أول الكلام :
في هذه الفرزة التي بلغت المائة أريد أن أختصر ما وسعني الاختصار..
يأتي المولود الى الحياة دون إرادة منه، يأتي صفحة بيضاء ثم تبدأ هذه الصفحة تفقد نصاعتها وبراءتها لكثرة ما يسجل فيها من عقودعائلية ومدرسية ومجتمعية ! الطفل يمتلك بالفطرة عقلاً استكشافياً ذكياً عن طريق الأسئلة التي يفصح فيها عمّا يدور في تفكيره، ولأجل هذا وصف ماركس ببلاغة متناهية مرحلة الفلسفة الأغريقية بأنها مرحلة طفولية في تاريخ الفكر الإنساني.. لأنها فجرت أسئلة عن المحظور وعن المسكوت عنه.. وكشفت عن وهم ملابس الامبراطور الجديد !!
***
أحسب أن أوربا تقدمت لأنها أخرجت الطفل من سطوة الكنيسة ومن سطوة المجتمع وعاداته وكان عصر التنوير قد أنار عقول الكبار والأطفال.. وقد كان لكتاب المفكر المجدد جان جاك روسو وأعني بالكتاب هو "إميل أو التربية" أهمية بالغة لتأسيس علم تحرير الطفل وأعني به علم التربية الذي مهّد لعلم آخر هو علم نفس الطفولة والمراهقة أو ما يسمى ب "علم النفس التكويني"..
وأهم ما يعنى بتحرير الطفولة، هو السماح للطفل بالأسئلة أي بإقرار حقه في السؤال، والإجابة علي أسئلته بصدق.. أهم سؤال يسأله في الغالب لأمه : كيف ولدتُ ؟ من أين أتيت ؟ لماذ النساء المتزوجات يُولِدن ؟ ولماذا لم تولِد غير المتزوجات ؟! من هو الله ؟ كيف يكون شكله ؟ إذن من خلق الله ؟! لماذا تختلف البنت عن الولد ؟ . لماذا تحمل المرأة وتولد ولا يحمل الرجل ولا يولِد ؟!
ينتقل الطفل الى المدرسة وسيرى الطفل أن في حصة الدين يُخرج بعض الطلاب من درس الدين، لأنهم غير مسلمين.. سيعرف الطفل أن هناك أديان : مسيحية ويهودية وصابئية ؟ سيسأل الطفلُ المعلم : لمّا نعلم إن الله "أحد" يعنى واحد لماذ لا يجعل الدين واحداً لكل البشر؟! سيجيبه المعلم بحِدّة.. وسيقول له : إن الإسلام هو آخر الأديان وهو أحسنها وإن نبينا هو أحسن الأنبياء...
واحدة من علامات ذكاء الطفولة أيضاً بل أهمها هو الخيال الواسع الذي يريد الطفل أن يعبر عنه في رأسه الصغير.. فيرى ما لا يراه الكبار.. فعندما يروي أنه رأى أسداً صغيراً في غابة، وغلب الأسد الذي فرّ مذعوراً.. سيوصم بالكذب وسيقال له أن الله يعاقب الكذّاب ويرميه في النار.. ومع ذلك سيروي لهم المعلم قصصاً على ألسنة الحيوانات وسيُحب القصص هذه التي توسع خياله وذاكرته ولكن ما يقلقه أنها كاذبه لأن الحيوانات لا تتكلم..
سيعلم الطفل أن السرقة حرام، حيث تقطع يد السارق، وعندما تُسرق سترته الجديدة التي خلعها في حملة تلقيح ضد الجدري .. يتساءل بقلق هل ينبغي قطع يد السارق.. ويكتشف أن الأسئلة توَّلد أسئلة .. حتى يصل الى سؤال : لما كان الله عادلاً لماذا لم يخلق الناس متساويين حتى لا يضطر الفقير أن يسرق ولا يعاقب بقطع اليد في الدنيا، ولكي لا يلقى في جهنم في الآخرة ؟!
يتعلم في درس الدين "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"، ولكنه يعرف فلاناً توضأ على عجل ليلحق بالصلاة وترك معطفه في المصلى وعندما ارتداه وجد أنه أُفرِغ مما فيه من مبلغ غير قليل ! أما سرقة النعل في الجوامع فهي عادة شبه جارية !! وسيحجم عن سؤال المعلم عن أن الله يغفر ذنوب من استطاع سبيلا للحج إلى بيته أما من لم يمتلك المال ليحج هل سيواجه الله مع ذنوبه ؟!!
قبل أن يبلغ المراهقة سيبدأ بقراءة قصص الحب الذي يصوَّر أنه جميل .. بالتوازي مع الغناء الذي يمجد الحب ويبدأ يشعر بأحاسيس سارة لمشاهد الحب وما يقرأ عنه.. الكل يمجد الحب، وليلى مراد تغني صراحة : الحب جميل للي عايش فيه.. لكنه يعرف فلانة قد قتلت لأنها أحبت ومارست الحب مع من تحب ؟! ويسمع عن التلميذة فلانة نبذت لأنها استلمت رسالة ممن تُحب... والحديث يطول !!
كل الذي ذكرت هو غيض من فيض يجعل الطفل قلقاً مطوق الذكاء وعندما يكبر يصبح مزدوج الشخصية، خائفاً وجلا يكتم الكثير المقلق ولا يبوح به..
نحن بحاجة إلى تربية تُفهم وتُعلم أن الدين هو حالة شخصية لا علاقة لها بالمدرسة، علينا أن نفهم أن السرقة عمل لا أخلاقي يتنافى مع الضمير ويرفضه العقل.. نأباه لأنه يتضمن اعتداء على حق الغير.. وليس مخافة من نار..علينا أن نفهم أن الحب حالة إنسانية وجمالية تنشأ بين طرفين متراضيين بشكل متكافىء ولا علاقة لها بالدين.. وإن مساعدة الآخرين لا لكي نثاب عليها بل أنها حالة إنسانية ووجدانية ترفع من شأن الإنسان وتخلصه من الأنانية، وقد يحتاج أي إنسان لمساعدة الآخر حتى تصبح قانوناً.. وعلينا أن نفهم إن الحرية والديمقراطية شأنان متلازمان وهما حق من حقوق الإنسان.. ونرى أن ممارسة الإنسان الحرية تصبح حقاً له مع الأخرين كي تصبح نظاماً نطلق عليه الديمقراطية، تضمن تداول السلطة بشكل سليم لا غش فيه .. تجعلنا أحراراً في من نتوسم به الكفاءة والنزاهة وليس لها علاقة بالدين، فإن تدخل بها الدين أفسدها وأفسدته..
ومثّلنا واقعنا الحالي حينما مورس الفساد باسم الدين وباسم الدين اصبحنا عنصريين لانحب ابناء ديننا فحسب بل نحب ابناء طائفتنا ونراهم خير الأبناء وهم أسوء من حكم العراق..
نحن بحاجة إلى تربية علمانية تخرّج جيلاً معافى لاينحاز لطائفة أو دين أو قومية.. وليبقَ الدين في المعبد بعيداً عن المدرسة وبعيداً عن الدولة ومصالحها؛ وشفيعي ودليلي في ما أزعم وأقول هو ما حلّ بالعراق.. لقد صادر الدين الوطنية، وبهذه المصادرة بزغت ظاهرة الذيول حين صار المذهب أهم من الوطن وصارت العشيرة أهم من الشعب.. وهنا تكمن العلل...
17ت2/نوفمبر 2020