بغاث الطير وطائر الميمك والسوذق
قدّم الشاعر جواد كاظم غلوم ثلاث قصائد شخوصها ثلاثة ضروب من الطير، تناولنا "بغاث الطير" تلك الطيور الفاسدة المُفسِدة، و "طائر الميمك" ذلك الطائر الجبلي الجميل المهاجر الذي يعود بعد طول غياب فيرى الأرض خرابا يبابا بعد أن كانت خِصبا واخضرارا، فما عساه يقدم لنا في "السَّوْذَق"؟! عندما سمعت بالسوذق أول مرة، خِلتُه طائرا أسطوريا أو خرافيا من عالم "كليلة ودمنة" ولا أدري لماذا؟ ربما للترادف اللفظي مع طائر آخر هو "الفينيق" الذي ينبعث حيّا من الرماد! فلئن كان هذا الطائر من إبداع الميثولوجيا الإغريقية، فإن "السوذق" جاء اسمه من أصول فارسية معربة من "سودناه "ليلة الوَقود" الذي يتأجج به اللهب المقدس، فعُرِّب الى "الشَّذَق". فالسَّوْذق والسَّوْذنيق والسَّوذانق: الصقر وقيل الشاهين، قال لبيد: وكأني ملجمٌ سوذانقا***أجدليا ك!رَّه غير وركِل،،،بينما أنشد النضر بن الشميل عن الأرقط: وحاديا كالسيذنوقِ الأزرقِ*** ليس على آثارها بمشفق..(راجع اللسان: سذق)
بينما يهِّمش شاعرُنا غلوم طائرَه المدهشَ هذا: من أنبل الصقور وأقواها عندما يشيخ ويهرم يستجمع كلَّ قُواه الخائرة وبعناء شديد يطير الى قمة الجبل ويسقط في عشّه في الأعالي ويموت منتحرا. إنه طائر فريد! يا لَوقاحة الإنسان البَغاثة، تراه يسرق وينفضح ويندحر ويجرم وينهزم ويبقى متشبثا بكأس الحياة المُرّة حتى آخرِ قطرة!
وإذا كان العرب قد ألّفوا مصنفات في وصف الحيوانات وطباعها وسلوكها ككتاب "الحيوان" للجاحظ و "حياة الحيوان الكبرى" للدميري" فلا شك أن التقدم العلمي خطا خطوات واسعة في دراسة الحيوان وتصنيفه إذ أُلِّفت الموسوعات لكل صنف من صنوفها ولم يُكتفِ بدراسة سلوكها دراسة دقيقة وفق أحدث اجهزة التصوير والمراقبة، ومع تطور علم النفس وتقدم الأبحاث في مطلع القرن الماضي تم تطبيق النظريات ونتائج البحوث النفسية على الحيوانات ومن يبحث في علم نفس الطيور (على سبيل المثال) سيُدهَش لأعداد المؤلفات والدراسات في هذا المجال، فقد وجد العلماء أن كثيرا من الأمراض والحالات النفسية المشتركة بين الإنسان والحيوان بما فيها الإكتئاب الذي قد يصل الى الإنتحار!
والإنتحار إن لم يكن رد فعل لصدمة عنيفة (كخسارة أو فشل أو فضيحة...) فهو متلازمة استلابية بل قمة الإستلاب أي أعلى درجة التناقض مع المحيط والذات، وسيطرة تامة لفكرة اللاجدوى من استمرار العيش فيضع الفرد نهاية لحياته بطريقة ما. ولا نود الاستفاضة في موضوع انتحار الحيوان، بيد أن انتحار السوذق يُعطي معنى الانتصار على الذل والهوان، وكأني به يردد قول الشاعر: إن موتي انتصار.
في الحركة الأولى يقدم السوذق نفسه باعتداد عال بالنفس وبمفردات قوية الدلالة فهو سيد الفضاء، كلماته تأتي بإيقاع سريع مع روي الميم والراء الساكنين،مما يوحي بأنه يبسط جَناحيه ويضربهما بقوة ليبدأ بالإرتفاع بما يُعرف بالطيران المجذافي حتى إذا بلغ المدى الذي يُريد من العُلو ويبدو سيد الفضاء حينئذ يبسط جناحيه ويستعملهما كدفة يختال في طيرانه يرنو الى الأسفل بعيون حِداد لا تُخطيء طريدتها سواء في الجو أو البر:
أنا هو الشاردُ في القممْ/ صيّرني الإله كائناُ/ أجول في الفضاء باحثا عن الرِّممْ/ لعقت ناراٌ/ وتجمرتُ مراراٌ في الحِممْ/ خيّرني الغله ان أكون مارجاٌ من نارْ/ أو طينةٍ تضجُّ بالأسرارْ/لكنني فضلت أن اكون هيكلاٌ/مشرداٌ أعيشُ في شممْ
هذا هو السوذق إنه طائر الإباء والشمم، لا يبيت على ضيم ولا يتطفل حين يحلو التطفل للبغاث. أما في الحركة الثانية فهو بلغ أعلى مستوى يقدِر عليه، وسيتكلم بأعلى صوته لأنه سيخاطب الخالق ويريد أي يُسمعه شكواه ومحنته علّه يساعده ويأخذ بيده، فلنسمعِ الصوت و لنتأمل كيف تتغير اللغة والقوافي الى روي ساكن قبله احرف مد تتساوق مع الألم، فالحوار فريد والكلام أولا للسوذق الذي يعرِض شكواه للخالق السميع:
ومن عُلوٍّ شاهق بعيدْ/ ناديتُه/قلت له: ياخالقي العظيمْ/ أنا ابنُك المطيعْ/ هب لي جناحين كبيرين/ لكي أجولْ/ أرش في الآفاق طيبا/ أنثرُالرَّحيقَ والعبيرْ/ من أول الأرض الى آخرها/ البعيدة المنال/ألملم الزيف وأغسل الأدرانْ/ وسط أديمنا الغارقِ بالأحزان،.
ولا زلنا بالحركة الثانية، تبين لنا أن السوذق لا يريد من الخالق أن يمنّ عليه لذاته بل يريد أن يرش العطر بالآفاق وينثر الورود على كل "المعمورة" ويجعلها نظيفة من النفاق والخطايا والدماء فهو ليس يطالب أن يكون قويا متجبرا، فلنسمع السميع ماذا أجاب:
يا أيها المخلوقْ/ يكفيك ما أُعطِيت/ وهبتُك العيونَ تبصرُ البعيدْ/ والشاردَ الغائبَ والخفيْ/ ملّكتُكَ الفؤادَ كالصوانْ/ فرشتُ هذه الأرضَ مهادا/ يرتمي بحضنها الحنان/...منحتك الجنةَ عرْضها البحارْ/ تخومها الجبالُ/ والسهولُ/ والوديانْ/ نثرت في أعاليك من المنِّ/ من السلوى/ بما يفيضْ/ سققت في سهولك "الكوثر"/ تسقي في ربوعك النماءَ والنقاءْ/ زرعت في واديك نخلا مترعا/ ما أن تهزهُ/ يسقط حبات جنيات/ كشهد ماله نظير.
ويستمر الخالق في إسداء النصحح للسوذق مع أدعية علّها تهدّأ من روعة وتسّكن آلامه بعد أن يتخلص من فانوسه السحري في مكب للنفايات:
تعال كي أهمس في أذنيكْ/ أدعية الخلاص والنجاة/ تسمعُ من جلالتي/ ترتيلة السماء/ وابتهالا من ملائك أطهارْ
ويبدو أن السوذق شعر بخيبة أمل، فما جدوى الأدعية إن لم تغير الواقع، إن لم يحظ بأجنحة أقوى وأن يمنحه البأس والقوة والخلود لكي يقضي على بغلث الطير التي مانفكت تعيث في الأرض فسادا لذا قرر ألخالق أن يبوح بسر فما هو السر؟
هناك في السماء/ تعكر الأجواء/ترجم بهجة النجوم بالخرابْ/تعرقلُ الخطى/ وتسل بعيدا مثلما السرابْ/ إياك أن تغفل عنها/ أيها السوذق يامخلوقي الشريد/ ...عليك أن تجذَّ رأسها المليء بالسموم/ عليك أن تبترَ نسلها المليء بالزقوم/ عليك أن ترجمها من حجر السجّيل/ بفأسك الثقيل.
هناك تماسك فريد، وجزالة في اللفظ ووضوح في العبارة الشعرية وصور تتالى بل تنهمر رغم طول القصيدة، أنه تمهيد لسر خطير يبوح به الخالق لخلوقه الذي سينكفيء حسيرا! لأن الخالق أوصاه بالإنتحار!! بغاث الطير لم تُبقِ مكانا في الأرض لم تفسده بل صعدت الى السماء ! يحكى أن الشاعر الشعبي ملا عبود الكرخي أراد ان يشتري سمكة فراح يفحص ذيلها ويشمه فقيل له: ياملا أنما تُفحَص السمكةُ من رأسها وخياشيمها لا من ذيلها، فرد: أعرف ان الرأس عفن أنما الذي لا أعرف هل وصل العفن الى الذيل! يختتم الشاعر ثلاثيته بخاتمة حزينة:
وعندما يحين موتك الموعود/ عليك أن تجمع كل ما لديك/ من شقاءْ/ من فيض كبرياءْ/ ومن تجهم الظلماء/....وترتمي في عشك المهجور في العلياءْ/ تموت وضاء كما العيون/في مواسم البكاءْ
من يتأمل "السوذق" يلحظ بوضوح سيادة المفردات والتعابير القرآنية بما ينسجم والحوار بين الطائر وخالقه: مارج من نار، فرشت هذه الأرض مهادا، الجنة عرضها البحار، المن والسلوى، الكوثر، نخلا تهزه فيسقط حبات جنيات، ترتيلة من السماء، ملائك أطهار، ترجمها من حجر سجّيل.....الخ.
يبدو أن الشاعر جواد كاظم غلوم وقد اكمل ستة عقود وزادها عامين نجح في توظيف خبرته الحياتية فقد نشر شيئا من شعره ومقالاته الأدبية منذ كان طالبا في التربية قسم اللغة العربية في جامعة بغداد ثم استاذا للغة العربية وآدابها في العراق وقد ذاق مرارة الغربة ولم يرجع الى بلده إلا في عام 2004،(راجع قصيدة طائر الميمك)، هذه الخبرة في الحياة وسعة الإطلاع أثرت عبارته الشعرية صوتا ولغة ومكنته من السرد الشعري بانسيابية وسلاسة رغم طول قصائده. فالنص الشعري عنده متحرك بديناميكية تخدم الرمز بفاعلية ملحوظة مع تدرج من النثرية السائدة في"بغاث الطير" الى أعلى مدى من الأيقاعات وتنوع في القوافي في"السوذق" مع إعطاء طيوره المدهشة لغاتها المميزة.أختتم كلامي بمقولة للشاعر الناقد تي. أس. أليوت:"ليس الشعر إطلاقا لسراح العاطفة وإنما هو هرب من العاطفة، وليس هو تعبير عن الذات بل هو هرب منها، فيجهد الشاعرجهده ليحول آلامه الذاتية الخاصة الى شيء خصب غريبن شيء كوني عام لا ذاتي في عملية سكب الذات أو بمعنى أعمق سكب حياة الأديب في الشخصية التي يخلقها"(النقد الأدبي ومدارسة الحديثة/ستانلي هايمن/ت:د.إحسان عباس ص 146ج1) وهذا ما فعله الشاعر جواد كاظم غلوم.
انتهى--