن رضا داخلي يكتفي بسدّ الاحتياجات الضرورية وبعض موضوعي من الكماليات ...

"ولا تنس نصيبك من الدنيا " أمر وواجب ونداء. غير ان خسران الميزان وخرق نظم الأولويات بتقديم التسلية على الانتاج هو آفة خطيرة في البناء الثقافي . ويؤكد ذلك الكاتب البيروفي " ماريو فارغاس " في كتابه " حضارة الفرجة " بأن المفكر اختفى من المناقشات العامة ولم يعد للفكر وزنه في حضارة الفرجة التي تطغى اليوم " الصور على الأفكار ". ويضيف بأن الصحافة تسهم، بشكل كبير، في توطيد الثقافة " الخفيفة "، الأمر الذي يؤدي الى نسيان ان الحياة " ليست مجرد متعة، بل دراما وألم، وغموض، وإحباط ".

كما ان إدمان الاستهلاك يضع الانسان في سباق محموم مع بضائع وأماني، مما يفقده الشعور بالسعادة. ووقفة لبرهة قصيرة مع الذات يجد هذا النموذج الشاذ حقيقة زيفه عدة مرّات: مرّة، لان الاستهلاك لاينتج شيئاً مفيداً هو القيمة الأساسية للانسان السوي. وأخرى، لأن هذا الشخص مُسْتَعْبَد للنخب الغربية ولنمط الاستهلاك الضار. وثالثة، لرغباته الغرائزية المادية بمعزل عن المثمّنات الروحية. ورابعة، انه الى جانب الشراهة والجشع والشهوة والفخر والمباهاة في المتعة والتبذير... يطفو على وجوده الشعور بالكسل والترهل والاحباط نتيجة ضياع الزمن / الحياة بلا جدوى في نفوس بائسة فقيرة مهشّمة ويائسة حلّت في أجساد مترهِّلة، ومشوهة فكراً ومتخلِّفة حكمةً . وخامسة، لعبادته أوثان الممتلكات الاستهلاكية التي لايستطيع التخلي عنها.
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/da5e83be-5e2c-4bc4-8ffe-4d7669f5d7b5.jpeg
 فهل يمكن اختزال معنى الحياة وهدفها بالاستهلاكية؟ وبتصعيد لانهائي لها؟.

 وبينما يضع بُناة الثقافة زمن حياتهم في عملهم المنتج وسعيهم لكسب الرزق، يضع الضائعون طاقتهم و " تجربتهم " الحياتية في الاستهلاك الضار؟. ألم يتذكروا حديث الرسول الكريم: " ما أكل أحد طعاما قط خيرا من عمل يده، وان نبي الله داوود كان يأكل من عمل يده ".

هذا الى جانب تعدّد المساوئ الصحية للاستهلاكية المنفلتة. وبهذا الصدد كتبت ( ليلى مغربي، مرض السكري.. الجانب المظلم للازدهار الاقتصادي بمنطقة الخليج، القدس العربي، 7/8 - 7 – 2012 )، ان واحدا من خمسة كويتيين يعاني من هذا المرض نتيجة تغير نمط الحياة في الخليج تبعا لثروته من النفط والغاز التي قادت الى نوع من الرفاهية والوظائف المريحة والاعتماد الشديد على السيارات وقلة الحركة والاسراف في تناول الطعام وثقافة الوجبات السريعة والدسمة.... " حتى امتحان التربية الرياضية تحريري "... وأظهرت دراسة أجرتها هيئة الصحة في أبو ظبي ان اجمالي التكلفة الاجتماعية للمرض تقدر بنحو 1.9 مليار دولار. " ويقول الاتحاد الدولي للسكري وهو منظمة تنضوي تحت لوائها أكثر من 200 منظمة وطنية ان خمسا من الدول العشر التي توجد بها أعلى معدلات لانتشار المرض هي من دول مجلس التعاون الخليجي الست. ".... " وبخلاف التكاليف المالية الفورية فان مرض السكري قد يهدد خطط التنمية على المدى الطويل لدول الخليج. " 

وعن استعراض الناقد ابراهيم درويش لكتاب (  " اليوتوبيا الاسلامية " وهم الاصلاح في السعودية: جيوب ليبرالية وسط مجتمع يحتل المطاوعة فضاءه وفي مكة يختفي الماضي وتولد " دبي " جديدة، القدس العربي 04/12/2012 ): " فبحسب احصاءات حكومية عام 2006 اظهرت ان نسبة السمنة بين النساء تصل الى 54 بالمئة مقابل 45 بالمئة بين الرجال، 29 بالمئة بين الفتيات و 24 بين الاولاد، وفي السعودية اكبر نسبة من مرضى السكري كما ان النساء بسبب عدم تعرضهن للشمس يعانين من هشاشة في العظام. "
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/ff28e0af-ef99-491c-a841-e6b64ce2478b.jpeg
كما يقود الانغماس في الملذات والشره الى أمراض لم يعرفها أهل الخليج قبل نصف قرن، حينما كانت الحياة بسيطة، وتكاليف المعيشة مناسبة، والاجساد صحيحة، والامراض قليلة. أما في زمن الإسراف فقد تكاثرت الامراض الناجمة عن الاكل غير الصحي من المعلبات والحليب والاجبان واللحوم المشبعة بالدهون، والفاكهة والخضروات المعالجة بالمواد الكيماوية، في ظل بيئة ملوثة... فاصبحت السمنة ظاهرة في المشهد العام لسكان أهل الخليج.

كتب ( محمد المختار الفال، مجتمعات الترف الخليجية، إيلاف، عن الوطن السعودية، 16/06/2012 ): " نخشى من نشوء جيل من المترفين الذين لاهم لهم إلا التفاخر بما لديهم، وما يميزهم في مطعمهم ومشربهم ومركبهم، فيورث ذلك خمولا وترهلا في المجتمع يضعف مناعته وقدرته على التجدد والحيوية. "

وعن بعض جوانب ثقافة الاستيراد والاستهلاك، كتب ( سامح عوض الله، 4.5 مليار درهم فاتورة السلع الكمالية في الامارات،  الامارات اليوم 15/06/2010 )، وهي فاتورة ترجع لعام 2009، دعمها الخبير في  قضايا حماية المستهلك، المهندس حسن الكثيري بأن " الخسارة لاتكمن في المبالغ التي تنفق على تلك السلع فقط، وانما في الاموال التي تنفق في علاج التأثيرات الصحية لاستخدام مواد تجميل تؤثر في الصحة العامة... وبيّن انه كان يمكن ان يكون للاموال التي انفقت لاستيراد تلك السلع تأثير ايجابي لو ضُخّت في مشروعات استثمارية تعزز النشاط الاقتصادي المحلي.... وشمل جدول السلع غير الاساسية منتجات مثل شعر الرأس واللحى والحواجب والرموش، ومستحضرات الاستحمام، والعناية  بالبشرة، ومزيلات الشعر والروائح الجسدية، ومستحضرات العناية بالاظافر، والحلاقة . "

كما يخلِّف الاستهلاك غير الضروري كميّات ضخمة من أنواع الازبال المتراكمة عن استمرارية التسوّق: أكياس غير مفتوحة لمواد غذائية انتهت فترة صلاحيتها، ونفايات الالبسة والاثاث والادوات المنزلية والكهربائيات البائرة التي يُستهلك بعضها معنويا رغم أنها لاتزال في حالة جيدة... ومقابر للسيارات والآليات...
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/a18c2a06-7509-4f08-8b93-992e36bca37d.jpeg
ان إشاعة الاسراف في البلاد تمنح النخب الحاكمة مجالاً اخر في سيطرتها بتنميط وتخدير الناس بفقاعات الموضة والاستهلاك في رفاهية معزولة ومزيّفة ينطبق عليها المثل الصيني: بالمال يمكن شراء المنصب وليس الاحترام، وبالمال يمكن شراء الكتاب و ليس المعرفة . وهذا بدوره جزء من مهمّة تكريس التخلف والتبعية والاستغلال وانصراف الناس عن شؤون التحرر والاستقلال.

وبذلك تدير النخب الغربية الطفيلية في الخليج مجتمعاً منفصماً يقوده منافقون كفائتهم إدارة مؤسسة أمنية تنشر ثقافة هدر الاموال والطاقات والوعي المزوَّر القائم على الغش والفساد والتطرّف الديني بأحكام خرافية قاطعة وإقصائية، وإيمان بالأساطير ولهو الأمل والازدواجية السلوكية...

وهكذا تقوم تنمية إمارات الخليج بإمرة الأحلام الفردية للحكام ومستشاريهم، وليس على أساس الدراسات العلمية الواقعية لتطوير البلاد والعباد. فهل ستصبح قطر ودبي وأبو ظبي بأنماطها الحالية مراكز للإحياء العربي – الاسلامي المعاصر والمستقبلي؟. أم ان تنميتها ستكون مجرّد واحات / فقاعات اقتصادية – مالية - عمرانية لسراب آجل: غالبية من " العبيد " المستوردين الذين يقومون بجل الاعمال ويضمنون تواصل الحياة؛ في فضاء مواطنوه أقليّة؛ وسادة من الغربيين المشرفين على تسيير الاعمال وسنّ القوانين التي تضمن جريان شلاّل البترودولار وحفظ  " حقوقهم ومصالحهم "؛ وطغم حاكمة هم الشركاء والوسطاء بين المواطنين والآسيويين والسادة الغربيين. 

ومن هذه القوانين ما هو سريالي بامتياز لكنه مهم لتسيير ماكنتي الظلم والنهب. ومن ذلك فصل الرجال عن النساء، وقطع التواصل الانساني الطبيعي والفطري، وتقديم الموضوع بأنه من صُلْب الدين: رجال لهم مختلف الحقوق، ونساء لهنّ حق العنوسة و " أمرك ياسي السيد "؛ مجتمع منشق إلى رجال ونساء فوق انشقاقه إلى أحزاب وطوائف.... بينما حياة ساكني القصور والفنادق الفخمة: خمر ومجون... حلال. وبغاء... حلال. ومنقّبة في الشارع تنزل الى البحر ببكيني الخيوط... حلال. واستعباد الوافدين... حلال. وخدمة مصالح الغرب...حلال... 
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/8f639840-a32f-487b-b3d8-0db4b43519aa.jpeg
تماماً كلحم خنزير: مذبوح على الطريقة الاسلامية: لحمه حرام وشوربته حلال. المهم هي الأرباح التي تدخل في جيوب السادة الغربيين ووكلائهم " الذين يخافون الله... " من المعاصي. مثل الاعلان عن جريمة سرقة فقير لمئة دولار، بينما يفتخر من ينهب ميزانية الوزارة ويرفل في الدمقس والحرير والماس والذهب وحياة ألف ليلة وليلة التي تتجدّد بابتكارات تجعل كل ليلة منها بألف ليلة... واستيراد مئة فتاة على متن طائرة واحدة... فهو قمّة السخاء والنبل العربي لمساعدة ذلك البلد الفقير و / أو المنكوب... ويتواصل صيد وخداع الفتيات وسوقهنّ الى الخليج في دورة شيطانية شرّيرة لكل فتاة منهنّ حكاية مأساوية وحياة مهشّمة وضائعة...  "... والله غفور رحيم... " إن لم يكن في الحج ففي العمرة، وأن لم يحصل هذه السنة ففي المستقبل، وان لم يكن في الصلاة أمام الناس ففي الصوم خارج الدار... لكن ليس في الزكاة، فهذا حرام!. مثله كمثل التمثال للجمال فهو حرام!. وذلك على خلاف النص القرآني الكريم: "  يعملون له مايشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور ".             


 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved