أكوامانيل أندلسي من الفضة ، على هيئة أسد ، الارتفاع 13.2 سنتيمترا . وهو تحفة فريدة من نوعها ، اذ ان ماهو معروف من مصنوعات الاكوامانيل منفّذة بمعادن بخسة ، كالنحاس والبرونز والحديد . أنظرPeter Barnet, Pete Dandridge, Lions, Dragons,& Other Beasts, Aquamanilia of Middle Ages, Vessels for Church and Table, New York 2006 ).
وهذه التحفة المنشورة هي من ( مجموعة سعد الجادر لفنون الصياغة الاسلامية )
(Saad AL-Jadir, Kunuz, Islamic Silver Treasures, LAK International Casablanca 1995, p.119 and p. 322 )
تميزت فترة فجر الاسلام في الاندلس بانشغال ولاتها بشؤون الفتح وتوسيعه وراء جبال البرنيّة وتوطيد مواقعهم في البلاد المفتوحة؛ إلى جانب رأب الصدع الناجم عن الصراع بين العصبيّات العربية من جهة ، والعربية - الامازيغية من جهة أخرى؛ مما جعل اهتمام الولاة بالفنون ضعيفاً . غير أن هذه المرحلة أتاحت للمسلمين فرصة التساكن والتعايش مع مجتمعات و ثقافة وفنون البلاد المفتوحة .
ويشير القاضى الرشيد والمقري وإبن عذارى إلى ما أفاء به الله على فاتحي الاندلس ، منه (1) : "حوض مُتْرع من الياقوت والجوهر والزبرجر مالم تر عين مثله قط .... اضافة الى مائدة سليمان -عليه السلام - قيل انها كانت من ذهب وفضة خليطين ، مطوّقة بثلاثة أطواق : طوق لؤلؤ، طوق ياقوت ، وطوق زبرجد ، وانها حملت على بغل عظيم لا بغل أقوى منه ، فما بلغ بها مرحلة حتى تفتحت قوائمه ، ومنها ياقوتة ذي القرنين وجدها بماردة ، ومنها البيتان اللذان فتحهما في طليطلة ، وجد في احدهما أربعة وعشرون تاجاً عدد ملوكهم ، لا يُدرى ما قيمة كل تاج منها ، وعلى كل تاج اسم صاحبه ومبلغ سنّه ، وفيه وجدت المائدة ، وكان السبب في حصولها بطليطلة أن ملك الروم ، لما زحف الى بيت المقدس ليقاتل بني إسرائيل ، أخذ بلادهم وسبى ما فيها ، ووجد فيها مكارم الأنبياء – عليهم السلام – منها عصا آدم ، والتابوت الذي فيه بقية مما ترك آل فرعون وآل هارون ، وعصا موسى ونعلاه ، ومائدة سليمان ، وهي من ذهب ، قد كلل أعلاها وأدناها بالدر و الياقوت . فحُمل جميع ذلك إلي رومة . فلما مر ملك الروم بمصر ، رغب اليه أهلها أن يجعلها عندهم يتبركون بها ، وقالوا له : " رومة تبعد عنّا ! " وكانوا قد أمدوه وقاتلوا معه بني اسرائيل فطلبوا منه شيئا من تلك المكارم ، فدفع لهم المائدة ، فحملتها الأساقفة الى الاسكندرية . فلما غزا عمرو بن العاص بمصر هربوا بها إلى مدينة إطرابلس . فلما نزل عمرو بن العاص برقة هربوا بها الى مدينة قرطاجنة . فلما دخل المسلمون طنجة ، هربوا بها إلى مدينة طليطلة ، ولم يكن لهم أمنع منها ، ولا وجدوا حيث يهربون بها بَعْدَها ."
" قال أبو شبّة الصّدَفيّ : لقد نظرت الى رجلين يحملان طنفسة منسوجة بالذهب والفضة واللؤلؤ، فلما ثقلت عليهما ، أنزلاها ، ثم حملا عليها الفأس ، فقطعاها بنصفين ، فأخذا نصفاً وتركا نصفاً. فلقد رأيت الناس يمرون على نصفها ، فلا يلتفتون اليه إنشغالا بما في أيديهم مما هو أرفع منها ."
" وحدّث عبد الحميد عن أبيه ، قال : قدمت الأندلس امرأة عطارة ، فخرجت منها خمسمائة رأس من السبي ، فأما ما خرجت به من الذهب والفضة والجوهر والآنية ، فذلك ما لا يحاط بعلمه. "
وخرج موسى من الأندلس محملا بالذهب والفضة والجوهر و أصناف متاع البلاد متوجهاً نحو أفريقية التى تركها مستخلفاً عليها ابنه عبد الله . " وحمل موسى معه من أفريقية من وجوه الأمازيغ مائة رجل وعشرين ملكاً من ملوك الروم ، فخرجوا معه بأصناف ما كان في كل بلد من طرائفها وذهبها وفضتها وجوهرها وياقوتها ، ما لايحصى ولا سمع بمثله ، حتى انتهى إلى مصر ، فلم يبق بها شريف ولا فقيه ولا عظيم الا ودفع الى سليمان بن عبد الملك عشرة ألاف دينار ."
ويضيف إبن عذارى : " وكان الوليد بن عبد الملك مرض مرضه الذى مات منه . وكتب الى موسى يأمره بشد السير إليه ليدركه قبل الموت . وكتب اليه سليمان أن يبطؤ في سيره . فعمل موسى بكتاب الوليد ولم يعمل بكتاب سليمان ، وجدّ في سيره فغضب عليه سليمان ، وقال : " والله ! لئن ظفرت به، لاصلبنّه ! " وكان سبب أمر الوليد لموسى بالعجلة ليحرم سليمان ما جاء به، وكان أمر سليمان له بترك الاستعجال ليحرم الوليد وولده ما جاء به ، فقدم موسى قبل موت الوليد وأتاه بالطرائف من الدر والياقوت والزبرجد ، والوصفاء والوصائف ، ومائدة سليمان ، والتيجان المكلّله بالدر والياقوت . فاستغرب الوليد ذلك ، وأمر بمائدة سليمان ، فكُسرت ، وعمد إلى أرفع ما كان فيها من الجوهر وكل ما كان في التيجان وغيرها، فجعله في بيت المال " .
وبعد وفاة الوليد بن عبد الملك انتقلت الخلافة إلى أخيه سليمان الذى حاول النيل من موسى بن نصير بإذلاله ، لكنه صمد أمام سليمان وانتقده قائلاً بأن الخليفة لن يستطيع التصغير من قدر موسى ، لأن ذلك بيد الله وليس بيد سليمان . وبعد أن تحسنت العلاقات بين الاثنين استدعى الخليفة موسى يسأله عن فتوحاته في الأندلس وبلاد المغرب وأحوال ملوكها وأهلها ، وكان موسى يجيب على أسئلة الخليفة الذى عجب منه فدعى له " بطست من ذهب ، فجعل يردد بصره فيه ، فقال له موسى : إنك لتعجب من غير عجب ! والله ! ما أحسب أن فيه عشرة ألاف دينار ! والله ! لقد بعثت الى أخيك الوليد بتنّور من زبرجد أخضر ، كان يُصب فيه اللبن ، فيخضر وتُرى فيه الشعرة البيضاء ، ولقد قُوّم بمائة ألف مثقال ، وأنه لمن أدنى ما بعثت به اليه ! ولقد أصبتُ كذا وأصبتُ كذا ! .. وجعل يعدد ما أصاب من الدرّ والياقوت والزبرجد حتى بهت سليمان من قوله. "
وخلال عصر ولاة الأندلس كان بعضهم يقوم بأعمال الفتوح في " غالة " ويغنمون مختلف الذخائر الميروفنجية و القوطية . ومن ذلك ما ذكره القاضي الرشيد عن عبد الرحمن بن عبد الله العكّى في ولاية الأندلس حين غزا الفرنجة عام 111 هـ فأصاب رِجْـلاً من ذهب مفصّصة بالدر والياقوت والزبرجد مع غنائم كثيرة غنمها .
وهكذا تعرّف المسلمون الفاتحون على التراث الصياغي في الأندلس وبلاد المغرب وجنوب أوربا في فترة مبكرة ، ولابدّ أنهم تأثروا بهذا التراث عبر استخدامهم لبعض تُحَفِهِ أو تقليد نماذجها في منتجاتهم ، أو في ابتكاراتهم الصياغية اللاحقة .
ازدهرت في الأندلس الحياة الاقتصادية بجميع أنشطتها التجارية والزراعية والصناعية : فنتيجة لتوفرالسلع وجودة مواردها واتقان صنعها وجمال منظرها توسعت تجارة الأندلس مع مشرق العالم الاسلامي وامتدت لتشمل الهند والصين . وأصبح اقتصاد الأندلس قوياً. وفي أوائل القرن العاشر سكّ عبد الرحمن الناصر ديناراً أندلسياً انتشر من المحيط الأطلسي غرباً إلى جزر الهند الشرقية ، فأضحى في حوالى عام 950 م نقدا دولياً دون منازع استخدم في سائر بلدان العالم الاسلامي ومناطق كثيرة من أوربا . فدعمت عملة الاندلس القوية تجارة البر والبحر.
كما استغل الاندلسيون مناجم الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص، بالاضافة إلى الرخام والأحجار الثمينة . وقد اُنشئت في مدن الأندلس، كما في قرطبة، دورا عديدة لصناعة التحف المعدنية.
عُرفت الأندلس بغناها بالمعادن ومنها النفيسة: فهناك الذهب المستخرج من بعض الأنهار؛ والفضة التى يشير عدد من المؤرخين مثل الأدريسي والمقري الى وفرتها فى مواضع بالقرى المحيطة بقرطبة ، مثل موقع يعرف بالمرج . ويذكر البكري: " أن باقليم كرتش من عمل قرطبة معدن فضة جليل ." الى جانب موقع تُدمير وجبال جَمّة ببجّانة . كما استخرج المسلمون الفضة من صقلية . ولتوافر وجود الفضة فى قرطبة كثرت الاشارات التاريخية لوسع استخدام الفضة فى الحلي وكصحاف ومسكوكات ولتزيين الأسلحة.
وكان فى المرية عدد كبير من دور الطراز بلغ على حد قول الادريسي ثمانمائة ، منها ما ينتج الديباج الذي يصنع من الحرير المعشق بالذهب و / أو الفضة، وهو المعروف في المراجع الأجنبية باسم " البروكاد " Brocade . ويذكر أن الامير عبد الرحمن الداخل كان أول من أنشأ دارا للطراز بقرطبة ، وفي هذه الدار كانت تنتج البرود الأميرية من الحرير المختّم المرقوم بالذهب المختلف الألوان ، ولذلك عرفت بالدار البردية . ثم تطورت في عهد الأمير عبد الرحمن الثانى الذي أقام داراً للطراز إلى جانب الدار البردية . وكانت منتجات دار الطراز تسد احتياجات حرم وخدم وحشم البلاط . وكان الخليفة يخلع على قُوّاده وعلى جند المسلمين ممن حسن بلاؤهم في الحروب الثياب النفيسة كأوسمة و نياشين ؛ كما كان يرسلها هدايا الى ملوك اسبانيا المسيحية.
أما التحف المعدنية الأندلسية التي سلمت من عوادي الدهر فهي قليلة نسبة الى المنتجات الفنية الأخرى، كالمخطوطات والفخار وغيرها، نظراً لصهر الكثير منها واذابته عبر التاريخ ؛ بعضها نماذج تعرضها المتاحف ، اضافة الى المراجع التاريخية التي تتطرق الى المصنوعات المعدنية الأندلسية – المغاربية . ومنها صناعة آلات ومواد من الحديد والنحاس في مدينة المرية ، ووجود دارين للسكة (2) في مدينة فاس على عهد المنصور وابنه الناصر ضمّتا اثنتا عشر معملا لتسبيك الحديد والنحاس . وكانت المشغولات المعدنية تزين الجوامع والقصور كالثريات والتماثيل والأبواب المصفحة بالنحاس ، أو كانت تستخدم في الدور، مثل القناديل والمباخر والشماعد والصحاف والقدور والاسطال والصناديق ، أو تلك التى تستعمل في الدراسات الفلكية مثل الاسطرلابات (3) والكرات السماوية . ومن بين هذه التحف نماذج من الفضة كالصحاف والثريات .
ويظهر أن الثريات الطابعية كانت على شكل مدار مستدير مزخرف توضع في محيطه كؤوس تُضاء بالزيت ، وتعلّق الثريا من قرص المحيط بواسطة السلاسل . ولم يسلم بين مئات الثريات التاريخية سوى نماذج محدودة ، مثل الثريا المعروضة في متحف غرناطة والتى كانت في المسجد الجامع بمدينة البيرة ، إلى جانب بعض الثريات مما كشفته الحفريات في مدينة المرية . وهناك ثريا مسجد الحمراء الذى هُدِّمَ وشُيِّدَت مكانه كنيسة ، وتُعْرَض هذه الثريا الان في متحف مدريد تزينها زخارف نباتية مخرّمة وكتابات عربية تشير إلى تاريخ صنعها في شهر ربيع الأول من سنة خمس وسبعمائة (1305) بأمر السلطان محمد الثالث أحد سلاطين بني نصر .
وهناك الشماعد والقناديل ، ومنها مسرج عثر عليه في منطقة غرناطة مزين بزخارف نباتية وحيوانية وكتابية منها كلمة " بركة ". وشمعدان مزخرف معروض في متحف طليطلة يتكون من قضيب مدبب منشوري الشكل يقوم على ثلاثة أرجل تُثَبَّت عليه الشمعة يستند إلى قرص مقعر يتجمع فيه الشمع السائل.
إلى جانب الآنية والصحاف والأواعي والمباخر والهاونات ، بعضها على هيئة حيوانات ، وهي موزعة بين عدد من المتاحف ، مثل متحف قرطبة ومعهد بلنسية ومتحف غرناطة . ومنها الدلو المصنوع من البرونز المذهب والذى يعود الى مدينة غرناطة ، وهو مزين بزخارف نباتية وكتابات كوفية تتضمن كلمة " الغبطة " وبأقواس متصلة بداخلها كتابة نصّها: " اليُمْن والاقبال والبركة ".
أما بالنسبة للتماثيل المعدنية الآدمية التى كانت توضع على أبواب بعض المدن الأندلسية؛ أوالحيوانية التي كانت تزين البرك والأحواض في القصور الخلافية ، فيعرض متحف قرطبة ما كشفته حفائر الزهراء. ومنه تمثال لوعل من البرونز يزدان جسمه بزخارف نباتية.
بالاضافة إلى تزيين أبواب الجوامع، مثل المسجد الكبير باشبيلية ، برقائق من البرونز المزخرف. و كان للمسجد الجامع بمدينة قرطبة عشرون باباً مصفحاً بالنحاس الأندلسي المزخرف. ويتواصل هذا التقليد إلى الان في المملكة المغربية كما هو الحال في بوابة القصر الملكي بفاس .
وبخصوص الاسطرلابات فيعرض متحف طليطلة نموذجان أحدهما يحمل كتابة نصها: " صنعه إبراهيم بن سعيد السهيلي بمدينة طليطلة في شوال سنة نص للهجـرة " ، أي أنه يرجع لسنة 460 / 1067 . والثاني عليه النص التالي " في شعبان مما أحكم صنعه إبراهيم بن سعيد الموازينى السهلي بطليطلة سنة تنط للهجرة " ، أي سنة 459 /1066 .
ومن نماذج الكرات السماوية تحفة منفذة بالنحاس محفوظة في متحف بلنسيـة.
كانت التحف الفنية والمشغولات الحِرَفِيَّة المتنوعة موسومة بأسلوب زخرفي متميز. فقد طور الفنان الأندلسي الكتابات الكوفية المزهرة والمظفورة، التي تظهر فيها الحروف الكوفية الهندسية وسط التوريقات. وتميزت الزخارف الكتابية الأندلسية بتكرار كلمات محددة مثل " بركة " ، أو عبارة " لا غالب الا الله " ، خاصة في مملكة غرناطة.
أما الزخارف الهندسية فقد تنوعت كثيراً وتميزت بينها مبتكرات الأندلس مثل عقد حدوة الفرس وتقاطعاته ، والعقد المفصّص وزخارفه . إضافة الى صنوف الأطباق النجمية.
وترك الفنانون والصناع الأندلسيون ثروة من الزخارف النباتية منها أزهار نجمية الشكل مثل الوريدات التي يتألف تويجها من خمس بتلات ، ووريقات على هيئة قلوب ، وورقة التين . وكانت ورقة العنب و الصنوبر والرمان عناصر مهمة في الزخارف النباتية الاندلسية.
ومن النقوش الأندلسية صور حيوانية متنوعة كالأسود التى تفترس الوعول والغزلان والضباء، والأفاعي أو التنينات المتقابلة ، والكلاب التي تطارد أرانباً برية ، والبط يأكل سمكاً وضفادعا ، والطيور الجارحة كالنسور التى تهم بالتقاط الغزلان والوعول ، وأشكالاً للجمل، وصوراً لحيوانات خرافية برأس عقاب وجسم أسد .
واشتهرت الأندلس بصناعة العاج وتحويله الى تحف نادرة ، يتكامل اخراجها مع فنون الصياغة. وبعض نماذجها معشّق بالفضة المزخرفة والموشحة بالمينا . ومعظم هذه العلب والصناديق مكسو بنقوش نباتية من توريقات قد تختلط أحياناً برسوم طيور و حيوانات متنوعة ، أو تزدان بجامات تطوق أشكالاً آدمية منها مجالس طرب وشراب ومناظر صيد أو مبارزات...
وقد صنعت أغلب العلب العاجية لزوجات وجاريات الخلفاء لغرض استخدامها في حفظ حليهن وأدوات زينتهن وعطورهن كالمسك والعنبر. ومن ذلك نصّ مثبّت في نقش شعري منفّذ بالخط الكوفي يزين حافة غطاء علبة اسطوانية محفوظة في متحف الجمعية الاسبانية بنيويورك:
منظري أحسن منظر نهد خود لم يكسر
خِلعةُ الحسن عليّ حلة تزهو بجوهر
فأنا ظرف لمسك ولكافور وعنبر
وتمثل هذه العلب تحفاً فريدة يتميز بها الفن الأندلسي ، اذ لا مثيل لها في باقى الأقاليم الاسلامية ، خاصة وان بعض نماذجها يحمل معلومات مهمة تتضمن اسم من صنعت له مثل صُبح أم هشام ولي عهد الخليفة الحَكَم المستنصر ، وتاريخ صنعها في عام 355 هـ . ومثل العلبة التى صنعت للمغيرة بن عبد الرحمن الناصر عام 357 هـ والمحفوظة بمتحف اللوفر. وكذلك علبة زامورة Zamora التي تنص كتاباتها أنها مهداة من طرف الخليفة الحَكَم الثاني إلى جاريته أورورا Aurora عام 964 م ، وهي من أجمل التحف العاجية الأندلسية . وقد تحمل هذه التحف إسم المكان الذي صنعت فيه ، مثل مدينة الزهراء ، وأسماء الصناع الذين نفذوها ، مثل الصانع " خلف " أو " نمير بن محمد العامري " أو " عبيدة " أو " خير" ؛ الأمر الذى يرفع من أهميتها ويجعلها من الوثائق التاريخية والتحف التي تقارن بواسطتها النماذج الزخرفية المنفذة بمواد مثل الذهب والفضة مما يسهل دراستها .
شجّع التطور الاقتصادي والازدهار الحضاري المسلمين الاسبان على الاقبال على حياة الرفاه والترف ، و مكّنهم من توفير الكماليات والتمتع بمباهج الحياة . وما سلم من آثار مادية ، من منشآت معمارية و تحف زخرفية ، يشهد على ذلك . ويشير " وات " Wat الى أن قرطبة أصبحت منافسة للدولة البيزنطية فى فنون الصياغة التى كانت ذات مستوى رفيع . فتزينت المسلمات بأنواع كثيرة من الحلي ، والرجال بالسلاح وسروج الخيل ؛ مماحفّز الصاغة على تطوير فنونهم ، حتى أصبحت المنتجات الصياغية الأندلسية مرغوبة فى الخارج . ومن المدن الرائدة التي تركّزت فيها الصياغة طليطلة ، كامتداد وتواصل ابداعي لتراثها الحرفي والصياغى السابق للاسلام والموروث عن الرومان والقوط . وقرطبة التى تطورت فيها صناعة السيوف والخناجر. وعرفت الصياغة كذلك فى مدن أخرى مثل مالقة ومرسية واشبيلية. وكانت الموضات الصياغية فى قرطبة واشبيلية ذات شعبية خاصة سرعان ماتشيع فى باقى أنحاء البلاد.
وقد برع صاغة الأندلس فى تنفيذ مختلف التقنيات الصياغية ، بعضها استلهموها عن الأمويين والعباسيين والبيزنطيين ، ومنها ماطوروها على طريقتهم الخاصة . وأبدعوا فى فنون الدَمْشَقَة الموروثة عن الشام والتى تطورت فى قرطبة . ولاتزال تُنفّذ فى الأندلس ، كما في طليطلة ، و كذلك في بلدان المغرب لانتاج التحف والحلي: وما اتقان صناع المغرب المعاصرين ، وخاصة بمدينتي فاس ومكناس لتطعيم الحديد بأسلاك من الفضة البرّاقة الا تواصلا لفن الدَمْشَقَة فى الأندلس .
وازدهرت فى قرطبة ومالقا صياغات "الفلكرى" ( الصياغة التيْليّة ) ( الشفتشي ) منذ القرن التاسع للميلاد . وفى أوراش مالقة ومرسية وإشبيلية تطورت فنون طَرْق المعادن ، والتطعيم بالأحجار الثمينة ، وتركيب الحلي من قطع والواح وأنواط متنوعة. وتواصل تطور التقنيات الصياغية بعد سقوط قرطبة : ففى عهد ملوك الطوائف تطورت الصياغات الفضية المذهبة والمطلية بالمينا السوداء . وبلغت توشية المصاغ بالمينا أوجها خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر، حتى أن مهارة بعض صاغة غرناطة جعلتهم يعملون فى بلاطات الملوك المسيحيين.
فيما يلى نبذة عن المصاغ الأندلسي:
الحلي:
سلمت بعض النماذج الأندلسية عبر ما أكتشف من كنوز ولُقى أثرية تساعد في عرض بعض جوانب هذا الفن الرفيع ، لكنها تُبقي نماذج الصياغات الأندلسية ضمن دائرة الآثار النادرة في الفنون الاسلامية . وهي بذلك لا توفر أمثلة كافية لدراستها بشكل مستفيض ، كالبحث في نقوشها وزخارفها ورموزها وتاريخها ومؤثراتها ومقارنتها بغيرها من التحف الصياغية ، كما يصعب تحديد مكان وتاريخ وزمان صناعتها لأن جلّها لايحمل توقيعا ، بالاضافة إلى سهولة حملها من مكان الى آخر .
فقد كانت ترد إلى حواضر الأندلس، مثل قرطبة، حلي من الشرق ، وخاصة من العراق ، وكانت لها شعبية كبيرة في الأندلس . ويذكر ابن عذارى دخول الأندلس نفيس المواد وغرائبها من بغداد بعد مقتل محمد الأمين بن هارون الرشيد وانتهاب ملكه ، ومن تلك الجواهر ذلك العقد المعروف بعقد الشِفاء الذي كانت تتزين به زبيدة أم جعفر . وكان صاغة قرطبة الذين يتجمعون في منطقة تعرف ب " الصاغة " يقلدون هذه النماذج .
ويعكس المؤرخون الكرم الذي كان أمراء الأندلس يظهرونه لزوجاتهم وجواريهم . منه عشق عبد الرحمن الثانى لجاريته طروب التى روى ابن عذارى أنها " صدّت عنه يوماً ، وأبدت هجرانه ، فأرسل فيها ، فأمتنعت عليه ، وأغلقت على نفسها بيتاً . فأمر ببنيان الباب بالخرائـط المملوّة من الدراهم ، استرضاء لها ، واستعطافاً لوصلها . فلما فتحت الباب ، تساقطت الخرائط من كل جانب ، فأخذتها ، فألقت فيها نحو من عشرين ألفاً ، وأمر لها بعقد قيمته عشرة الاف دينار ، فجعل بعض من حضر من وزرائه يعظّم الأمر عليه ، فقال له الأمير عبد الرحمن : إن لابسه أنفس منه خطراً وأرفع قدراً ! ولئن راق من هذه الحصباء منظرها ، ورصف في النفس جوهرها ، فلقد برأ الله من خلقه جوهراً يغشي الأبصار ، ويذهب بالألباب . وهل على وجه الأرض من زَبَرْجَدها وشريف جوهرها أقرّ لعين ، وأجمل لزين ، من وجهٍ أكمل الله فيه الحسن ونضرتَه ، وألقى عليه الجمال بهجته ؟ ثم قال لعبد الله بن الشـّـمِر الشاعر وكان حاضراً : هل يحضرك شئ في المعنى؟ فأنشدَ :
أتُقْرَنُ حصباءُ اليواقيتِ والشذرِ بمنْ يتعالى عن سَنَا الشمسِ والبَدرِ
بمَن قد بَرَتْ قِدْماً يدُ الله خلقَهُ ولــم يكُ شيئاً قبــــــلَهُ أبداً يَبـــْـرِي
فأكْــرِمْ بـه صَنْعةِ اللهِ جوهراً تَضَاءَلَ عنه جوهـرُ البـرّ والبحـــرِ "
ومن نماذج ما سلم من حلي أندلسية ما يحتفظ به متحف Linstitut valencia De Don Juan de Madrid من تحف من الذهب والفضة والنحاس؛ وهي من كنز لوشة Loja في غرناطة، ومن كنز جروشة Garrucha في العامرية. إضافة الى مجموعات أندلسية في كل من متحف فكتوريا والبرت بلندن؛ ومتحف Walters Gallery in Baltimore اللذان يضمّان بعض كنوز لوشة ومدينة الزهراء ، مثل الأساور والتيجان والمشابك والقلائد والمعلّقات المتنوعة ، بعضها على شكل السمك أو هيئة الهلال أو ذات تكوينات نجمية و أشكال الأسود والطواويس والغزلان والأرانب . وقد نُفّذَت بتقنيات متنوعة مثل " الفلكري " والتحبيب والطَرْق والتخريم والتطعيم والتوشيح بالمينا . ومن هذه النماذج زوج من الأساور المفصلية المفرّغة والمزينة بزخارف نباتية مطروقة ، وتنتهى بقفل نُقش عليه بحروف كوفيـــه " بركة كاملــة " . وتُذكّر هذه الأساور بما يروية المؤرخون عن زينة الغرناطيات بأساور مفرّغة من المعادن النفيسة كانت تُملأ بالعجين الممزوج بالصمغ . وهو نفس الأسلوب المتّبع في صياغة خلاخل وأساور زنجبار وعُمان ، اذ يستخدم القير أو شمع العسل لمليء الفراغ داخل الحُليــة .
ويشير إبن عذارى إلى استخدام بني أمية للأختام التى ترمز للسلطان ، وكانت تنقش بعبارات تعتبر بمثابة الشعارات. فكان نقش خاتم عبد الرحمن الداخل : " عبد الرحمن بقضاء الله راض " ، ونقش خاتم عبد الرحمن بن الحكم بن هشام : " عبد الرحمن بقضاء الله راض " ، إذ كان له قبل ذلك خاتم بإسمه ، فتلف ، وأمر بطلبه فلم يوجد ، فأعاد نقش خاتم جدّه عبد الرحمن .
المصنوعات الفضية:
استخدم الأندلسيون الفضة في صناعة الصحاف والاطباق والقناني والعلب والأباريق والمباخر والتماثيل وغيرها من مصنوعات تواردَ ذكرها في كتب التاريخ. ومن ذلك ما ذكره السيد عبد العزيز سالم عما وصفه إبن بسام عن أسماء أدوات معدنية كانت تستخدم إما لصب الماء عند الوضوء كأباريق الفضة تسكب منها المياه في طسوس الفضة؛ و الأقداح الفضية ، أو لحرق البخور كالمجامر الفضية .
وكان للخليفة المستنصر من زوجته صُبح الاسبانية الأصل ولدان ، أحدهما توفي ، والآخر هو أبو الوليد هشام المؤيد ، الذي حرصت أمه على تنصيبه على عرش الأندلس . فاستطاعت إقناع زوجها بمبايعة ابنها في حياته وقبل وفاته ببضعة أشهر، أي في سنة 366 / 976 . وعندما توفي الحَكَم المستنصر كان ابنه هشام صغيراً وغير جدير بالجلوس على عرش أسلافه ، فانقسمت الأسرة الحاكمة إلى قسمين ، تحمّس الأول إلى تنصيب هشام وتعيين وصي عليه؛ ورأى الفريق الثانى تعيين المغيرة أخو الحَكَم المستنصر والذي كان أكبر أفراد الأسرة سناً . وتغلّب الفريق الأول الذى تزعّمه حاجب البلاط محمد بن أبي عامر ( المنصور) ، الذي صار له عداء مستحكم مع السيدة صُبح ، لكنه كان شديد الحرص على استمالتها في أول الأمر . ويذكر إبن عذارى: " أن المنصور صاغ لها قصراً من فضة وقت ولايته للوكالة والخزانة ، عمل فيه مدة ، وأنفق فيه مالاً جسيماً فجاء بديعاً لم تر العيون أعجب منه ... وحمله اليها على رؤوس الرجال.."؛ مما يبين ضخامة هذا النموذج الفضي " الماكيت " .
وكثيراً ما أشير في المصادر التاريخية و الفنية إلى صندوق خشبي صغير محفوظ بكاتدرائية جرندة Gerona باسبانيا ، وهو من صناعة قرطبة في عصر الخلافة: " والصندوق المذكور من الخشب تكسوه صفائح من الفضة المزينة بالزخارف المطروقة ، وقاعدته مستطيلة الشكل طولها 38.5 سنتيمترا وعرضها 23 سنتمتراً وغطاؤه على شكل هرم ناقص يتوسطه من أعلاه مقبض ، وتزدان صفائح الفضة بزخارف من التوريقات النباتية رائعة التكوين من الطابع الخلافى تتخذ أغصانها الملتفة شكل زهرات . ويحتفظ الصندوق بمفصلتين منقوشتين بطريقة الطَرْق ، ويحمل الصندوق نقشاً كتابياً يستدل منه على أن الحَكَم هو الذى أمر بصنعه ، وأن ذلك تم على يد فتاه جؤذر( 4 )، وأن الصندوق خصص لأبنه ووريثه هشام المؤيد ، والنص كما يلي : " بسم الله بركة من الله ويمن وسعادة وسرور دائم لعبد الله الحكم أمير المؤمنين ، المستنصر بالله مما أمر بعمله لأبي الوليد هشام ولي عهد المسلمين . تم على يد جؤذر فتاه . وقد وقّع صائغا العلبة بأسميهما : " بدر " و "طريف " .
وفي متحف الآثار بقرطبة قنّينة من الفضة لحفظ العطور ، تتكون من جسم كروي ورقبة إسطوانية وغطاء مُقبّب يتصل من خلال سلسلة قصيرة ترتبط بحلقة مثبتة في جسم القنينة . ويلاحظ أن عنق القنينة مزين بزخارف مطروقة تمثل أقواسا صغيرة ودقيقة ومتجاورة لحدوة الفرس ، وتحته إفريز من ورقة نباتية متكررة ، ويزدان جسم القنينة بظفيرة متماوجة نُفذت كذلك بالطَرْق . وفي المتحف الأثري بمدريد صندوق من الفضة مطعّم بالعقيق المعرّق على هيئة أقواس و أشكال هندسية متنوعة ، وفضته موشحة بالمينا السوداء ، ويرجع تاريخه للقرن العاشر للميلاد .
وهناك علبة منقوشة ومزينة بالمينا السوداء محفوظة في Trésor de San marco á venis ، زُيّنَ غطاؤها برسم لشخصين جالسين يعزفان على قيثارة وسط زخارف على شكل أقواس محلاة بكتابات كوفية ، أما حواشيها فمزينة بورود وأقواس وطيور تنتهى برؤوس فتيات.