من بلاد الهايكو- 1

2016-05-19
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/42328e98-6359-42f9-b9ff-129213cdee9b.jpeg
في عام 1862م زارت بعثة يابانية مصر للتعرف والوقوف على أسباب النهضة المصرية التي دشنها باني مصر الحديثة محمد علي باشا الكبير، بعد أن قضى على نفوذ المماليك قضاء مبرما في آخر فصل من صراعه معهم بما عُرف بمجزرة القلعة.. حلّ الوفد الذي كان أعضاؤه من الساموراي في ميناء السويس وكانت القناة التي تحمل اسمها لم يكتمل إنجازها بعد! وقد استقل الوفد القطار متجهاً الى القاهرة .. حيث ذُهل أعضاء الوفد لمرأى القطار وتجهيزاته وسرعته الفائقة، ولهم الحق في أن يذهلوا فاليابان لم تعرف بعد السكك الحديد ولا القطار الذي ينزلق عليها(*)!! لقد التقطوا الصور لهذا الكائن الغريب، وستبدأ رحلة اليابانيين مع عادة لم تزل ملازمة لهم ساهمت أي مساهمة في تطورهم وهي التصوير الفوتوغرافي الذي سيفتح آفاقاً رحبة لليابان! 
تجول أعضاء البعثة في القاهرة ودخلوا حماماتها النظيفة، ووقفوا مذهولين أمام الأهرامات في الجيزة ولكنهم أُخِذوا بشيئ آخر وهو التلغراف... ثم تتالت بعثات اليابان الى مصر من مثقفين متعطشين لنقل المعارف في النظام الإداري والنظام المالي والقضائي والصحي وفي مناحي العلوم المختلفة.. ولم يمض وقت طويل حتى أصدر المؤلف الياباني هاراكاي سفره " المحاكم المصرية المختلطة" عام 1889م.. وواصلت البعثة رحلتها الى الإسكندرية ومنها الى فرنسا وستعود ثانية الى مصر سالكة الطريق ذاته.
***
 تعمدت أن أبدأ بهذه المقدمة لدلالاتها الهادفة ملتمساً صبر القارىء. ولعل سؤالاً يلمع في الذهن، ترى كيف كانت اليابان في تلك الحقبة؟
عاملان تضافرا في جعل هذا البلد ممزقاً معزولاً لم يعرف الإستقرار، هما: عامل الطبيعة، والإنسان ابن هذه الطبيعة! الطبيعة الجغرافية لهذه الجزرالمتصلة أوالمنفصلة، وما يحيق بها من عوامل الهلاك، من زلازل وفياضانات وعواصف بحرية تضرب قرى السواحل وتغرقها وبراكين قد تثور بعد طول خمود! وقاطنو هذه الجزر الذين يعتمدون الزراعة في أرض بركانية معطاء تزيدها غزارة الأمطار خصوبة، والذين طالما كانوا يتحاربون ويجيدون فن الحرب(**) من أجل الأرض التي ضاقت بكثرتهم! أرض ثلثاها من الجبال التي تكسوها الغابات المصدر الثر للأخشاب المتينة التي اعتمدوها في بناء القلاع والسفن.
ومع أن الحروب في تاريخ اليابان لاتكاد تنقطع إلا في مراحل زمنية محدودة جعلت من اليابانيين يحسنون ويتفننون في شؤون القتال وبوسائل مختلفة من اسلحة الرمي كالسهام والنبال الى الأسلحة البيضاء الخاصة، وكان المحاربون من الساموراي يحتلون مكانة عالية في المجتمع تميزهم عن غيرهم بالدروع الثقيلة التي يرتدونها وسيوفهم وعُددهم التي مازالت معروضة في متاحف اليابان ومنها المتحف الوطني .
 أعود لأقول أن هناك محطات ازدهر فيها الشعر والفن بمختلف ألوانه بما في ذلك فن الخط والرسم في مرحلة سلالة الهاين التي ازدهرت عاصمتها هيان-كيو في منطقة كيوتو الحالية . سقطت هذه السلالة عام 1160م على يد الأغنياء الجدد الذين اعتمدوا على الساموراي وأصبحوا اداة لحكم مُلّاك الإقطاعات؛ تعاظم دور الساموراي ليصبحوا مشاركين في الحكم كعسكريين لدى الدولة عام 1615 واستبدلو الدروع بالملابس الخفيفة ( الكيمونو ) .
الحاضرة التي بناها شاعر:
هي في الأصل قرية نائية ينطلق منها الصيادون في زوارقهم على الساحل الشرقي، كان اسمها إيدو وتعني "بوابة النهر" لموقعها على نهرسومادي غاوا الذي يصب في خليج ينفتح على المحيط الهادىء؛ حتى قُيِّض لها محارب وشاعر وكاهن بوذي اسمه أوتا دوكان (***) وقد يلحق باسمه سوكيناغا ( 1432-1486م ) ليبني فيها قلعة في القرن الخامس عشر ثم لم تلبث وأصبحت أيدو مقرا للحاكم العسكري، ومنذ ذلك الحين والمدينة تتسع بسرعة حتى أصبحت حاضرة الشعر، يتغنى بها الشعراء لاسيما شعراء الهايكو. وبحلول القرن الثامن عشر أضحت إيدو أكثر مدن العالم ازدحاماً بالسكّان!! فهي قريبة من الجبل المقدس فوجي ويمكن في أيام الصحو أن تُرى قمته من برج طوكيو، أو من بروج القلاع في المدينة وما حولها .
بعد أن اكتمل بناء القلعة، التي هي مقر قادة الساموراي، قال الشاعر المحارب دوكان:
دارة الكنز
عند غابة الصنوبر
تتربع على البحر الأزرق 
ومن البهو المنخفض
يتطلع القادة الى فوجي الشامخ
( هذه القلعة هي اليوم قصر الإمبراطور ) . لقد أوحت هذه الأشعار الى السياسي  المرشح لمنصب محافظ طوكيو عام 1971 ليرفع شعار: أعيدوا لطوكيو زرقة سمائها!
 وهكذا فاز بوساطة الشعر!
أما الشاعر العظيم ماتسيو باشو ( 1644-1694 ) فهو يذكر إيدو بهذا الهايكو الذائع (****):
رياح جبل فوجي
سأضخها في مروحتي
هديةً من إيدو
أصبحت حقبة إيدو ( 1868-1603 ) تؤرخ لتاريخ المدينة ولشعر الهايكو الذي ازدهر ونُسب إليها، حتى إذا حل عام 1868م حيث خمدت نيران الحروب وتوحدت اليابان وأصبحت امبراطورية بفضل الإصلاحات وإعادة البناء التي عرفت باصلاحات ميجي Meiji restoration أو حقبة ميجي الذي نقل العاصمة من كيوتو الى إيدو التي أصبحت تسمى طوكيو وتعني العاصمة الشرقية . وبذلك انتهت عزلة دامت 250 عاماً لتنتهي القيم الإقطاعية ولتنفتح اليابان على العالم وتستقبل منجزات الحضارة العالمية والثقافية والإقتصادية والصناعية وتنفتح على الأفكار والأزياء الغربية والمعمار والتخطيط الجديد للمدن وإنشاء الحدائق والمتاحف بفضل البعثات التي جلبت لليابان الكثير ومنها البعثة الى مصر التي ذكرناها في البداية...
***
الطائرة تقترب من مطار ناريتا والوقت يقترب من السابعة مساء، الأضواء على طول الساحل ومع الاقتراب من المطار بدا المنظر ساحراً لطوكيو المتوهجة بالاضواء، الرحلة من بانغكوك استغرقت أكثر من ست ساعات، المطار مكتظ بالسائحين والحركة دائبة والتنظيم في أحسن ما يكون، خمّنتُ أن الوقت اللازم قد يكون ساعة ونصف الساعة، لكثرة المسافرين الذين انتظموا في صفوف مهيأة، وموظفون يعملون كخلية نحل، استغرقت الإجراءات خمس وثلاثين دقيقة! كنت في الرحلة قلقاً من تعقيد شبكة خطوط السكك الحديد وتعدد شركاتها من الأنفاق والقطار الأرضي والقطار المحمول .. هذه الخطوط تغطي طوكيو الكبرى وتنقلك لأي مكان تريد في طوكيو أو أي قرية في اليابان بأقصر وقت!
والحديث عن شبكة السكك الحديد اليابانية يجبرك على الكلام عن shinkansen أو القطار الطلقة، الذي هو أسرع قطار في العالم حيث تصل سرعته القصوى 300كم/ساعة. أما دقة مواعيد القطار فهي مدهشه حين يكون الخطأ السنوي في مواعيد هذه القُطُر سبع ثوان لا غير!
اشترينا بطاقة القطار الموصل من مطار ناريتا الذي يبعد 60 كم عن مركز طوكيو من الطائرة وبسعر مناسب ليقربنا من الفندق، استغرقت الرحلة  بالقطار السريع المحمول خمس وثلاثين دقيقة . كان الإعلان عن محطات التوقف باللغة اليابانية والإنكليزية صوتاً وصورة، مع ملاحظة مهمة هو عدم توفر أسماء المحطات باللغة الإنكليزية أحياناً، فلا محيص من السؤال من موظفي المحطات أو من الناس الذي يساعدون حتى في قطع التذاكر آلياً، واليابانيون رغم حاجز اللغة متعاونون ولايردون مستفهِما، وكم من مرة تبادر السيدات اليابانيات –أكثر من الرجال- في عرض المساعدة .
أجور النقل في اليابان مرتفعة، وهي ترهق السائحين لذا تتوفر فرصة شراء بطاقة التخفيضات في السكك الحديد اليابانية J R pass التي توفر الكثير وخاصة للمسافات البعيدة، لمدد محددة لأسبوع أو أسبوعين أو أكثر، تمكن حاملها من السفر بالقطار الطلقة أو بالباصات التابعة للسكك وكذلك للقوارب التابعة لها بما في ذلك القوارب بين اليابان وكوريا الجنوبية . على شرط أن هذه النوع من البطاقات ينبغي أن تشترى من خارج اليابان فقط!
إذا كان التخطيط للسفر ضرورياً فهو ضروري جداً حين يكون الهدف هو اليابان، نظر لخصوصية هذا البلد الثقافية والاقتصادية والحضارية التي يجب أن تحترم وأن يتكيف لها المسافر، ولا بأس لو تعلم المسافر مسبقاً التحية والشكر باليابانية فحينها سيلقى السائح ترحيبا واحتراما.. واحترام التقاليد اليابانية في تناول الطعام والانحناء للكبار وخفض الصوت عند التحدث اليهم سيدخل الفرح في نفوسهم فالعجائز والأطفال يحظون باحترام كبير في المجتمع الياباني ولهم الأولوية في الجلوس في وسائط النقل! 
الفنادق غالية وحجزها مقدما أمر ضروري، هناك بعض الفنادق الرخيصة نسبياً التي توفر الكبسولات وهي غرفة فيها مخابىء للنوم تشبه الكبسولة لذلك تسمى capsule room ومثلها المنامات في غرف مشتركة للذكور أو للإناث.. لم تتح لي النوم بها قط لأنني سافرت مع زوجتي فحجز غرفة لا بد منه حتى ولو كان مكلفاً. تعمد معظم الفنادق في اليابان على تأجير البياضات، والمناشف وغسالات الملابس بسعر إضافي! في بعض الحالات تكون الحمامات والمراحيض خارج الغرفة، ولا يستغربن أحد إذا وجد أن الدوش الساخن لا يشتغل إلا آلياً بدفع النقود لزمن معين، أما المراحيض اليابانية فهي تشبه المراحيض الشرقية  في الشرق الأوسط أو آسيا تكون من الخزف أو المعدن ولكن الجلوس عليها معكوساً!! وتتوفر المراحيض الحديثة جنب التقليدية، تدخل المرحاض الحديث وكأنك في كابينة طيار لكثرة الأزرار التي تتحكم بدرجة الحراة واتجاه الماء وقوته، كل شيء آلي، لقد عرفت هكذا مراحيض لكنني لم أر كثرة الأزرار مثل المرحاض الياباني ولا مثل الحمامات اليابانية !
على أن أصحاب الفنادق جلهم لطفاء ويقدمون معلومات هامة للمسافرين وأحياناً خرائط دون مقابل . وقبل أن أختم هذه الحلقة أجد اصطحاب كتاب سياحي موثوق ضرورة ولا بأس من إنزال برامج الاستدلال الجغرافي في الهواتف الذكية .
هوامش:
(*) اللطائف المصورة، al lataif al musawara
The Japanese mission in Egypt,1862
(**) راجع سلسلة الساكورا والهايكو ح1 لكاتب هذه السطور على مختلف المواقع.
(***) Ota Dokan or Ota Sukenaga
(****) راجع الساكورا والهايكو ح2
ملاحظة: من أوثق الكتب السياحية هو من سلسلة لونلي بلانت
Lonely planet, Japan, 14th edition Sep. 2015.904 pages.
-ستكون الحلقة الثانية مخصصة لمشاهدات في طوكيو- 







   
 

   


 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved