المبحث الأوّل : وضعيّـة المرأة فـي الوطن العربي :
لقد عاش الوطن العربي، مثله مثل العديد من البلدان المتخلفة الغائبة عن الدورة الحضارية المشابهة له، قرونا طويلة في الظلام الدّامس والجهل المطبق والانحطاط الرّهيب . فقد كانت وضعيّة المجتمع فيها وقتها تشبه إلى حدّ بعيد وضعيّة المجتمع البدائي، حيث يسود الحسّ والأهواء والغرائز، ويغيب فيها العقل وما يمكّنه صاحبه من النظر والتأمّل في سنن الكون وقوانين التطور، والإبداع و التمييز بين الخير والشرّ والصّالح و الفاسد. وكانت سلطة الحاكم ثمّ المستعمر، في تلك العصور، مطلقة، مطارقها تدقّ رؤوس العباد و سياطها تلهب جنـوبهم، دون أن يكون هناك معارض ولا محتجّ ولا حتّى من يرفع رأسه.
كما كان النّاس، في تلك البلدان، في صراع مرير مع الطّبيعة القاسيّة التّي لم تكن تجود عليهم من عطائها إلاّ بالقليل، بسبب بدائيّة وسائل إنتاجهم، و بذورهم المتواضعة في جودتها، وقلّة القطر في بعض السّنين على الأقلّ. فكانوا في معظمهم يشعرون بالإنهزام و الدّنيّة، لا تنصفهم الحياة في أيّ وجه من وجوهها، فيعودون إلى بيوتهم مقهورين يبحثون فيها عمّن يسلّطون عليه جامّ نقمتهم و يحقّقون عليه غلبتهم، عـساهم يخفّفون بذلك عن أنفسهم ما هو واقع بهم من قهر و انهزام، فلا يجدون فيها من مخلوق ضعيف إلاّ المرأة، فيستبدّون عليها و يسلطون عليها أبشع المظالم، ليتذوّقوا بذلك حلاوة طعم الغلبة و التّفوّق الذّان لم يستطيعوا إيجاد طعميهما خارج البيت.
لقد عاشت المرأة في الوطن العربي، كما في غيرها من الأقطار، لمدّة قرون طويلة، أين يسود الجهل و الجمود و الإنحطاط، في وضع مأسوي، أشبه ما يكون بوضع العبد عند سيّده، ليست لها كرامة ولا إرادة ولا اعتبار، وليس لها من اهتمام وشغل وتكليف في الحياة إلاّ خدمة الرّجل في البيت والحقل وإشباع رغبات غريزته البهيميّة في الفراش والحمل والإنجاب والقيام على شؤون البيت. وقد فرض عليها ذلك باسم التّفوّق الطّبيعي المزعوم للرّجل على المرأة، وكذلك باسم العادات والتّقاليد الفاسدة والحفاظ على الشّرف ومراعاة لغيرة الرّجل وإرادة الهيمنة عليها، وغير ذلك من الإعتبارات التّي كانت تنسب كلّها أنذاك، بسبب الجهل، إلى الدّين، والدّين منها براء.
فقد فرض الرّجل بجهله وانغلاقه وتوحّشه وأهوائه على المرأة عنوة القعود في البيت أو العمل في الحقل تحت حراسته المشدّدة، ونبذ الإختلاط واعتزال مجتمع الرّجال وكلّ ما هوّ مرتبط بذلك من الأنشطة والإهتمامات العامّة للمجموعة، سياسية كانت أو إجتماعيّة أو إقتصادية أو ثقافيّة أو غيرها، والبقاء في ظلمات الجهل وعدم الخروج من البيت للتّعلّم أو للعمل أو للمشاركة في الإهتمامات العامة للمجتمع، ولا حتّى للتّعبّد. وقد شاع في تلك العصور المظلمة أن المرأة لا يحق لها مغادرة عتبة البيت بعد بلوغها إلا مرتين، مرة عند انتقالها من بيت والديها إلى بيت زوجها و مرة ثانية لانتقالها من بيت زوجها إلى قبرها .
كما حرمت، باسم الدّين طبعا، من اختيار الزوج، شريك العمر، و حتّى من رؤيته قبل الدّخول بها، وحتّى من مجرّد إبداء رأيها فيه وكأنها ليست إنسانا ولا الأمر يعنيها . كلّ ذلك سلب منها، بسبب الجهل والإنحطاط، وهو من أبسط حقوقها، وأوكل إلى وليّها، وكأنّ الوليّ هو الذي سيتحمّل الحياة مع الزوج وليست هي. ومن فقه أصحاب الأهواء والجهل والإنحطاط أن جعل الطّلاق بيد الرّجال دون النّساء، سيفا مسلّطا على رقبتها، لا تدري متى يهوي به الزوج على رقبتها. أمّا المرأة، وكأنّها ملك للرّجل، لا تملك، في مسألة الطلاق، أمام ظلمه لها في سائر أمور الحياة الزوجيّة إلاّ أن تصبر، أو أن تنتظر حتى يقرّر هوّ أخذ المبادرة في الطّلاق. وفي العموم فقد حرمت من حقّ التّظلّم ضد المظالم المسلّطة عليها من قبل الرّجل، أبا كان أو أخا أو زوجا أو غير ذلك، وكأنّه هو السيّد الذي لا يسأل عما يفعل، و المرأة هي عبد الذي لا حول له وقوة، في مجتمع الرّقّ .
لقد اقتصرت مهمّة المرأة، كما ذكرنا، في تلك العصور على إنجاب الأطفال وإشباع الرّغبات الجنسيّة للرّجل، في غير مراعاة في عديد الحالات لمشاعرها ولا حتّى لظروفها الصحّيّة مما يتسبب لها في أضرار بليغة قد تصل بها إلى الموت، وفي القيام بأشغال المنزل وتربيّة الأولاد . وكذلك في القيام بالعديد من الأعمال لصالح الرّجل والتّي يترفّع هذا الأخير عن القيام بها. فوضعيتها لم تكن في تلك الظروف وضعية الأنسان المكرم وإنما كانت وضعية الخادم المهان إن لم نقل وضعية العبد .
وفي العموم يمكننا القول إنّ المجتمع االعربي كان، لعصور طويلة قبل استقلال، مجتمعا غارقا في ظلمات الجهل والانغلاق والجمود والإنحطاط والتقليد، ومجمّد الطّاقات. إلى جانب ذلك كان أيضا مجتمعا مشلولا شللا نصـفـيّا. ذلك لأنّ المرأة، كعضو فاعل في المجتمع، كانت في حكم الغائبة تماما، أو قـل بشكل أدقّ، في حكم المغيّبة بالكامل. ولا غرابة أن يكون مجتمع، هذه وضعيّته، مجتمعا معدوم المبادرة والفاعليّة، خارجا تماما عن الدّورة الحضاريّة. وهو لـشدّة تخلّفه كان يعيش وضعا يشبه الغيبوبة الكاملة، فاقدا للوعي بما كان يحصل حوله من أحداث هامّة ومن اكتشافات علميّة وفنّيّة مذهلة. كما كان لـشدّة ضعفه وتخدّره، ليست له القدرة حتّى على الدّفاع عن نفسه وصدّ الضرّ عنها. وهو ما جعله يسقط بسهولة في شراك الإستعمار الغاشم و يبقى تحت هيمنته و مهانته ثلاثة أرباع القرن .
المـبحث الثّـاني : وضعيـّة المـرأة فـي الوطن العربي بعد الاستقلال:
لقد كانت المرأة العربية أوّل المستفيدين من الإستقلال. ذلك أنّ هذا الحدث كان لها بحقّ استقلالا. فهذا الأخير لم يكن فقط تحريرا للبلاد من هيمنة المستعمر الأجنبي، إنّما كان أيضا تحريرا نسبـيّا للمرأة من ظلمات الجهل و هيمنة الرّجل عليها، وكذلك من سلطان العادات و التّقاليد الفاسدة. لقد كان بورقيبة، رغم تحفّظنا الشّديد على العديد من آرائه و سياساته و إنجازاته في ظلّ الدولة التي ركّزها، محقّا إلى حدّ بعيد في سياسته التّي انتهجها تجاه المرأة، لولا بعض الأخطاء و الشّطط كما سنبيّنه لاحقا. لقد كان في هذه المسألة متقدّما على عصره أجيالا، بالمقارنة لما عوملت به المرأة في معظم البلاد الإسلاميّة بشكل عامّ.
وقد مكّنت بداية إصلاح وضعيّة المرأة في الوطن العربي من فتح الباب واسعا لمعالجة حالة الشّلل التّي كانت تعيق جسم المجتمع في البلاد، و ساهمت في تحرير طاقات هائلة، كانت قبل ذلك مجمّدة أو مغمورة. ولا تزال طاقات كبيرة أخرى مجمّدة، يجب الإسراع بتحريرها، و ذلك بمواصلة تحقيق مزيد الترشيد لوضعيّة المرأة في المجتمع. و لم تكن كلّ الطّاقات المحرّرة من جانب المرأة فحسب، و إنّما كان جزء منها من جانب الرّجل في حدّ ذاته، أو من جانبه بسبب تأثير تحرير المرأة إيجابـيّا عليه.
فالمرأة المحرّرة و المتعلّمة كأمّ و زوجة و حاضنة، كان لها التـأثير الإيجابي البليغ على الرّجل و تكوينه و وعيه وتربيّته وجدواه على جميع المستويات في المجتمع. ونرجو أن لا نكون مخطئين إذا اعتبرنا أنّ فاعليّة الفرد في الوطن العربي و حيويّته وإبداعه وعطائه، هيّ من أفضل ما هوّ موجود في الدّول و المجتمعات المشابهة التّي لم تشهد المرأة فيها من العناية و التحرير وإعطاء الإعتبار، ما شهدته في الوطن العربي في هذا الجانب. ونحسب أنّ النّهوض بالمرأة على علاّته قد ساهم بقسط وافر في تحسين مردود الفرد عموما في المجتمع العربي...
وقد اعتمد النّظام العربي في إصلاحه لوضعيّة المرأة الوسائل التّاليّة :
يتبع