المرأة في الحقيقة، ليست نصف المجتمع فحسب، بل هيّ أيضا والدة ومربية للمجتمع بأسره في مدرسته الأولى على الأقـلّ التي تطبعه إلى حد بعيد في بقية مراحل حياته . من هنا تأتي أهميّة وضرورة العناية بالمرأة، بل وإعطاءها الأولويّة في ذلك على الرّجل. فالمرأة، على هذا الأساس، هيّ عماد المجتمع، فإذا ما وقعت العناية بها وإيلاءها ما يوافق قيمتها وأهـميّتها من الإعتبار الصّحيح والعناية الفائـقة، استقام المجتمع كله وصلح حاله . أمّا من أهملها وحطّ من قيمتها وإنسانيّتها وتجاهل وجودها كعضو فاعل في المجتمع، له قيمته المركزيّة، فقد هدم المجتمع أو على الأقـلّ، فقد أضرّ بالمجتمع ضررا بليغا .
بناء على ما تقدّم فإنّنا لا نحسب أنّ ما مرّت به عديد المجتمعات، قديما وحديثا، من تخلّف وانحطاط وانحلال، كان قد حصل لها بمعزل عمّا وقعت فيه من إهمال لوضعيّة المرأة ودورها فيها، وما تعرضت له من إساءة خطيرة مخلّة بكرامتها وإنسانيّتها. ولو دقّقنا النّظر والتحليل لوضعيّة المجتمعات المتخلّفة وفي أسباب تخلّفها لوجدنا أنّ ذلك، في جزء كبير منه، يعود إلى الطبيعة السيئة لوضعيّة المرأة فيها . فإذا كانت المرأة مهملة ومحتقرة، تعيش وضعيّة الدّنيّة والجهل والقهر وسحق للشخصيّة وعدم الاعتبار، فلا غرابة أن ينشأ الأبناء أيضا عل الجهل وضيق الأفق وضعف الشخصيّة و تذبذبها .
وإذا ما التحقوا بالمدرسة عند بلوغ سنّ التعليم، فإنّهم غالبا ما يبقوا مرشّحين للفشل في دراستهم، إذ أنّ النّجاح فيها لا يمكن أن يحصل إلاّ بتظافر الجهود بين البيت والمدرسة. وحتّى إذا ما نجحوا يبقى نجاحهم نسبيّا ومنقوصا . بينما لو كانت الأمّ متوازنة الشخصية ومتعلّمة وواعيّة فإنّه، فضلا عن حرصها الأشدّ على تعليم أبنائها وتربيّتهم تربيّة راشدة بمقدورها تلقينهم منذ الصّغر حبّ المعرفة والتّعلّم وستكوّن فيهم أيضا سعة الأفق وكذلك منهجيّة أرحب في رؤية الكون وفي أسلوب التّعامل معه، بأفضل ما يستطيعه المعلّم في المدرسة .
وذلك لأهمّية ما يربط الطّفل، من علاقة خصوصيّة، بأمّه، تيسّر عمليّة التبليغ والتلقين بينها وبينه . فعمليّة التعليم والتربيّة تشبه إلى حدّ بعيد عمليّة الرّضاعة بل هيّ تواصل طبيعيّ لها إذا كانت الأمّ واعيّة و متعلّمة .
ونخلص ممّا سبق إلى أنّ المرأة هيّ نصف المجتمع عدديّا، وهي من ناحية أخرى عماده الأساسي ومدرسته ومربّيته الأولى . لذلك فإنّ العناية بالمرأة عناية جادّة، وإنزالها في المجتمع منزلتها التّي تستحقّها كأمّ ومربّية له، وعضو فاعل فيه، مثلها في ذلك مثل الرّجل، وإيلاؤها الإعتبار الكامل والمساواة بينها و بين الرّجل من حيث أنّهما يشتركان في قيمة الإنسانيّة، من شأنه أن يحقّق معنى العدل و النّديّة بينها و بين الرّجل . كما هوّ من شأنه أن يمكّن الجسم الإجتماعي من النّهوض بكلّ أعضائه وقوّاه وليس بنصفها فقط، لأنّ نصفها الثّاني، المتمثّل في المرأة، مشلول ومعطّل .
لقد ولّى الزّمان، في عالمنا الحديث، الذّي كانت فيه عوامل تحقيق التّنميّة والتّقدّم تكمن في استغلال سطح الأرض وما يوفّره لمستغلّيه من خيرات، وفي بطنها وما تحتويه من كنوز وثروات طبيعية، أو في وسائل و تقنيّات تمكّن من تحويل تلك الثّروات الخامّ إلى منتجات متطوّرة ومتعدّدة تلبيّ أدقّ المطالب والحاجيّات وتشبع عديد الرّغبات. إنّ الأرض ورأس المال تراجعت قيمتهما كعوامل إنتاج، وحلّ محلّهما في الصّدارة في عمليّة تحقيق التّنميّة والتّقدّم الرأس المال البشري وما يحمله من علوم ومهارات فائقة في استغلال المعطيات .
لقد غدا الذهن البشري وقدرته الفائقة على استيعاب الأشياء والمعطيات وطاقاته الواسعة على التّصرّف فيها وتحويلها، هوّ المنبع الأساسي لخلق الثّروة وتحقيق التّنميّة والتّقدّم، ممّا يعني أنّه قد غدا بإمكان المجتمعات المحرومة من كلّ أنواع الثّروات الطّبيعيّة والماليّة أن تتحوّل بدورها إلى مجتمعات ناهضة متطوّرة، إذا ما أحسنت استغلال ثرواتها البشريّة الكاملة من رجال ونساء وقدراتها الذّهنيّة. وذلك إذا أحسنت تكوينها وتنوير الأذهان فيها، بالعلم والمعرفة، وتأهيلها للتّعامل بمهارة فائقة مع المعطيات، ومواكبة ركب تطوّر العلوم والمعرفة في العالم .
على هذا الأساس فإنّه لا يحقّ لمجتمعات نـّابهة أن تجمـّد نصف ثرواتها البشريـّة، المتمثّلة في المرأة، وتضحـّي بها فتهملها وتهمشها، ولا تعترف بها كعضو فاعل في المجتمع، له قيمته وأهمّيته ودوره المركزيّ فيه . إن ّ ذلك يكـلّفها خسائر فادحة على مستويات عدّة، وخاصّة على مستوى تنمـيّتها الإقتصاديـّة وازدهارها العلمي والمعرفي وتقـدّمها على جميع المستويات، ويفـوّت عليها فرصا ثمينة في هذا المجال. وهذا الـشّلل الـنّصفي لا يتوقّف ضرره على الـنّصف المشلول فحسب، وإنّما يتعـدّاه إلى الـنّصف الآخر، الـرّجل. فهذا الأخير إذا كانت إلى جانبه امرأة متعلّمة واعيّة ومحـرّرة الـطّاقات وفاعلة في المجتمع، يكون هوّ أحسن عطاء وأرفع جدوى ومردوديّة مـمّا لو كانت إلى جانبه امرأة جاهلة، مجـمّدة الطّاقات محطّمة الشّخصيّة، معدومة الحضور والإعتبار في المجتمع. فالوضعيّة المتدنّية للمرأة في المجتمع لها تأثيرها السلبي على وضعيّة الرّجل، ولا تجذبها إلاّ إلى الخلف وإلى الأسفل .
إنّ مسألة تحرير المرأة، تحريرا صحيحا وليس استغلاليّا ودعائيّا فقط، هيّ مسألة جوهريّة وملحّة للغاية في هذا الـزّمان، وذلك لاعتبارات عـدّة. فتحريرها تحريرا حقيقيّا مسؤولا، كما تقتضيه إنسانيّتها، ورفع اليد عنها والكفّ عن ظلمها واستغلالها، هـوّ مطلوب قبل كلّ شيء من منطلق مبدإيّ، لأنّ ذلك من حقّها الطّبيعي والشرعي وليس هوّ منّة ولا هو هبة من أحد. كذلك هوّ مطلوب لأنّه ليس هناك ما يمنعه عقلا ولا نقلا، بل على العكس فإنّ العقل والنّقل يؤكّدانه ويحثّان عليه .
وهو مطلوب أيضا من جهة إقامة العدل الواجب إقامته بين الجنسين. إذ ليس هناك ما يميّز بين الرّجل والمرأة في حق وضرورة التّكريم، وإعطاء الإعتبار، وتنوير العقول ، وضرورة الفعل في المجتمع، من أجل تحقيق التّقدّم والرّقيّ والتحضر على جميع المستويات. وهو مطلوب أيضا من جهة الضّرورة والحاجة والمصلحة الجماعيّة للمجتمع، في عصر غدت فيه القدرات والمؤهّلات الذّّهنيّة هيّ القيمة النّادرة المبحوث عنها لدورها المركزي في عمليّة إيجاد الوفرة وتحقيق التّقدّم والنّهوض عموما .
فمن هذا الجانب لا يليق بمجتمع عاقل را شد أن يتصرّف تصرّف السّفيه، فيهمل و يهمّش أو يجمّد نصف طاقاته البشريّة، وما يحمله من قدرات ذهنيّة وإبداعيّة هو في أمسّ الحاجة إليها. والأمر مطلوب أيضا من جهة ضرورة تمكين المرأة، تماما مثل الرّجل، من تحقيق إنسانيّتها و ترقّيها في سلّم قيّمها، والنّهوض للقيام بدورها في المجتمع وفي الحياة. ولا يتسنّى لها ذلك إلاّ بفسح المجال أمامها، مثل الرّجل للنّهوض بذاتها وتفطيق طاقاتها وتنميّة مواهبها وقدراتها. وهو مطلوب في الأخير من جهة أنّ المرأة، مثلها مثل الرّجل، مكلّفة في هذه الحياة، ومسؤولة، أصالة عن نفسها وليس الرجل هوّ المسؤول عنها، على وجودها في هذا الكون ومحاسبة عن كسبها فيه، تماما مثل الرّجل. فمن الجور تماما، أن يمكّن الرّجل من فرص التهيّء والكسب بحرّية، بينما هيّ تحرم، قصرا بسبب الظّلم المسلّط عليها، من فرصة تأهيل نفسها لهذا الكسب الذّي ستسأل عنه بمفردها لا محالة يوم السؤال.
إذا كان تحرير المرأة تحريرا صحيحا، أو قل تمكينها من وضعها الطّبيعي الذي خلقت لتكون عليه في المجتمع بشكل تلقائيّ، بهذه الأهميّة والإلحاحيّة، فما هيّ إذن أسباب إهمالها واضطهادها وتهميشها تهميشا كاملا، بل وحتّى، في بعض المجتمعات و في بعض الأحقاب التّاريخيّة، اعتبارها، جهلا و ظلما، مخلوقا آخر من غير جنس الإنسان، وهي مخلوقة حسب تصوّرهم السّقيم لخدمته بل ليفعل بها الرجل ما يشاء .
يعود ذلك حسب تصوّرنا إلى عاملين أساسيين هما منطلق بقيّة العوامل الأخرى :
أوّلا ـ غريزة حبّ التّـغـلّـب والتّـفـوّق :
رغم أنّ الإنسان مميّز، عن بقيّة المخلوقات، بملكة العقل والقدرة على التمييز بين الخير والشرّو الإختيار بينهما، وكذلك بالقدرة على التفكير و الإبداع، إلاّ أ نّه يبقى محكوما في بعض أعماله و مواقفه و قناعاته ببعض الغرائز الفطريّة فيه، المتصارعة داخله مع قيمة العقل لديه، التي تتمّم له إنسانيّته، متى تغلّبت عليها هوت به إلى الأسفل، إلى المستوى الحيواني. ذلك لأنّ الحيوان لا يحكمه إلاّ الحسّ و الغريزة. ودور الغرائز لدى الإنسان يبرز و يتضخّم كلّما تقلّص لديه، بسبب الجهل و ظلماته و الجمود وضيق الأفق، دور العقل. ومن بين غرائز الإنسان التّي تقرّبه من الحيوان غريزة حبّ التّغلّب و الهيمنة على الآخر. فهذه الغريزة هيّ التّي تنظّم طبيعة العلاقات و سلّم السّيادة في المجتمع الحيواني. لذلك فنحن نلاحظ أ نّه كلّما كان الحيوان أ قوى وأشدّ فى التّغلّب والإفتراس كلّما كانت هيبته و خشيته بين بقيّة الحيوانات أكبر.
ولمّا كانت المجتمعات البشريّة الضّاربة في جذور التّخلّف و الإنحطاط و التقليد هيّ مجتمعات غريزيّة إلى حدّ كبير، فهي إذن مجتمعات تشبه المجتمعات الحيوانيّة في بعض طبائعها وتصرّفاتها، محكومة ببعض الغرائز و من بينها هذه الغريزة. فهي إذن مجتمعات يسيطر فيها القويّ، بكلّ معاني القوّة، على الضّعيف، بكلّ معاني الضّعف. و كلّما وقع الإنسان ضحيّة لغريزة التّغلّب لدى أخيه الإنسان، كلّما تضخّمت لديه هوّ بدوره دوافع هذه الغريزة، و بحث هوّ من جهته عمّن يسلّطها عليه و يحقّق بها عليه غلبته. والإنسان الجاهل و المتخلّف هوّ مغلوب من طرف أخيه الإنسان ومن طرف الفقر والفاقة ومن طرف قوّة الطّبيعة، وهوغالبا بسبب جهله وتخلّفه وتوحّشه لا يجد عمّن يسلّط غريزة حبّ التغلّب والتّفوّق إلاّ على المرأة من حوله وفي محيطه بعد أن عجز على إنفاذها على غيره خارج بيته ومحيطه.
وهكذا، وربّما بسبب تفوّقه البدني الفيزيولوجي و شدّة توحّشه وقـساوة قلبه، و ربّما لأسباب عدّة و متداخلة أخرى، لم يجد الرّجل، عبر مختلف العصور، أفضل من المرأة كزوجة و كأخت و بنت و أمّ و قريبة، يتّخذها كضحيّة يسلّط عليها دوافع غـريزة حبّ التّغلّب و التّفوّق الكامنة فيه، فيحكم قبضته عليها و يسلّط عليها ظلمه و توحّشه بحجّة العديد من الأعذار والتعلاّت التي لا ينهض لها دليل معقول ولا منقول. نحسب أنّ هذا العامل هوّ أحد أهمّ أ سباب حبّ هيمنة الرّجل على المرأة والإبقاء عليها في وضعيّة الطّرف الضّعيف والمهمّش والتّابع.
ثـانيـّا ـ الجهل عـد وّ الـمرأة الأوّل :
إن كان الجهل هوّ عدوّ الإنسان عموما، فهو للمرأة أ شدّ عداءا. أمّا عداوته للإنسان عموما فحاصل من جهة كونه يحرمه من استغلال قدراته الذّهنيّة، و يحول بينه و بين التّسلّق في سلّم قيّم إنسانيّته، و يتركه مجاورا للحيوان محتكما في معظم الأحيان إلى حسّه و غرائزه. فالجهل ليس شيئا آخر سوى آلة لتعطيل العقل للقيام بمهمّته. و الإنسان، كما سبق أن ذكرنا، ليس إنسانا حقيقة، مميّزا عن الحيوان و بقيّة المخلوقات إلاّ بعقله. فمتى تعطّل هذا الأخير، لم يبق للإنسان شيء كثير يميّزه عن الحيوان. فالعقل هوّ آلة الفهم والتّأمّل و التّمييز والإبداع وصناعة الفكرة والعلم ووعائه. وهو لهذا السّبب ميزة الإنسان ووسيلة ترقّيه في سلّم قيّم إنسانيّته.
والجهل، كما ذكرنا، هوّ أشدّ ضررا وعداءا للمرأة. ذلك لأنّه يضرّ بها مثلما يضرّ بالرّجل. زيادة على ذلك فإنهّ يضرّ بها نتيجة الضّرر المسلّط عليها من قبل الرّجل بسببه. فأنت ترى الرّجل نتيجة جهله و توحّشه، تحمل به المرأة وتضعه ويترعرع في أحضانها وبين ذراعيها، حتّى إذا كبر وصلب عوده قام فقال إنّ المرأة مخلوق آخر غير البشر ودونه في القيمة والكرامة، والرّجل يولد له الذّكر فيقيم الأفراح و الولائم و تولد له الأنثى فيحزن و يتبرّم وجهه و في بعض العصور والأماكن ذهب إلى حدّ وأدها، متناسيا المرأة هي التي قامت على مختلف مراحل خلقه و ولادته ونمـوّه حتّى استقام عوده. وقد غاب عنه، بسبب جهله وتحجّره، أنّ كلّ الأجناس في الكون من حوله لا تلدها إلا أجناسها و لا تلد إلاّ من أجناسها. وإذا كان الجهل قد بلغ بالرّجل هذا المبلغ من الظلم للمرأة فلا فائدة إذن في الحديث عن بقيّة مظالمه الأخرى لها .
يتبع