الاحد : 19 ـ 4 ـ 2009
معاصي كريم جخيور
"أنا الخاسر ترفي/ عالية أقدامي وراسخة/
والملائكة دائمة الطواف/ مترعة أساريرهم بالغبطة/
وفي أكوابهم عسل الحوريات"
(تراجيديا - خارج السواد)
في معتقل "الرضوانية"، قرر كريم جخيور، الشاعر البصري، أن يزداد جمالاً. أسرَّ بقراره هذا الى أخوته في الزنزانة البغدادية، بعدما تيقن تماماً أن الشعر صعب مركبه، مثل الكرامة التي هي فرس عنود، لا يقرب سرجها إلا فارسها.
لقد ولدته أمه شاعراً، ولذلك اكتسب اسمه صفته من تلك الولادة، مثلما حدث في ذلك اليوم في سنة قبل أن يدخل العراق العقد الأخير من القرن الماضي.
كان كريم يعرض "صينية المعجنات" عند رأس السوق البصري الشهير، وهو يكتب في سره مسودة قصيدة :
اعترف الآن لكم/
على مهبط الماء ولدتني أمي/
فاغتسلت به جنوباً طاهراً/
وماء فراتاً
دنا منه اثنان، فقال الأول: أنت الشاعر كريم جخيور؟
- نعم، أنا هو.
وهو في "سيارة المخابرات"، بين اثنين سحبا أقسام سلاحيهما، أرسل الشاعر المعتقل، كلمة وداع إلى "صينية المعجنات" و"السوق" و"الأسرة" و"البصرة" و"العراق" وكان يعرف انه صائر إلى التنور. وهناك، في سنة وستة أشهر، أدرك الشاعر الرعوي هذا انه لن يخسر شيئاً أبداً، بعدما قرر أن يربح نفسه.
اليوم الأول هو اليوم الثاني من السنة الأولى، وهو اليوم الأخير من السنة التالية أيضاً. لقد تم وضع الزمن بالقرب من "صينية المعجنات"، عند رأس السوق البصري الشهير. أما زمنه الشخصي فهو الشعر، شعره الذي كان يقاسمه الأرق، وقسوة آلات التعذيب.
قال له المحقق: "أنت شاعر، اقرأ لي قصيدة".
- "ليس هذا مكان للشعر".
قال كريم جخيور، للمحقق الأنيق، الأشقر، الذي أراد أن يتلهى بكرامة إنسان معذب، وشاعر على فطرته، ولم يكن ذلك مكاناً للشعر، غرفة المحقق، لكنه حوّل مكان العذاب إلى منزل للعائلة.. وقصيدة.
ينتصر السجين على السجان بالفن.
جعل من علبة الجبن الصغيرة كأس شاي، وطاسة ماء، ومبولة. نعم، مبولة.. فهو سعيد سعيد ذلك الذي تجود عليه الأيام بعلبة جبن صغيرة، سوف يحول "تنكها" بعد ذلك إلى إناء متعدد الاستخدامات.
اما كيس " البلاستيك " الصغير ، الذي يقع بيد السجين صدفة ، فكريم يجعل منه مرحاضا مريحا . كانوا يخرجونهم الى المراحيض مرة واحدة في اليوم ، وياخذ " الاستاذ " السجان بالعد من الواحد الى الخمسة ، ثم يفتح الباب على السجين .
اي فضيحة ؟
كان كريم يلقي بكيس البلاستيك في المرحاض ، ويتطهر بما يتيسر من ماء في تلك الثواني الخمس .
هناك، في "معتقل الرضوانية" ازداد كريم جخيور، جمالاً وطهراً وطهرانية. صار شفافاً مثل قصيدة، وازداد عتقاً مثل كرم يثربي، لذائذه الشعر.
جمعة اللامي
www.juma-allami.com
juma_allami@yahoo.com