مرة اخرى يقتلون محمد الدرة. ينبشون جثته في تقارير تحت صياغات تبدو مصدرا للقوة والثقة :"دولة اسرائيل ، وزارة شؤون العلاقات الدولية والاستراتيجية" كل هذه الفخامة امام صورة طفل يتعرض لطلقات الرصاص ووالده يحاول عبثا ان يحميه، المصور من شبكة فرانس -2 الذي سجل في الوقت الصحيح حادثة قتل محد الدرة واصابة والده جمال كان يعلن بوضوح ان الطفل محمد ووالده يتعرضان لاطلاق النار من الجانب الاسرائيلي. كنت بالصدفة في القدس وشاهدت المأساة بالبث المباشرعبر تلفزيون فلسطيني كما اظن.
"دولة اسرائيل، وزارة شؤون العلاقات الدولية والاستراتيجية".. لوهلة يبدو الأمر انه قرار استراتيجي لدولة اسرائيل. ثم تمخض الجبل فولد تقريرا... لجنة فحص حكومية قدمت تقريرها لرئيس الحكومة : اسرائيل لم تقتل محمد الدرة، باستطاعتك سيدي الرئيس ان تستأجر سرير جديد في طائرة الرحلة القادمة لتنام بهناء وراحة بال.
ليس مهما سيدي رئيس الحكومة ان اسرائيل قتلت 951 محمد درة في الضفة الغربية وقطاع غزة بين سنوات 2000- 2008 والقتل يتواصل، ذلك حسب تقارير موثقة نشرتها "منظمة بتسيلم" منظمة لحقوق الانسان في المناطق المحتلة، وهي منظمة اسرائيلية (يهودية) واؤلئك "الدرر"، اذا صح ان نجمع اسم "درة" بهذا الشكل، هم قتلى وثق قتلهم بالتصوير والشهادات فاين لجان التحقيق و"وزارة الشؤون الدولية والاستراتيجية" لتبرئ القتلة؟
فقط محمد الدرة يقض مضجعكم؟
لا بد من سؤال : لماذا لم تُقم اسرائيل لجان تحقيق حول مقتل الأطفال الفلسطينيين ال 951 لفحص ظروف قتلهم؟ فقط محمد الدرة يقلق ضمير السلطة ؟ ام القتل بالبث المباشر، على مرأى الراي العام العالمي، من مصدر اخباري غير عربي، اوروبي - فرنسي، هو ما يفزع الاحتلال الاسرائيلي وطهارة سلاحه المزعومة؟
محمد الدرة أصبح رمزا للمعاناة التي يعيشها اطفال فلسطين، رمزا للاستهتار بحياة الأطفال واعتبارهم، على لسان مدعي اسرائيلي عام قالها امام وفد برلماني وقانوني بريطاني جاء ليفحص واقع الأطفال الفلسطينيين تحت الاحتلال الاسرائيلي: بانهم "مخربون مقبلون" وبالتالي لا حقوق طفولة لهم. كثيرا ما اجبروا الأطفال على تنفيذ مهمات شكلت خطرا مؤكدا على حياتهم.
هل نسينا اجبار طفل في غزة ان يفتح احدى الحقائب لأن جندي "طاهر السلاح" تخوف ان تكون حقيبة ملغومة؟
هل يمكن نسيان صور الأطفال والكبار الذي اجبروا ان يتحولوا الى درع بشري للمركبات العسكرية الاسرائيلية؟
هل نسينا كيف كانوا يجبرون الأطفال والكبار، على طرق ابواب منازل المشكوك بوجود مقاومين مسلحين في داخلها مما يعني ان الرصاصة الاولى ستكون من نصيب الفلسطيني طفلا كان ام بالغا؟
القناة الفرنسية (فرانس-2) كانت أيضا ضمن الذين بثوا قتل الدرة بشكل مباشر، المصور الفلسطيني اياه كان يعمل لحسابهم. السبب ليس صعبا على الاستنتاج . هنا تسجيل فلم لعملية قتل بالبث الحي والمباشر. هل من وثقة اكثر ثقة من ذلك؟
الفلم يثبت ان اطلاق الرصاص استمر بدون توقف لفترة طويلة جدا. كان واضحا ان جمال الدرة وابنه محمد ليسا مسلحين وتواجدا بالصدفة تحت اطلاق نيران بلا تمييز. هل كان من الصعب على مصوبي النيران على جمال الدرة وابنه ان يوقفوا اطلاق النار لدقيقة واحدة لينسحب الطفل محمد الدرة ووالده الى مكان آمن؟ هل كان سيهزم جيش الدفاع لو أمر القائد الميداني جنوده ان يكفوا قليلا عن توجيه الرصاص حيث يختبئ الوالد وطفله؟
السؤال المقلق أكثر هل كان اطلاق الرصاص على جمال الدرة وابنه مقصودا كهدف استراتيجي او تكتيكي ، والله لا اقول ذلك بسخرية. أطفال فلسطين "مخربون قادمون" واسرائيل لا تعدم الوسائل للتعامل مع المخربين!!
لم أقرأ التقرير ولن تصل بي التفاهة لقراءة تقرير مقررة نتائجه سلفا. اكتفيت مما نشر عنه في الصحافة العبرية.
مراسل فرانس -2 وثق بكاميرته الحادث. من نصدق الوثيقة المصورة ام الوثيقة المتنصلة؟
المضحك حين يحقق طرف ما مع نفسه.
حسب ما نشر عن تقرير "لجنة التبرئة الاسرائيلية"، التقرير لم يقدم اي وثيقة، او اثبات ما ملموس او عملي، يثبت ما انتهى اليه التقرير من تبرئة الذات.
المضحك المبكي ان التقرير يؤكد انه لا يوجد اثبات ان جمال الدرة وابنه اصيبا في الحادث المصور؟ يتجاهل التقرير ان جثة محمد الدرة شرحت في مستشفيات عمان وهناك تلقى الوالد العلاج واجريت له عمليات جراحية بسبب اصاباته الصعبة.
اللجنة أيضا لم تتوجه لمراسل فرنس -2 لأخذ افادته. من يحتاج من " لجنة تبرئة اسرائيل" شهادة من مصدر وثق القتل بكاميرات الشبكة الفرنسية؟ سيقول ان الصورة الموثقة أصدق من مليون رواية أخرى.
ان العودة الى مأساة محمد الدرة هي قتل جديد أشد ايلاما من الحادث نفسه. خاصة بالتشاطر الاسرائيلي الوقح. كان افضل واكثر احتراما لو اجرت اسرائيل تحقيقات عن مقتل 951 طفلا فلسطينيا، بما فيهم محمد الدرة، وان تستنتج ان الاحتلال هو الجريمة الكبيرة ، ليس ضد الشعب الفلسطيني فقط، بل ضد المجتمع اليهودي ايضا، حيث يجعل اخلاقيات القتل تسود في المجتمع الاسرائيلي.
تعالوا نقرأ من جديد ما كتبه صاحب الضمير الانساني ابراهام بورغ رئيس الكنيست الاسرائيلي الأسبق حول اخلاقيات المجتمع في اسرائيل لعل ذلك يكون افضل ما انهي به مقالي، كتب في كتاب اصدره تحت اسم "لننتصر على هتلر":
-" الحرب حولتنا ، بدون ارادتنا ، من ظاهرة شاذة ، لنصبح قاعدة الشواذ نفسه . طريقة حياتنا قتالية مع الجميع، مع الأصدقاء ومع الأعداء. قتال مع الخارج وقتال مع الداخل ، يمكن القول، ليس بتوسع أو بشكل مجازي ، انما بحزن وثقة ، ان الاسرائيلي يفهم فقط ... القوة . هذا الوضع بدأ كحالة استعلائية اسرائيلية امام عجز العرب من التغلب علينا في ساحات الحرب ، استمر كأثبات للكثير جدا من التصرفات والقناعات السياسية ، التي لا يمكن قبولها في عالم سوي. كل دولة تحتاج الى قوة بدرجة معقولة. الى جانب القوة تحتاج كل دولة ايضا الى سياسة وقدرة نفسية على لجم القوة، لنا توجد قوة ، الكثير من القوة وفقط قوة ، لا يوجد لنا أي بديل للقوة ولا نملك أي فهم أو ارادة عدا ان نجعل القوة تتكلم .. واعطاء جيش الدفاع الاسرائيلي لينتصر .. في نهاية الأمر حدث لنا ما يحدث لكل ممارسي العنف والبلطجية في العالم : شوهنا التوراة وشوهنا مفاهيمنا ولم نعد قادرين نحن انفسنا على فهم أي شيء آخر عدا لغة القوة، حتى على مستوى علاقة الزوج بزوجته، علاقة الانسان بصديقة ، علاقة الدولة بمواطنيها وعلاقة القادة ببعضهم البعض . ان الدولة التي تعيش على حرابها والتي تسجد لأمواتها ، نهايتها كما يبدو ان تعيش بحالة طوارئ دائمة ، لأن وجهة نظرها أن الجميع نازيون ، كلهم ألمان ، كلهم عرب ، كلهم يكرهوننا والعالم بطبيعته كان دائما ضدنا ... "
nabiloudeh@gmail.com