قُلتُ : أريد اثنتي عشرة ذراعاً من ذلك القماش الأبيض.
نظر إليَّ الرجل مستفهماً، لكنني أردفتُ : تلطف عليَّ وقَسّم قطعة القماش إلى نصفين.
سأل القمّاش :
تريدهما جلبابين؟
-كفنين.
دفعت لصاحب دكان الأقمشة خمسة وثلاثين ريالاً، ووضعت الكفنين داخل صرة من قماش أخضر، وعدت إلى غرفتي في »فندق الرحمة« بالمدينة المنورة.
حدث ذلك، في موسم الحج، قبل عدة سنوات.
- 2 -
جلستُ وحيداً إلا من نفسي في غرفتي بالفندق، وأخذت أسترجع بعضاً من وقائع الأيام الستة الأخيرة.
في اليوم الأول جهزت كل مستلزمات الرحلة، وفي اليوم الثاني أخلدت إلى نوم عميق، فرأيت فيما يرى النائم، رجلاً شيخاً يقول لي : موعدنا في طيبة. وعندما أفقت من نومي، كان صوت المؤذن ينادي لصلاة العشاء.
في اليوم الثالث، فجراً، قصدت البحر، لم يكن ثمة، إلا نوارس ومياه شبه راكدة، اتكأتُ إلى شجرة غاف وأخذت أرقب الأفق البعيد، كان هناك ضوء أبيض خافت وأبخرة، وعندما أدَمْتُ النظر، رأيت رجلاً شيخاً ينهض من بين الغمام، يومىء إليَّ بيده اليمنى، ثم يعود ليغوص في الماء.
في اليوم الرابع جمعت أسْرتي، بعد صلاة الظهر، وتحدثت بصوت عالٍ ليسمعني الجميع : أنا ذاهب لملاقاته.. اصفحوا عني.
وبعد صلاة المغرب، قصدت مكان عملي، فوجدت جميع الزملاء يجلسون إلى مكاتبهم.
ناديتُ بصوت عالٍ ليسمعني الجميع : هذه رقبتي، وهذا ظهري، فمن له حقٌ عندي، فليأت ويضربني. ثم كشفتُ عن رقبتي وظهري.
ذُهل الزملاء، سقطت الأقلام على الصحف، وسأل أحدهم : ماذا أنت فاعل؟
-ذاهب إلى محمد.
في اليوم الخامس، قبل أن أركب الطائرة التي أقلَّتني إلى يثرب، عاودت زيارة البحر: كان ذلك بعد الصلاة، هجع الطير إلى أوكاره، وثمة أناس يجلسون بين الأشجار، بينما كان الأفق مضيئاً ورائقاً. ثم كاد قلبي يخرج من صدري عندما رأيت رجلاً شيخاً، يخرج من ذلك الأفق المضيء والرائق، ليقول لي : ألقاك في يثرب.
- 3 -
أجلس وحيداً في غرفتي إلا من نفسي، وصرة خضراء، بداخلها قطعة قماش بيضاء طولها ست أذرع، وقطعة بيضاء أخرى طولها ست أذرع أيضاً. الأولى هي كفني، والثانية هدية مؤجلة.
من نافذة الغرفة، شاهدت المسجد. وفي الطريق إليه تذكرت: قبل اثنتي عشرة سنة أعددتُ نفسي »للعُمْرة« والسلام على الحبيب. وقبل أن أتوجه إلى المطار بساعات، جاء إليّ من يخبرني : »لن تستطيع السفر«.
كبُرَ عليّ الأمر، وبقيت أشهراً، بل سنوات، أمنّي النفس بالسلام على الحبيب والطواف حول الكعبة، وعندما كان أحد جيراني يهمّ بالسفر إلى يثرب، قصدته وأوصيته : وأنت تقترب من قبر الحبيب انقلْ إليه رسالتي التالية : »ردَّني البَشَرُ عنك... فهلاّ قبلتني قرب روضتك؟«.
وعندما رجع جاري الحاج إلى أبو ظبي، أخبرني والدمع يترقرق في عينيه : »نقلت رسالتك إلى الحبيب، كما أوصيتني، حرفاً بحرف«.
وكانت عيناي تنزفان دماً، وأنا في طريقي إلى الروضة المباركة.
- 4 -
حاسر الرأس وحافي القدمين، وقفت على مقربة من الروضة، بين جمع شاكٍ وآخر باكٍ، آلاف مؤلفة من البشر تمدّ أذرعاً وقلوباً باتجاه مثوى الحبيب، حتى لقد التفت الساق بالساق، ولم يعد مكان إلا لمشتاق.
هذا أنا قريب منك أيها الحبيب. وكنت أختضّ من قمة رأسي حتى أخمص قدميّ : يا جد الحسنين، يا نور الله. وكنت أبكي، بل كنت أعيط.
وانتبهتُ على كفّ تربت على كتفي. كان شيخاً طاعناً في السنّ. رجل نوراني طوقني بذراعه اليمنى وانسلَّ بين الجموع، مجموعة فمجموعة، وكتلة بعد كتلة، وصَفَّاً بعد صفٍّ، والابتسامة لا تفارق محياه، لم ينبس ببنت شفة، بل كان يشير بسبابته إلى حيث مثوى الحبيب.
قال : أُدنُ، هنا يرقد الحبيب.
وصرخت : الغوث...الغوث.
- 5 -
-أنا حسين بن منصور.
رفع الشيخ وجهه إليّ، فرأيت جلالاً، وشعرت برهبة، أحنيت رأسي، وأغضضتُ بصري، وقلت في سرّي : »لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم«.
- أعرف أنك هو.
ابتسم الشيخ في وجهي وقال :
- وأنت المجنون.
- أعرف أنك تعرفني.
وسمعت الشيخ يردد في سرّه : »لا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم«.
كنا قد وصلنا، قبل نحو ساعة، الى منزل يبدو أن الشيخ يأوي إليه، هناك رأيت مجموعات من الحجاج يتوزعون على فرش من سعف النخيل. جلس الشيخ على حصير منفرد، وجلست بين يديه.
-أهلاً بك، يا مجنون الزمان.
-وبك أكثر يا أبَهْ.
-كيف حال الناس في ميسان؟
-يدعون لك بلقيا الحبيب.
رفعت بصري إلى الشيخ : إنه هو، الرجل ذاته الذي كنت أراه طالعاً من الآفاق ومن بين الأبخرة والمياه.
-سأعود بعد قليل. لا تبرح المكان.
ثم نهض قائماً، وغادر الحوش.
- 6 -
حُلُم :
وضعت الصُرّة في حجري، وقلت لنفسي: لا شيء يُهدى، أعزّ من الكفن، ثم رأيتها ترفع برقعها وتنظر إليّ، لكنّ بازاً ضخماً هوى من علٍ وحطَّ في شليلي. ارتجف الطائر وباض، ثم انتفض طائراً إلى الأعلى، فأمسكت بفخذيه وطرنا سويّاً.
في الأعالي رأيت ما رأيت : تعرّفتُ إلى الغيوم والعواصف والأمطار والرياح، ورأيتُ اليابسة والبحار والجبال والبشر والحيوان والطير وأصغر سلالات النّمال.
في تلك الأعالي، مررتُ بسماوات زرق وحمر وسود وصفر وخضر وبيض، وكان الباز يصّاعد دون أن يكلمني، وكنت أمسك بفخذيه، وصرّتي في حجري، حتى وصلنا إلى فراغ عميق، فتوقف الباز عن الطيران، فارداً جناحيه، كأنه يستعد للهبوط.
فراغ. رأيت إلى الباز، فوجدت ريش رأسه قد تساقط كله. أما بقية الريش الذي كان يغطي بقية جسده فكان لونه أشهب.
-أنت المجنون، حقاً.
لم يهتز جسمي لكلام الباز، بقيت صامتاً للحظة، ويبدو أن صمتي أغضب الطائر الضخم، فقال:
أردت إبعادك...
وأكملت مسرعاً : منه .. ومنها.
توقف الباز عن الكلام، رأيت إليه من أسفله، فوجدته مثل قبر قديم، وعرفت للتو، أنني لم أصرخ، ولم أطلب النجدة، عندما اختطفني هذا الطائر الضخم.
- لماذا لم تصرخ؟ لماذا لم تطلب النجدة؟
قلت هادئاً : الذي خلقني، وسوّاني، فصيّرني، يعرف أنني تعوّذت باسمه من كل شيطان رجيم، عندما كنت في المشيئة، وعندما خُلقت، وبعد أن خُلقت.
قال الباز : أشهد أنك غلبتني.
- بل قل : باسمه غلبتك.
- والصرة، ماذا بداخلها؟
- كفنان
- واحد لك.. والآخر،
- لزينب.
ارتعد الباز إذ سمعني أنطق اسم زينب. فحاول أن يصّاعد نحو الأعالي، لكنَّ برقاً صاعقاً ضربه فجأة، فتحول إلى كتلة من لهب ودخان، بينما كنت أهبط من علٍ، وأسقطُ على حصير من سعف النخيل.
وعندما أفقت، وجدت الشيخ يجلس إلى جواري، على حصير من سعف النخيل، هامساً بصوت عذب ورقيق :
إلهي..
كَسْري لا يَجْبُرُهُ إلا لُطْفُك وحنَانُكَ * وفَقْري لا يُغنِيه إلا عَطْفُكَ وإحسانُكَ * ورَوعتي لا يُسْكِّنُها إلاّ أمانُكَ * وذلّتي لا يُعزّها إلا سلطانُك * وأمنيتي لا يُبَلّغنيها إلا فضلُك * وخَلَّتي لا يسُدُّها إلا طولُك * وحاجتي لا يَقضيها غيرُك * وَكَربي لا يُفرّجُهُ سوى رحمتك * وضُرّي لا يكشفُهُ غيرُ رأفتك * وغُلّتي لا يُبَرِّدُها إلا وَصْلُك * وَلَوْعتي لا يُطفيها إلا لقاؤك * وشوقي إليك لا يَبُلُّهُ إلا النظرُ إلى وجهك * وقراري لا يقرّ دون دُنوّي منكَ * ولهفتي لا يردُّها إلا رَوْحُك * وسُقمي لا يشفيه إلا طبُّك * وغَمّي لا يزيله إلاّ قُربُك * وجُرحي لا يُبْرئه إلا صفحُك * وريْن قلبي لا يجلوه إلا عَفْوك * ووسواس صَدري لا يُزيحُهُ إلا ّ أمرك..فيا منتهى أمل الآملين * ويا غاية سؤل السائلين * ويا أقصى طَلَبَة الطالبين * ويا أعلى رغبة الراغبين * ويا وليَّ الصالحين * ويا أمانَ الخائفين * ويا مجيب دعوة المضطرين * ويا ذُخْر الـمُعْدَمين * ويا كنز البائسين * ويا غِياث الـمُسْتَغيثين * ويا قاضي حَوائج الفقراء والمساكين * ويا أكرم الأكرمين * ويا أرحم الراحمين.. لكَ تَخَضّعي وسُؤالي * وإليك تَضَرُّعي وابتهالي * أسألك أن تُنيلني من رَوْحِ رضوانك * وتديمَ عليَّ نِعَمَ امتنانك * وها أنا ببابِ كرمك واقفٌ * ولنفحاتِ برّك متعرض * وبحَبْلِكَ الشديد معتصمٌ * وبعروتك الوثقى متمسكٌ..
إلهي..
ارحمْ عَبدكَ الذليل * ذا اللسان الكليل والعمل القليل * وامْنُنْ عليه بِطَوْلِكَ الجزيل * واكْنفه تحت ظِلّك الظليل * يا كريم يا جميل * يا أرحم الراحمين *
- 7 -
لم يقترب الفجر بَعْدُ منا، بيد أن أغلب الحجيج غادروا المسجد.
- رأيت قبل ساعات، رؤيا عجيبة.
ردَّ الشيخ هادئاً : قل : قبل هنيهة.
-إذن، عرفت!
- أو لم تعرف؟
كانت صرتي أمامي تبعث ضوءاً لم أره من قبل. نور أبيض. كما أنَّ المكان كله يشفّ عن نور رحماني، هدّأ من روعي، وأنا أنظر إلى الشيخ. إنه رجل كلّي البياض، أبيض شعر الوجه والرأس، أبيض الشفتين والأنف، أبيض شعر الحاجبين وأهداب العينين، أبيض اليدين والساقين، أبيض اللباس، تفوح منه رائحة زكية، غطّت كل هذا الحوش المضاء بنور أبيض، بينما كانت السماء بيضاء أيضاً.
انتبه الشيخ إليّ، وغمرني بابتسامة حانية :
- اعلم، يا مجنون الزمان، أنَّ أبي روى أحوالك عن أبيه، وذاك عن جده، وهذا عن أجداده.
ثم هبَّ واقفاً، وصرخ : يا غوث.. يا غوث، وسقط على الأرض مغشياً عليه.
اقتربت منه حتى لاصقته، فوجدته جثة متخشبة، وعندها قربت فمي من أذنه اليمنى وصحت : أبي.. أبي.. إلى من تتركني؟
- إلى غرفة في هذا الحوش.
- 8 -
كنت أعرف أنني والشيخ في حوش، لكنني لم أعِرْ بالاً لغرف هذا المكان، عاينت المكان جيداً : غرف بأبواب، بعضها مغلقة الأبواب، وبعضها أبوابها مفتوحة، إنها غرف مبنية بطابوق أبيض.
كانت الغرفة الأولى مضاءة وليس في داخلها إلا متاع قليل، وكذلك الغرفتان الثانية والثالثة. أما الغرفة الرابعة فكان بابها مغلقاً، وعندما طرقت الباب جاءني صوتٌ من الداخل :
- اذهب إلى غيري، سؤالك ليس عندي.
اتجهتُ إلى الغرفة الخامسة، كان بابها مفتوحاً، وفي الداخل رجل ضرير يلهج بالذكر الحكيم. انتظرت قليلاً فتوقف الرجل عن التلاوة، وقال : مبتغاك خارج هذه الغرفة.
توقفت أمام الغرفة السادسة، ونظرت إلى الشيخ في وسط الحوش، فرأيته ما يزال مستلقياً على قفاه، شاخصاً ببصره إلى السماء، قرعت الباب فلم أسمع أي جواب. قرعت مرة ثانية وثالثة، فلم أسمع أي جواب.
عند ذلك، اتجهت نحو الغرفة السابعة.. الغرفة الأخيرة، فرأيت بابها مفتوحاً على مصراعيه.
ودخلت..
- 9 -
أيها الولدُ..
اقتبل الجدارَ
فليسَ بَعْدَ مَحْوِ النفسِ
إلا الفرارُ
من الجدارِ إلى الجدارْ
كان الصوت يصلني عميقاً وجليلاً، ليدخل إلى عظامي ودمي ولحمي وجلدي.
أيها الولدُ.
خُذ القِبْلةَ، وامْحُ نفسك.
فَبَعْدَ هذه اليقظة
لا مفرَّ من الجدار
إلى الجدار
صَوَّبت بصري إلى نقطةٍ ما في الجدار الدائري، فرأيتُ شبحاً باركاً على ركبتيه، بينما كان الصوت يصلني عميقاً وجليلاً:
أيّها الولدُ :
امحُ نَفْسَكْ
توقفت في مكاني داخل هذه الغرفة الدائرية، وإذ التَفَتُّ إلى الخلف، حيث الباب ما يزال مفتوحاً، شاهدت الشيخ مستلقياً على ظهره، شاخصاً ببصره إلى قبة السماء.
كانت صُرتي معي، تحسستها جيداً، فعرفت أنها موجودة عند إبطي الأيمن، ثم ردّدتُ من داخل نفسي : »الحمد لله رب العالمين«. وعندها فُتح عليَّ بابُ كل شيء : الغرفة منوّرة بنور أبيض، أحسست بلطفه يلامس جسدي، ويكشف لي ما خلف الجدران، رأيت الحجيج في مكة والمدينة، رأيت ميسان والقدس وكربلاء والكوفة، رأيت إيوان كسرى يتداعى وفرسان الروم صرعى، رأيت بدراً وصفين وخيبرا، ورأيت شهاباً قادماً من عمق السماء، ينادي : أَمِتْ.. أَمِتْ..
أقبل عليّ الصوت العميق الجليل :
- والآن أيها المجنون، ما أنت فاعلٌ بنفسك، وقد فُتح لك بابُ كلّ شيء؟
- إلى الفردوس..
صمتٌ. النور يغمرني، ثم شاهدت، بعينيّ قلبي، ما سيحدث : جيش يخسف به جزيرة العرب، نار تلتهب في عدن يراها أناس بصرى، الغمر يغطي البصرة، جسور الزوراء تتداعى، نفس زكية تقتل في كوفان، الروم في خاصرة الشام، مائدة الرب في طبرية، سيد يطالب بالثأر ينزل من جبال فارس، وبقية الله في الأرض يُصلّي بين الركن والمقام.
عاد الصوت العميق الجليل مرة أخرى : »وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين«.
تُهتُ. شاهدت نفسي دلالاً كاملاً، رأيتني خارجي، رأيتني في داخلي، رأيت النور يقبل عليَّ، ويضمني إليه، رأيتني أقبل على النور وأكونه، وكان حال حالي يتمايل طرباً :
اقتلوني يا ثُقاتي
إنّ في قَتْلي مماتي
ومماتي في حياتي
وحياتي في مماتي
إن عندي محو ذاتي
من أجل المكرماتِ
- 10 -
رويداً، رويداً، أخذت أعي ما حولي : هذا هو جسدي، إنني مستيقظ، أرى الغرفة الدائرية والنور الأبيض، وها هو الشيخ الجليل يجلس أمامي.
تحسستُ صرّة الكفنين، فرأيت الشيخ يبتسم. نظرتُ إلى الحوش، من خلال الباب المفتوح، فرأيت الشيخ مستلقياً على ظهره، شاخصاً ببصره إلى عنان السماء :
- أنت هنا، وفي الحوش؟
- ردّ الشيخ بهدوء : نعم.
- منذ متى يحدث هذا؟
- علمه عند ربي.
ثم ابتسم ابتسامة عريضة، فرأيت وجهه مُشْرقاً ومهيباً.
وقال : تعال أعرفك على نفسك، قادني من يدي، تماماً كما فعل عند الروضة، وجلسنا على حصير آخر من سعف النخيل.
- انظر إلى الجدار، قال الشيخ.
وقبل أن أدير بصري إلى الشمال، رأيت من اليمين ومن الشمال، ومن علٍ ومن أسفل، امرأة بيضاء، كما النور تماماً، تقبل نحوي.
- هي ذي.
- زينب، قاطعت الشيخ متلهفاً.
- نعم، زينب.
زينب، زينب، زينب، وأخذ الصوت الهادىء الأليف الجميل الورع العذب، يملأ أرجاء الغرفة المدورة، حيثما أوجِّه بصري أراها، وحيثما أرهف السمع أسمعها.
- أنا زينب، يا مجنون.
- السلام على سيدتي، السلام على البتول، السلام على حارسة المساجد، السلام على سيدة الصبر، السلام على سيدة الحزن، السلام على الشفيعة.
حللتُ الصُرّة الخضراء، وأخرجت قطعة القماش البيضاء، ووضعتها بين قدميها.
- هذا كفنك يا مولاتي.
- وهي هديتي إليك.
- الآن...اكتملت زينتي، ورضيت نفسي للذي ينتظرني.
هكذا قالت زينب.
تقدمت زينب خطوتين، وجلست بيني وبين الشيخ، فيما كنت أراها تملأ كل الغرفة، والشيخ ما يزال في الحوش، مستلقياً على ظهره، شاخصاً ببصره إلى قبة السماء.
- والآن.. يا مجنون الزمان.
- تلاشى الزمان وهرب المكان.
وسمعت الشيخ يقول من داخل الغرفة السابعة، ومن الحوش أيضاً: يا لقَلْبي الفَرِحْ... لقد رَوَيْتُ سيرة المجنون في كل الأزمنة والأمكنة.
قالت زينب : أُدْنُ.
فدنوتْ.
قالت زينب : أكثر، أكثر.
فدنوتْ.
ذقت حلاوة الجنة، بينما كانت زينب تنادي عليّ : أكثر، أكثر، أكثر.. واتحدنا.
- 11 -
أكثر.. أكثر.. أكثر..
- 12 -
أفقت مرة أخرى، فوجدتني أطوف حول الكعبة،
وقلبي يصرخ :
سبحانك ما أعظم شأنك.