المال و الخليج
المال مال الله، والانسان مستخلف فيه. وهو ليس مال آلهة الأرض، وعملاؤهم مستخلفون فيه. والمال قوّة للإثمار. وليس مَفْسَدة للتبذير والإهدار، ولا وسيلة للاستبداد والطغيان.
وفي أموال الخليج: " ... حق معلوم للسائل والمحروم ". ومانع الحق ظالم: " ثم لَتُسألنّ يومئذ عن النعيم ".
ولا يقتصر الانفاق وتحريك المال في الصالح على الأغنياء، بل يشمل محدودي الدخل، فينفق الفقير ليواسي من هو أفقر منه: " لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدر عليه رزقه فلينفق مما آته الله لايكلف الله نفسا الا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا ". فأجر الصدقة على الفقراء والمحتاجين والمحرومين والمعدمين عظيم: " مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة انبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ". والتصدُّق رابطة مهمة وكبيرة وقوية بين الثريّ والمجتمع والوطن والدولة، مما يُجَمِّع ويُوَحِّد ويُطَوِّر.
بينما هدف جمع المال وتحقيق الأرباح هو أساس في صميم ثقافة الغرب المادية الدنيوية، وهو مايقود الانسان طوعاً للأنانية و العبودية للممتلكات والأرقام . ومن هنا ضُعْف الروحانية التي لاتتآلف مع عبادة المال؛ فيخسر الميزان؛ ولن يَسْتَقِم مادامت ثقافة الغرب تتركّز حول المال والأنانية وطفيلية إدمان الغزو والنهب واستعمار الآخرين.
قُلْ ماذا يعمل البليونير بالبليون؟. بل ما هي الحكمة في سَعْيِهِ لاضافة بليون جديد الى ثروته؟ هل سمع بالحديث الشريف: " ماشبع غني الا بما جاع به فقير " ؟. فالبليون يكفيه وأحفاده وأحفاد أحفاده الزواج بآلاف النساء، ومن فصيلة قاصرات الطرف، وحور عين اللاتي يَثْقَلْنَ عشر مرّات في العام فيحقق لذة " المال والبنون زينة الحياة الدنيا..."، وشرب أفضل الخمور والأوساك بأكواب من ذهب، وأكل الكافيار في صحاف الفضة... وتناول أنهار من لبن وخمر وعسل... و " ... لحم طير مما يشتهون " ... يومياً؛ والعيش في قصر بناؤه وأثاثه من المرمر والذهب والفضة والعاج والكرستال... والتنقّل في " رولس رويس " من الذهب... والعيش مؤقتاً في جنّة ماديّة على الأرض. لكنها مصحوبة بنرجسية وأنانية وغرور: بوعي أم بِغَفْلَة وجهل.
كما ان البليونير هذا لن يأخذ معه من بلايينه وملايينه حتى قبضة ريح. والمال لايجلب الحبّ ولا الايمان، ولا يعالج الأمراض المستعصية . وتُدرِكُ صفعة الموت البليونير وتلاقيه ولو كان في برج مشيّد من بلايين الدولارات. وترثه الدولة وأسياده من الذين مكّنوه وأغدقوا عليه . أين ثروات طغاة العالم وعملاء الاستعمار؟. أين بلايين الشاه وصدام والقذافي... المنهوبة: نهبوا الشعوب ونهبهم الاستعمار. ولماذا سويسرا بهذا الثراء؟ والغرب بهذا الرفاه؟
واذا كان المال مطلوباً لتحرير صاحبه من الحاجة، فانه لايحلّ جميع مشاكله؛ فليس كل شئ يُشترى بالمال. والانسان المادي عادة مايكون أقل سعادة. فالمال مَجْلَبَة للمنافقين والمُسْتَهْدِفِين والحُسّاد والحرامية. بينما الأمان النفسي الحقيقي – حصن الانسان، لا يتحقق بالمال، بل بالتوازن المادي والروحي. لذلك يلاحظ ان الأكثر سعادة ليس الثري اللاهف اللاهث وراء مال أكثر وأرباح أعظم، بل الواعي بموازنة احتياجاته المادية والروحية . ففي الحياة ماهو أكثر بكثير من جمع المال والاستهلاك العالي .
كما ان بناء الثروات الشخصية لايعني تطوراً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً . وان التقدّم الحقيقي هو في الانتاج النافع للناس، وفي التوزيع العادل عضويا، والتنوير القائم على الحرية والديموقراطية الحقيقية، والنمو الروحي المتواصل. فالمجتمع والانسان الواعي هو هدف التنمية والتطوير: يَعْرف ماذا ينتج، وماذا وكيف يستهلك. وذلك بما درج عليه مسار الثقافات: الايمان المقرون بالعلم وبالعمل الصالح الذي يطوِّر ويقوِّي الانسان ويزيد في إنتاجه ورفاهه وسعادته.
صحيح ان المال مُلْكُ الخليجيين وحلالهم، ومع الإنعام والتوفيق، ولهم حقوق فيه وفي مجالات إنفاقه. لكن ذلك فقط بعد تأدية حقّ الله فيه. ولن ينسى العرب والمسلمون مساعدات بلدان الخليج في دعمهم لاخوانهم في مختلف المجالات؛ فهذه مبادرات وفاء ومواقف وطنية عربية واسلامية تضامنية وبنّاءة ومشهودة.
ولايُراد من تحديد بعض مظاهر التغريب الاستهلاكي في إمارات الخليج عداءً أو دعوة للتقشف في دول تحصل على عوائد خرافية من تصدير النفط والغاز... بل استهجان الافراط والاسراف في تبديد عوائد الطاقة على استهلاك مشوّه دون التفكير باستقلال البلاد وتطويرها، ولا بمستقبل الأجيال القادمة، ولا بمرحلة مابعد النفط والغاز، ولا بالنمط الصحيح للإحياء الاسلامي المعاصر، ولا بحقوق الآخرين: " ... وانفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين امنوا منكم وانفقوا لهم اجر كبير "، " واتوهم من مال الله الذي اتاكم "...
وما يوجَّه من انتقادات للادارات الخليجية ليس من باب حسد ذو النعمة، متمنياً للامارات مزيداً من الثروة. كما ان الاسلام لايمنع الانسان من الرفاه المعتدل: " وابتغ فيما اتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا ". لكن الموضوع هو طُرُق الاستفادة من هذا المال وسبل وصحة وسلامة إنفاقه: " ... ولا تسرفوا انه لايحب المسرفين "، " وأحسن كما أحسن الله اليك ولا تبغي الفساد في الأرض ان الله لايحب المفسدين "، " ولا تطيعوا امر المسرفين "، " ثم صدقناهم الوعد فانجيناهم ومن نشاء واهلكنا المسرفين "، " ... وان المسرفين هم أصحاب النار "...
فهناك مسؤوليات المشاركة الإنسانية والدينية والأخلاقية والثقافية والتاريخية: " واحسنوا ان الله يحب المحسنين "،" وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم الى التهلكة "... فالمال من هذا المنطلق ليس مُلك الاماراتيين فقط وإن وُجِد في أرضهم. فهو مال الله لعباده الذين أقربهم الى الخليجيين هم العرب والمسلمين، ومنهم مئات الملايين من المحتاجين، بضمنهم فئة من مواطني الامارات أنفسهم . فقد جاء في ( القدس العربي، 13/05/2011 تحت عنوان: الدولة تتمتع بثامن اكبر نصيب للفرد من الدخل على مستوى العالم.... والعاطلون عن العمل 28% ). ومايزيد على نصف العرب يعيشون على أقل من خمسة دولارات فقط في اليوم . فاين الاسلام من: الزكاة والوقف والصدقة والتكافل الاجتماعي وواجب الدولة في توفير العمل للعاطلين؟.
يعيش القطّاع الاكبر من مواطني الخليج في أوضاع معيشية أفضل من مجتمعات دول نفطية أخرى كالعراق وليبيا والجزائر ... ناهيك عن مجتمعات عربية واسلامية غير نفطية وتعاني الكثير مثل اليمن ومصر... فلماذا لاتوزَّع ثروات الخليج على سد رمق، وتطوير، ونهضة عالم المسلمين؟. لكن الحاصل هو النقيض الذي عبَّر عنه ( يرون لندن، هذه هي الثقافة العربية، أن يموت ملايين العرب بالقتل والجوع أفضل من أن تسقط لبنة ذهبية واحدة من جدران قصور أمراء النفط، القدس العربي، 10/08/2011. )
ومن المسلمين من يعاني المصائب من الظلم الغربي والحروب وما تخلِّفها من دمار وخراب وكوارث ومآسي وحرمان ومعاناة يومية... فاين دور المال الخليجي في مواجهة التحديات التي يتعرّض لها العرب والمسلمون؟. بل أين دور هذا المال في اتحاد العرب والمسلمين؟ وفي رسم وتنفيذ استراتيجية شاملة للاحياء الاسلامي المعاصر؟.
بينما تستخدم دول الخليج المال على العكس تماماً: كتوظيف العملاء من صحافيين وإعلاميين ومثقفين ودينيين و" جهاديين "... يحاربون بالخطأ في الزمن الخطأ والمكان الخطأ لتدمير أوطان المسلمين وتخريب مجتمعاتها ومحو تراث ثقافتها، واختطاف وتزوير وتشويه وتزييف هُدى وحكمة ورحمة النص القرآني الكريم عطاءً دائماً، والعظيم نصاً متكاملاً وخالداً، ف " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين ".
ليس هناك خلاصاً ومستقبلاً لاي قطر عربي بمفرده، لان هذا مناقض لجميع معطيات الحاضر وتوقّعات المستقبل، الذي لن تنهض فيه سوى المكوّنات الكبيرة القادرة على ضبط سلامة نمط التطور: مواجهة المتطلبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الداخل، ومجابهة الأخطار الاستراتيجية من الخارج .
ويشير واقع الحال الى ان الامارات متخلِّفة عن توفير احتياجات سكانها من الغذاء والدواء... وبضائع أخرى لاحصر لها... مما يُعرِّض سكانها الى الجوع والمرض في حالة وجود أزمات عالمية منظورة أم غير منظورة في هذه الاجواء الكئيبة والمُكَهْرَبة بافتضاح المؤامرات والتجسس والأكاذيب التي تلفّ تراجع الغرب مالياً واقتصادياً وتؤثر سلباً على باقي أنحاء العالم. وحتى النفط، فلا يمكن الاعتماد الكلي عليه نظرا لعدم ديمومته وتغيُّر أسعاره تبعاً لتغيُّر الاحوال السياسية وضغوطات مافيات قيادة العالم من وراء ستار، القادرة على رفع الاسعار ثم خفضها في أي وقت يشاؤون . وهذا يؤدي في نهاية المطاف الى عدم الاستقرار وخسارة النفط والغاز والمال معا.
فهناك المستقبل الذي هو في علم الله وحده . وهناك احتمالات عوادي الزمان ومفاجئاته، التي ربما لن تكون سارّة، فتعود حياة الشدّة والتقشّف والفقر والندم بعد فوات الاوان: " ... ولا تُبَذِّر تبذيرا "، " ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا ". واذا كان الانتقال من معيشة الضنك الى الرفاه مصحوباً بالسعادة والبهجة والفرح بالانفلات الاستهلاكي، فان الامر ليس كذلك بالعودة من حياة الترف الى الافلاس والكفاف وشظف العيش؛ اذ سيتعذر على الفرد والمجتمع الاندماج الطبيعي في الحياة، وستنتشر مشاعر الحسرة والأسى على مافات، وربما سيقدم البعض على الانتحار، وسيصاب الكثيرون بالامراض النفسية، الى جانب مآسي الفقر والحاجة.
فالنخب الغربية لاتحترم كلمة ولا عهداً وميثاقاً، ولن ترحم فقيراً وجائعاً ومحتاجاً وضعيفاً و " صاحباً وصديقاً "، وكل همَّها مواصلة الكذب والخداع والاحتيال والمداراة مادام النفط والغاز جارياً وما دامت الاموال السائلة تصب في اقتصاد وقوة ورفاه الغرب.
وأبرز مثال على ذلك هو العراق الغني بموارد الطاقة والسكان، والذي يفتقر حتى الان الى أبسط المتطلبات الضرورية: الدولة والأمن والزراعة والصناعة والغذاء والصحة والتعليم والخدمات والمرافق... بل يفتقر حتى للماء والكهرباء... وهناك الجريمة البربرية التاريخية بضرب العراق باليورانيوم المُنَضَّب الذي يستمر تأثيره ملايين السنين، حتى أصبحت ولادة طفل سليم في العراق غاية سعادة الأسرة. ناهيك عن جرائم قتل يومي مجّاني لايتوقّف تهديها القاعدة الأمريكية للعراقي الذي ينتظر موعد حتفه تحت الظلال الوارفة للحرية والديموقراطية الأمريكية الزاحفة جهاداً على أقطار العرب والمسلمين تنثر الخراب والدمار والابادة والتفتيت. والمجد والخلود ل: فَرِّق تَسُد، تاج الارهاب الاستعماري. فكارثة العراق خير درس، ليس للعرب والمسلمين فحسب، بل للناس أجمعين.
ونظرة على جانب تخريب البُنْيَة التخطيطية – المعمارية وحدها، فانه لن تقدر على إعادة بنائها وتعميرها جميع شركات المقاولات في العالمين العربي والاسلامي، ولا بدّ من الاستعانة بشركات المقاولات والبناء العالمية. وهذا التخريب المُمَنْهَج للعراق بمثابة المنجم المالي الجديد للنهب الاستعماري، بموازاة سرقة الموارد الطبيعية كالنفط والغاز.
فما الذي يمنع الظالم الغربي من تكرار هذه الجرائم غداً في إمارات الخليج؟. خاصة وان النخب الغربية فوق القانون، فهم أقوياء ومتفوقون عنصرياً!. وها هم طلقاء لايحاكمهم أحد رغم جرائمهم التاريخية في تدمير العراق وتخريب حياة العراقيين.
إنّ ماتستورده الامارات اليوم من ملايين الخدم والعمال والمهندسين...، ومن عمار غير وظيفي، وفنون حداثة عبثية ...، وأسلحة كالمجوهرات: زينة وخزينة...، وبضائع من كل صنف ولون... الى جانب طبيعة عمل المواطنين بين قِلَّة عاملة وفاعلة، ودولة تصدِّر النفط والغاز، ومتنفذين لديهم الكفيل وشركات الاستيراد وفنادق 5 نجوم والبارات... وغيرها من وسائل غير مشروعة لكسب المال ليست دائمة. وليس من ضامن لمستقبل أفضل سوى دور شعب الامارات في تطوير ونهضة اقتصاد وثقافة البلاد والعرب والمسلمين. فالنِعَم لاتدوم، وعمر النعيم قصير بالبطر. فلا يجوز وضع كل البيض في سلة واحدة: سلة التغريب الاستهلاكي وخدمة مصالح الغرب.
كما ان: " المال السائب يعلم الناس الحرام ". و المال بلا تعب وجدّ واجتهاد يضيع بسهولة:
" ومن أخذ البلاد بغير حرب يهون عليه تسليم البلاد ".
وواضح من تاريخ تداول الايام بين الامم، ان نهاية الاسراف هو زوال النعمة: " وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها فتلك مساكنهم لم تُسكن من بعدهم الا قليلا وكنا نحن الوارثين "، " ... حتى اذا اخذنا مترفيهم بالعذاب اذا هم يجأرون"، " كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك واورثناها قوما آخرين فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين". ولوفرة المال غير المنضبط في استخدامه نتائج وخيمة كنسيان التواضع والتباهي والتفاخر والكِبَر... كما ان الطمع مصاحب لِسَفَه الاستهلاك والطغيان: " وما أرسلنا في قرية من نذير الا قال مترفوها انا بما ارسلتم به كافرون." ..." وذرني والمكذبين اولي النعمة ومهلهم قليلا"...
ومن هنا خطورة التفريط بهذه الفرصة التاريخية لثروة البترول والغاز التي رغم ضخامتها الهائلة فانها لامحالة ناضبة وزائلة. وبهذا الصدد فقد جاء في:
Nexus, October – November 2013, Global News, Syria, pipeline politics, OPEC and the US Dollar, P. 12: ‘...The dirty secret for 10 years has been the depletion and decline in Saudi oil reserves. The water cut has surpassed 80 per cent on a regular basis at Saudi oilfields. This is the percentage of water in produced ‘ oil ‘ wells, and internal pressures are dissipating. The Saudis are suffering from lost oil surplus, rising government dept, higher domestic energy and food costs, internal strife, fascist Islamic rule, a rising political prisoner population, and geriatrics in power.
The OPEC nations in the last several years become a loud, disorganised gaggle of devious dealers who discount prices and lie about output on a regular basis. The Saudi OPEC core – the foundation for the petrodollar and the justification for global banking systems being based on US Treasury bonds – is disintegrating.
في الغرب يحوّلون المال / الورق الى أرباح دون المرور في المعادلة العضوية الطبيعية والتاريخية: مال – بضاعة – أرباح. فالنخب الغربية الطفيلية لاتنتج خبزاً، بل تطبع دولاراً تشتري به ماتشاء، وتغزو وتنهب من تشاء. وفي الخليج يحوّلون بضاعة النفط والغاز الى مال يذهب جلّه الى الغرب، و يَستهلك ماتبقّى منه فئة نخبوية مختارة. وقد كُتِبَ الكثير عن ضرورة الارتقاء بالانسان وتطوير الأوطان لتأمين مرحلة مابعد النفط التي يقدرها الاخصائيون بفترة زمنية لاتزيد على خمسة عقود. وما سيصاحب ذلك من تأثيرات محلية واقليمية وعالمية خطيرة في حالة الاهمال وعدم التحكم بالاقتصاد والخدمات والمرافق الاجتماعية والأمن الغذائي والصحي والتعليمي...
غير ان دول النفط الخليجية، عدا إيران، لاتراعي هذه الحقيقة الحيوية اهتماماً. فاستيراد البشر، والأسلحة، وتشييد العمار غير الوظيفي، ونشر فنون الحداثة العبثية، ونمط الاستهلاك الشَرِه... لاتولِّد أمناً ولا صناعةً ولا زراعةً ولا علماً ولا تقنيةً... ولا تبني قوةً وجيشاً، بل تستنزف احتياطي الطاقة الخام . فاذا كان النفط والغاز هما المصدر الوحيد للمال والرفاه والاستهلاك في الحاضر، فما هو مصدره في المستقبل؟.
طبعاً تعيش هذه الصورة الحقيقية القاتمة في ظل تواصل تجربة وتقنية الاستعمار التي تتراكم منذ مايزيد على خمسة قرون ولا تزال. ويتم تحسينها وتطويرها بهدف ضبط بوصلة تكريس تخلّف وتبعية واستغلال عالم العرب والمسلمين. منها مايجري في الامارات من تهميش المواطنين وتهديد هويتهم ولغتهم العربية وثقافتهم الاسلامية على خلفية بذخ استهلاكي اسطوري للفئات الحاكمة والثرية.
وهكذا يَصْعَد سُلَّم التغريب الاستهلاكي الاماراتي عالياً، لكنه معلّق في الهواء... منذ سبعينات القرن العشرين: من تَمَنِّي الحصول على احتياجات أساسيّة وبسيطة... الى الأول والأكبر والأعلى في العالم.... والى منافسة ميامي ونيويورك ولاس فيجاس... والى كل شيء من ذهب.
ليت التغريب في الامارات يأخذ من الغرب المزدهر الجوهر الجيد والايجابي الرائد من منجزاته المذهلة في التطور العلمي والتقني والتنظيمي والعسكري... وكل ماهو مفيد للاحياء الاسلامي المعاصر. ولا يقتصر الاقتباس على الجانب الهابط وغير الملائم للمسلمين من ثقافة الغرب.
ودّ المسلمون أن يسمعوا عن تشييد أفضل مجمّع ثقافي عربي - اسلامي يُدَرِّس تراث المسلمين ويستخلص منه الحي الصالح للبعث والاحياء المعاصر، لنبذ التغريب الاستهلاكي.
وودّ المسلمون لو سمعوا عن تشييد مدينة للعلم والتقنية يُستخلص فيها أفضل برامج للتربية والتعليم في العالم. ومؤسسة ترجمة للتراث الانساني المفيد؛ وكذلك للمتابعة اليومية لكل انجاز معرفي في العالم... ومختبرات لتطوير البحث العلمي... وليس أعلى برج في العالم، ولا أكبر منتجع سياحي في العالم، ولا أكبر " مول " في العالم.
وودّ المسلمون لو سمعوا عن تشييد أكبر مجمع صناعي عسكري في العالم لانتاج القوة العربية – الاسلامية وتحقيق الاكتفاء الذاتي والقرار المستقل. وليس استيراد الاسلحة بمئات مليارات الدولارات.
وودّ المسلمون ان يسمعوا عن تشييد شبكة فعّالة من المختبرات والمصانع القائمة على تصنيع النفط والغاز وتصدير منتجاتها الى العالم... وليس الاقتصار على تصدير الطاقة كمادة خام واستيراد منتجاتها من الخارج.
وودّ المسلمون ان يسمعوا عن تشييد أفضل المختبرات في العالم للبحوث الزراعية لتحديد طبيعة أراضي العرب والمسلمين وما يصلح فيها ويتلائم مع معطياتها من زروع وأشجار وحبوب وفواكه وخضروات. وليس استيراد الغذاء سنويا بمليارات الدولارات، ولا السماح باستمرار الزحف الصحراوي على المستوطنات الريفية والاراضي الزراعية، ولا بدبيب وزحف البناء على المزارع و التربة الصالحة للزراعة.
وودّ المسلمون لو سمعوا عن تشييد أكبر مختبر في العالم للبحوث والصناعات الطبية والصحية لتوفير الدواء محلياً، ومعالجة الامراض المستعصية. وليس استيراد الدواء من الخارج، ولا إرسال المرضى: لامواطنين ولا رؤساء، الى لندن وباريس وبرلين ونيويورك... للعلاج.
وودّ المسلمون أن يسمعوا عن تشييد جامعة للعمارة والفنون الاسلامية وسبل إحياء الصورة الفنية الاسلامية المُبْهِرَة في العمارة والفنون، واجهة ثقافات الأمم والشعوب... وليس استيراد عمار غير وظيفي وفنون حداثة عبثية.
وودّ المسلمون ان يسمعوا عن إنشاء مختبر علمي متخصِّص بمواد البناء المحلية واستخدامها في تصنيع البناء؛ خاصة وان العالم الاسلامي بحاجة الى تشييد عشرات الملايين من الوحدات السكنية وما يتبعها من منشآت للمرافق والخدمات العامة. ( انظر: د. سعد الجادر، استخدام الرمال في تصنيع البناء في دولة الامارات العربية المتحدة، مجلة التنمية في الخليج، العدد الثالث، أبو ظبي، مايو 1979 ). وكذلك:
(A. Krippa, V. Ostretsov, Saad al-jadir, System of Large – Panel Construction for Arabian Countries, Moscow, 1973)
وودّ المسلمون رؤية ترليونات دولارات الدول والاثرياء في الخليج تسدّ جميع ديون العرب والمسلمين الخارجية التي كبّلهم بها الظلم الغربي بفخ ماكر يمنع من الخروج من دائرة التبعية والتخلف والاستغلال، عوضاً عن تخزين هذه الاموال في بنوك الغرب أواستثمارها فيه.
ويودّ المسلمون أن يفهم حكام الخليج بأن من واجب الأخوة العربية والاسلامية والثقافية والتاريخية والجغرافية استثمار مليارات دول الخليج في تطوير عالم العرب والمسلمين، وليس دعم بنوك الغرب المرفَّهة. فمن النتائج الكارثية للقبول بحالة الاستعمار هو تحقيق حكام العرب لمصالح الغرب، ومن ذلك الاستعداد الدائم لدول الخليج لدعم اقتصاد الغرب عبر صندوق النقد الدولي. ومعلوم ان هذا الصندوق هو من أهم الأدوات والمؤسسات الاستعمارية لاحتواء المستعمرات ومنه سياسة القروض الممنوحة لها.
إضافة الى أوامر النخب الغربية لحكام المستعمرات باستثمار المال الخليجي في عمار ومؤسسات الغرب، تماماً كايداع الاموال في بنوك الغرب، أي في مستقبل مبهم وغير مضمون ينعم الغرب بهذه الأموال والممتلكات ويمدِّد ويُحَدِّث استعماره، ويعرِّض الأموال المودعة للمصادرة. لأنه وبكل بساطة، ليس هناك دولة عربية أو إسلاميّة قويّة تقف وراء هذا المال وتدافع عنه وتَسْتَرِدَّه، بل مستعمرات تتسابق وتتدافع في خدمة سادتها.
وهناك ماهو أشدّ وأدهى وأمرّ: ففي ( القدس العربي، 18/02/2013 ، الامارات العربية تساعد المجتمعات الأشد احتياجا في الولايات المتحدة )، ومن ذلك: " ... يحمل تقريبا جميع طلاب المدرسة الثانوية البالغ عددهم 2200 طالبا جهاز " لاب توب ماك بوك " بتمويل إماراتي ". اضافة الى افتخار سفير الامارات لدى الولايات المتحدة بقوله الذي نقلته صحيفة " واشنطن بوست ": " نحن نتعرف على الاحتياجات ونحاول المساعدة ... كان علينا مسؤولية إخبار الأمريكيين من نحن... لقد ذهبنا الى افغانستان معكم. وذهبنا الى ليبيا. ونحن أكبر سوق لصادرات الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط ".
ياله من فخر مُحزِن لكاريكاتور كئيب، لكنه بالتأكيد حريّ على إبقاء هذا السفير في منصبه لألف سنة قادمة!.
واذا كانت النخب الغربية تقدِّم مساعدات الى المستعمرات، فان هذه المساعدات ما هي إلا جزء ضئيلا جداً مما نُهِبَ ويُنْهَبُ من موارد وطاقات شعوبها. وما التخلف والبطالة والفقر والجهل والمرض... الا نتيجة الظلم الاستعماري الذي يتواصل قرونا... فهل الغرب فقير لكي تساعده مستعمرات الخليج؟.
لقد نهضتْ ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية بوجود وجهود كادر علمي – تقني من العالِم الى العامِل. وتنهض روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتي بنفس هذه المزيّة. وكذلك تنهض إيران... وستنهض مصر وسورية، ان شاء الله، تبعاً لهذه القاعدة. وكان يمكن للعراق كذلك أن يُعاد بناؤه بعد غزوه لولا توزيع الغزاة لأشلاء العراق على عصابات دموية لوحوش المتحاصصين، والقضاء على البنية العقلية – الفكرية – الاكاديمية – المعرفية باستهدافها بالقتل والتهجير.
إنها روح المواطَنة والوطنية التي تبني العقل ونظام التفكير والحكمة التي تقَوِّم الامة وتحرسها في الطريق مهما تعرّض له هذا الطريق من تطوّر ونجاح، أو من تعثّر وإخفاق. ولكن بالتاكيد ليس بوفرة المال الفائض جداً عن الحاجة، ولا بالاستعباد الطوعي للمال، ولا باتباع الهوى والركض وراء نَقْع الغرائز فوق الطاقة .... " فوق الشِبْعَة " بتعبير إخواننا المغاربة.
" ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون مابخلوا به يوم القيامة..."، " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ". إذ يُحرِّم الاسلام الاسراف والتبذير والتقتير، وذلك لكي يؤدي المال دوره في توازن الحياة الانسانية وتحقيق مراميها الحضارية على الأرض.