أ
ود قبل أن أصل إلى جبل فوجي أن أتوقف مع الناس ومشاكلهم الاجتماعية؛ وقبل أن ألج موضوعاً عويصاً كهذا، لي أن أقول قولة لا بد منها وهو أن زيارة لمدة محدودة لأيام أو أسابيع قلائل لا تشفي غليل الصادي، فلا بد من الاستعانة بالبيانات الحكومية والكتب المتعلقة بهذا البلد للوقوف على مشاكله هنيهة في وَلْجَة ما وسعني الاختصار فيها.
تُعد نهضة اليابان من اسرع النهضات في التاريخ رغم النكبات والكبوات التي تعرض لها والتي عرضنا لها في ما سبق، هذا النمو الصناعي ذو الإيقاع المتسارع قد أثّر على الوضع الاجتماعي لبلد يُنشد التوازن بين المعاصرة والأصالة، بين الحضارة الوافدة والإرث التاريخي الثقيل وما يحملة من معتقدات وعادات وقيم ألقت بظلال قاتمات وثقوب سود في تضاريس هذا المجتمع، قد لا يراها الرائي أول وهلة حين يكون مأخوذاً بالمعطيات التكنولوجية والشواخص الحضارية التي تواجهه أنّى توجه لاسيّما في المدن..
اليابان مجتمع ذكوري بامتياز، يتجلى ذلك في الفصل بين الجنسين وهو أمر ملحوظ في الشارع وفي مجالات العمل، حيث المواقع الهامة للرجال، أما النساء فلطالما يشتغلن بالوقت الجزئي، وهناك تمييز بين رواتب الجنسين يكون الرجحان فيه للرجل، ولا يحبذ تعيين المتزوجة أو المرأة الحامل، أو الأم. وأزيد أكثر أن المرأة لا حق لها في الميراث وفق العادات اليابانية إلا بوصية ندر أن تكون، فحصة الأسد للإبن الأكبر ( العادات الصنية نفسها ولكن تغيرت بعد الثورة ).. ستكون هذه العوامل من الأسباب الهامة في انخفاض معدل الزواج، وزيادة هائلة في معدل الإجهاض الى 340000 حالة سنوياً وبذلك سيُسهم في ظاهرة مؤرقة لعلماء الاجتماع في اليابان وهي انخفاض معدل النمو الديموغرافي الى عجز سنوي مقداره مليون نسمة !
وآية ذلك هو عزوف الشباب من الجنسين عن الزواج . سأعطي مثلين من الإحصاءات الرسمية عام 2014؛ للفئات العمرية الأكثر إخصابا والتي تمتنع عن الزواج بالنسب المئوية المصاحبة لها وهي :
عمر 25-29 سنة، للذكور 69.3% وللإناث 54.0%.
عمر30-34 سنة، للذكور42.91% وللإناث 26.6%.
ولا أود الاستغراق بالأرقام بل سأقول أن ثلث الشباب العزاب ( بما فيهم الشابات ) لم يمارسوا الجنس قط، في بلد تعد عاصمته من أكبر مدن صناعة الجنس في العالم وهي الرائدة في صناعة السينما الإباحية والدمى الناطقة! وعزوف الشباب هذا مقلق للدولة بحيث فتحت مؤسسات مجانية لإعطاء الشباب من الجنسين فنوناً في الحب ولكن من دون طائل!!
ولو توقف الأمر هنا لهان؛ فهناك ظاهرة الانتحار، وهذه الظاهرة متآلفة مع المجتمع الياباني فهي تأريخية ترجع الى طقوس الساموراي والتي تعرف بالانتحار المشرِّف الذي يجلب الشرف خلاف الاستسلام الذي يبقى وصمة عار honorable suicide للمستسلم وعائلته! ولكن الانتحار في اليابان ليس من النوع "المشرِّف" حين يسجل مديات تصل تسعين حالة في اليوم وكم استبشر الاجتماعيون حين ثبتت بالسنوات الأخيرة الثلاث على سبعين حالة يوميا، ومن أهم الاسباب الاكتئاب، والضغوط الاجتماعية والاقتصادية وخاصة فقدان العمل وهذ ايفسر كون الانتحار بين الذكور ضعفه بين الإناث، فقد سجلت سنوات الركود الاقتصادي في التسعينات خاصة 1998 زيادة وصلت الى 34.7% عن العام الذي سبقه..
ورغم أن المعارضة السياسية تضخم من خطورة المشكلات الاجتماعية مثل وجود الفقر الذي يقال أن هناك المليون على الخط أو دونه لكن مفهوم خط الفقر يختلف في اليابان عنه في مصر، ففي مصر يكون 1.25 دولار امريكي لليوم فإن في اليابان الفقر رحيم وحصة الفرد الياباني من البروتين الحيواني عالية إنما ينقص الفقير الياباني وسائل الترفيه الكمالية الغالية فقط وامتلاك السكن، هناك هامش صغير جداً لا يكاد يُرى في الشوارع والمحطات من المشردين homeless ولا يمكن قياسه بمشردي أوربا!
والعطالة التي تعتبر سبباً هاماً لاكتآب الشباب فهي وفق الإحصائية الرسمية لعام 2014 تبلغ 4% ، ولو قارناها ببعض البلدان للعام ذاته: 7.5% في المملكة المتحدة و7.4% في الولايات المتحدة و4.6% في الصين و 16% في العراق و12.7% في مصر و26.6% في اسبانيا .. وتبذل اليابان مبالغ هائلة للتغلب على المشكلات الاجتماعية ومشكلات التلوث الإشعاعي وهو من عقابيل الحرب العالمية الثانية أو من علل تقنية في المفاعلات الذرية.. ولا أود الاستفاضة في مشكلات الهجرة من الريف الى المدينة ولكنني أود التذكير بأن اليابان تقدم معونات سخية في مساعدة الدول الفقيرة والدول التي مزقتها الحروب ومنها بلدنا..
***
نحن في الحافلة التي تنساب على الطريق السريع نحو جبل فوجي، الطريق خالِ من العقد المرورية، المناظر ساحرة جبال ووهاد خضر وسهول عامرة بمزارع الأرز، وغابات كثيفة، وتلوح قلاع بين المدن الصغيرة، والركاب صامتون ومُنشّدون الى جهاز التلفاز ولا يقطعه إلا صوت السائق بين الحين والآخر لينبّه الى مناطق الوقوف..
هو جبل لا يشبه الجبال الأخرى هو منعزل عن السلسلة الجبلية، مترفع عليها مزهو بشموخه فهو الأعلى طرّاً 3776م؛ يبدو كنسر يفرش جناحيه على الأفق ويبسطهما على الأديم بسطا رفيقاً، وفي الشتاء يبدو رأسُه مكللاً بتاج أبيضَ ناصع، أينما درت حوله يبقى محافظاً على شكله المخروطي الباذخ المهيب، من يرَه سيُحببه ويبقى مرسوماً في ذاكرته، ولا غرابة فهو إيقونة البلد كله؛ مُذّ وقعت عيناي وأنا طفل صغير على صورة له من تلك الصور التي تاتي مع الأقمشة اليابانية استقر مَرآه في الذاكرة، ولم يَبرَحْها أبدا.
جبل فوجي إيقونة اليابان كما بدا من غرفة الفندق
استغرقت الرحلة من طوكيو الى قصبة كواغوشي كو ساعة وخمسين دقيقة، وهي قرية البحيرات الخمس والمتصلة ببعضها لتقابل الجبل وتكون معه منظراً آسرا. بقينا نتجول في المدينة منتظرين صاحب الفندق ليأخذنا الى بسيارته محاذيا البحيرة غرباً والجبل شرقاً حتى وصلنا الى الريف وانتهيا الى البيت الجميل الياباني فهو انموذج لمنازل الريف، صالة الطعام والمرافق الصحية، وغرف النوم كل شيئ فرش بالقش الياباني tatami، والفراش على الأرض نموذج للفوتون futon، ومن لا يريد ذلك فهناك أسرّة خشبية رتبت فوق بعضها، لاتوجد كراسي وإنما مقاعد أرضية بمساند ومناضد مناسبة الارتفاع، تنزع الأحذية لتستبدل بأخفاف لكي لا تؤذي بساط القش ولكي لا تـعمل جلبة، لدورات المياه أخفافها الخاصة؛ الشاي ( الأخضر ) والقهوة يقدمان بسخاء مجاناً.. لم نكن منشغلين بشيئ إلا بمنظر الجبل حين أخبرنا أن الغيوم قد تحجب الجبل في أية لحظة وتمنى لنا مُضيفنا أن نرى منظر الغروب!
صالة الطعام في البيت الياباني مفروشة بالتاتامي
كانت ليلة نادرة في الريف الجميل ومع الغروب المنتظر استضاف الجبل السحاب ولم تظهر منه سوى ذروته البركانية التي تمتلىء بالثلج شتاء ويفيض الثلج منها ليغطيها ويجعلها تاجاً أبيض؛ وهو المنظر الذي أينما حللت في اليابان سترى صورته معطوفاً على اسم فوجي لشركات وعلامات تجارية وسلسة مطاعم معروفة عالمية تحمل اسمه ! بدأ الجو بارداً وبلغ التعب مبلغه بعد ان تمشينا في الريف قرابة 8 كم بين البيوت الأنيقة واشجار الكاكي المترعة بثمارها الذهبية!
في الصباح الباكر خرجنا نتمشى الى البحيرات عبر الحقول ومناظر الجبال التي فارقها فوجي، كان الناس يتمشون ويتريضون على شواطئها والبعض نزَل يصطاد السمك، انحدرنا الى الشاطىء، فنادق ومتحف ومعابد صغيرة ومنتجعات وقاعات رياضة، رجعنا وكان الناس يبتسمون ونبتسم، وتكلمت معنا سيدة ستينية في حديقة منزلها لترينا الزهور والثمار التي زرعتها من خيار ويقطين وفُلفُل..، لم نستطع التفاهم معها سوى تبادل الابتسامات!
أوصلَنا صاحب النُزُل مشكوراً الى محطة الحافلات بعد أن ارانا البحيرات والمناظر الجميلة وصوّرنا بنفسه، ولم يأخذ مقابل خدماته أي مقابل. الياباني لا يستلم أي مبلغ إضافي أو ما يسمى البقشيش، إذا أردت أن تكرم من قدم لك خدمة عن طيب خاطر سيكون مسروراً لو قدمت هدية بسيطة له من بلدك أو تشتري له أي شيء بسيط وحبذا لوكان مغلفاً مع كلمة شكر مكتوبة – لا بأس أن لم يكن مغلفا- إنما المهم أن تقدمه بيديك الإثنين مع انحناءة بسيطة فستجده يطير فرحاً!!
هناك حافلات سياحية تنطلق نحو جبل فوجي تدور حوله مرتفعة إلى أعلى موقف هو المحطة الخامسة والأخيرة، فيها معبد وسوق لبيع الهدايا ومطاعم وفندق كبير ومنها ينطلق المتسلقون نحو القمة حيث تتوفر لهما كابينات نوم حين يُعييهم الصعود، أفسد الرذاذ علينا التجوال مع قرصة برد، هناك لمن يريد ان يرتقي علواً فيمكن استخدام cable car القمائر المحمولة ..
انتقلنا في الليلة الثانية الى الجهة الأخرى من الجبل في مدينة شيمويوشيدا، للتمتع بمنظر آخر للجبل، فلم يحالفنا الحظ كانت السماء مثقلة بالغيوم وأرسلت غيثاً عميماً لم ينقطع فاكتفينا بالتجول في هذه المدينة الحالمة والتسوق في اسواقها القليلة..
في الصباح سنركب القطار المحلي لثلاث محطات الى حيث حللنا في كواغوشي كو لنواصل رحلتنا بالحافلة الى مدينة ميشيما ومنها بالقطار الطلقة الى كيوتو. لم نرَ الكثير مما يلزم أن يُرى في فوجي سيتي، وأحسبنا استمتعنا كثيراً بالمأكول والمشروب اليابانيين..
kalidjawadkalid@hotmail.com