رأى البرق شرقياً فحنَّ الى الشرق- ولو لاح غربيّاً لحنَّ الى الغربِ
فإنّ غرامي بالبُريقِ ولمحه – وليس غرامي بالأماكن والتُربِ
روته الصَّبا عنّي حديثاً معنعناً – عن البتّ عن وجدي عن الحزن عن كربي
فقلتُ لها: بلّغ إليه فإنه – هو المُوقدُ النارَ التي داخل القلب
لله درُّك سيدي محيي الدين فما ألمعَ برقَكَ وما أوسع عبارتَك! وأنت تفيض بإشراقات حبّك أنّى توجهت ركائبك وحلّ رحالك في مسجد أو دير رهبان أو معبد بوذيّ تحمل في إهابك دِين الحب.. حنانيك سيدي حنانيك؛ أراك تطوي الفيافي والوهاد على ظهر راحلتك من ألأندلس/الغرب الى الشرق/دمشق وأختها الموصل، وأنا أطويها على متن مُجنَّح طائر أوفي جوف أُفعوان من حديد يطوي الفلا طيّا اسمه قطار الطلقة !
بعد أيام ستحل ذكرى وفاة دفين دمشق الخامسة والسبعين بعد المائة السابعة محي الدين بن عربي الطائي الأندلسي 558ه/1164م-638/1240.
وقد جارى ابنَ عربي تلميذُه العارفُ المتصوفُ الرحّالةُ المفكرُ المضطهَدُ عبد الغنى النابلسي دفين دمشق 1050ه/1641م-1143ه/1731 حيث قال:
فقلتُ لأهل الغرب لا تعتبونني- بكم إنني في الجمع من غير ما فرقِ
ألا فاعذروا طرف المحب فإنّهُ – رأى البرق شرقيّا فحنّ الى الشرقِ
كأني بذينيْك الجهبذيْن الإنسانييْن يعرفان أن شاعرأ سيأتي أهلوه من الغرب ليحل في الهند ويولد في بومبي حاضرة الهند "جوهرة التاج البريطاني" ليصبح شاعر الأمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس وهو الشاعر القاص المتعالي رديارد كبلنغ Rudyard Kipling 1865-1936 الذي قال من قصيدة يمجد بها الرجال الاقوياء العساكر الذين يأتون من نهاية العالم ليجتاحوه في قصيدة يبدؤها:
الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا
Oh, East is East and West is West and the twain shall not meet.
لقد حمل الزمن إجاباته ونهض الشرق ووقف نداً قويا للغرب وتهاوت مقولة شاعر الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس متناسية أن الشمس تأتي من الشرق!
***
نحن الآن في مدينة ميشيما، وفي محطتها الهامة، علينا أن نستحصل بطاقة السكك الحديد بتقديم وصل الشراء من الخارج، حصلنا على البطاقة وعلينا أن نأخذ القطار الطلقة سيوصلنا الى كيوتو بساعتين وربع الساعة، والقطار هو هيكاري، جاء يتهادى، بدا كأنه تمساح عملاق، تحرك هادئا ثم جرى مسرعاً ولا يصدق راكبه أن السرعة تتراوح بين 280كم/سع الى 300 ، فكان متوازناً، بيدك الكاس مترعة فلا يتحرك سائلها!! وأسرع منه وأروع هو قطار نوزومي الذي لا تتيح لنا بطاقتنا استقلاله..
ها هي كيوتو، حططنا الرحال في محطتها العملاقة وسنركب قطار النفق بنحو تسع وقفات الى حيث نريد في الضاحية الشمالية. حيث الجامعات والمعاهد.. وإلى أن نصل هناك، فلا بد من وقفة سريعة على كيوتو ليست كوقفة أبي المُحسّد على الأطلال:
بَليتُ بِلى الأطلال إن لم أقفْ بها – وقوفَ شحيح ضاع في التُرْب خاتمُهْ
وأنا وقفت معه على الهاء! فالشُح لا يستوي مع السياحة في هذا البلد .
هي مدينة التاريخ التليد ومنبع التقاليد وكنز الثقافة اليابانية الأصيلة وحافظتها، ولأنها مهد البوذية، فيها الف وستمائة معبد بوذي وأربعمائة معبد شنتو، من غير المقامات الدينية كل ذلك من المعمار الياباني الأصيل المتعدد الألوان، ما جعلها من ضمن التراث العالمي المصون المسجل والموثق في اليونسكو؛ وهي مدينة بنات الجيشا* برقصهن وهن حاملات المراوح الأنيقة وموسيقاهن الراقية الضاربين في عمق التقاليد التأريخية، وهي مدينة مسرح الكابوكي**، وهي مدينة الكاروك*** والأزياء الشعبية بما في ذلك الكيمونو وهي مدينة المحاربين الساموراي والسومو؛ وهي المشهورة بمطبخها ومطاعمها وفنادقها الباذخة والمنافسة لباريس ولندن وروما، وهي مدينة الشعر والفن المشرِعة أبوابها للفكر والثقافة المعاصرتين، وسيفهم القارىء أنها مدينة الأرستقراطية ولكن مهلاً مهلا..
هي أيضاً مدينة الفكر التقدمي وقلعة من قلاع الشيوعيين واليسار الجديد بشتى تلاوينه، ولا بدّ من وقفة مختصرة ( سأتوسع بها في الحلقة الأخيرة عن السياسة والدين في المجتمع الياباني ).. فمنذ أن نزعت اليابان ثوب العسكرتاريا أو انزِع عنها، شمّر الشيوعيون سواعدهم مع عموم الشعب في بناء البلد وساهم مفكروهم وأدباؤهم وتكنوقراطهم في حملات البناء، وحازوا على ثقة الشعب، ولولا حالة الانشقاقات والتجمعات اليسارية الجديدة والتروتسكية، وهي لو تجمعت لغدا الشيوعيون قوة كبيرة ومع ذلك فهم القوة الثانية في كيوتو والثالثة في طوكيو ولا يختلف الحال في الحواضر الأخرى وهاذا من نتائج الانتخابات للمجالس البلدية Kyoto City Assambly في عام 2013 في كيوتووعدد أعضائه الكلي 69:
الحزب الليبرالي الديمقراطي 22 مقعداً، الحزب الشيوعي الياباني 14 مقعداً، الحزب الديمقراطي في اليابان 13 مقعداً.
أما المجلس البلدي في طوكيو Tokyo Metropolitan Assamblyالذي قوامه 23 بلدية للعام 2013 لمجموع 127 مقعداً فهو:
الحزب الليبرالي الديمقراطي 59 مقعداً؛ كوميتو 23 مقعداً؛ الحزب الشيوعي 17 مقعداً.
وصلنا الى محطة ماتسوساكي واستدللنا الى الفندق لذي بدا قسماً داخلياً للطلبة، صاحبته ذات طبع عسكري، المنطقة جميلة فيها كليات ومعاهد عالية، كان في النزل شاب رائع إيطالي، جاء من شركته الأيطالية موفداً خبيراً في المتاحف، وهناك معلمة أمريكية قضت في النزل تسع سنوات، ونزلاء من جنسيات أوربية، خرجنا نتجول نبحث عن محلات سفن الفن فهي الوحيدة التي تقبل بطاقات الاعتماد وكذلك مراكز البريد أما التصريف في البنوك فسيكون خاضعا لضريبة البنك العالية! التقينا بشابة متحجبة بدت ملامحها عربية وكم فرحت المصرية بلقيانا، كانت تحضر للدكتوراه في جامعة كيوتو في الكيمياء الكهربائية تكلمنا في هذا الميدان فلي خبرة في هذا الأختصاص وهو الطلاء الكهربائي Electroplating وكان اللقاء معها حميماً خاصة عندما أخبرتنا أن العرب في هذه المدينة قليلون وقلما تلتقي بزوار من ديار العرب !
إذا ذكرت كيوتو فستذكر غابات الخيزُران في أراشيياما، وهي عبارة عن مجمع لمعابد قديمة وقصور في وسط غابة وممرات الخيزران ومطاعم وأسواق تقليدية وأبراج، المنظر جميل جداً، حيث يجد الزائر بيوتاً تقليدية وسط الغابة للأمراء والأغنياء وللشعراء والمفكرين فالجو هنا هادىء ويشجع على التأمل، دخلنا في واحد من هذه البيوت لقاء رسم غال وخلنا أننا سنأكل وجبة دسمة وإذا هي لا تعدو عن كونها قطعة من حلوى الأرز وشاي ياباني لا غير!! وقريب من هذه القرية هناك منتجع لنهر وجسر على نهر هوزوغاوا وجبال مطلّة عليه غير بعيد منه مدينة القردة، والمنظر غاية في الجمال ولمن يتعب هناك عربات أنيقة يجرها شباب لطفاء لقاء مبلغ معقول وكل واحد منهم يصلح أن يكون دليلأ سياحيا لمعرفته بالمنطقة وتاريخها، حيث يريك ويشرح لك أهم معالم المنطقة.. لقد صرفنا يوماً كاملاً ممتعاً في هذه القرية الساحرة .
غابات الخيزران في كيوتو
في الشمال الغربي من الكيوتو هناك معبد وقصر ملكي شهير وأعني به كنكاكو-جي، للوصول الى هذا المكان سنأخذ المترو من محطة ماتسوكاساكي حيث نسكن في الشمال الشرقي الى المعبد في الشمال الشرقي ثم نأخذ الباص، وقد صحبنا سيد وسيدة من منطقتنا كانو غاية في الرقة والعذوبة رغم أنهم لا يعرفون الإتكليزية واطمأنوا لتوصيلنا حيث نزلوا قبلنا بموقف واحد، ومن الملاحظ أن إحدى مواقف الباص كان يشير الى اسم المنطفة " ملا سُكينة" باللفظ الذي لا يخطىْ اللفظ العربي!! يتميز هذا الصرح ببرج وقبته الذهبية الفريدة اللامعة، وأكثر من هذا فهناك بحيرة ومرتفعات تتيح للرائي مشاهدة البرج، وكذلك حدائق غاية في حسن التنسيق.. شُيِّد هذا المعبد كقصر عام 1397م، ثم كمنتجع للأمبراطور يوشيمتسو، لكن ابنه حوله الى معبد حتى عام 1950 حين قام كاهن شاب قد انتابه مس من الجنون فأشعل فيه النار حتى آخره! ثم أعيد بناؤه ليصبح أحد أجمل معالم كيوتو وما أكثرها..
رجعنا مشياً على الأقدام وجلسنا على شاطىء نهر يشبه أبا نواس في الستينات حيث جلس الناس يشربون ويأكلون، وبقينا حوالي ساعة ونصف الساعة لنواصل رحلتنا الى حيث نسكن ..
معبد كينكاكو الذهبي في كيوتو
لا أود الإطالة فما يستحق أن يُرى كثير، من القصور والحمامات المعدنية الطبيعية الساخنة أونسن المنتشرة لا في كيوتو فحسب وإنما هي في عموم اليابان ولها تقاليدها؛ ولكن بودي أن أشير إلى أهم ما يزعج سكان هذه المدينة من تصرفات الأجانب، ولطالما اشتكوا منها ومن يسمع شكاتهم؟!!
مضايقة بنات الجيشا من قبل الزائرين وأخذ لهن الصور دون استئذانهن، أو دعوتهن متوهمين أنهن بنات هوى!
إعطاء البقشيش الذي هو مرفوض وفق التقاليد اليابانية رفضاً تاماً!
التكلم بصوت عال أو المزاح في الشوارع والساحات العامة .
تناول المسكرات بالساحات والشوارع ورأيت بنفسي شخصين أوربيين يدخلان المترو وبأيديهم علب البيرة ويتكلمون وينكتون وقالوا أنهم هنا من عشرين سنة يشتغلون وكلاء تجاريين، وذموا بلدهم وامتدحوا اليابان وكانوا يتكلمون اليابانية بطلاقة!
محاولات فتح باب التكسي عنوة، والتكسي يفتح ويغلق آلياً من قبل السائق!
عدم أرجاع الصحون الفارغة الى مكانها في المطاعم اليابانية ذاتية الخدمة سيلف سيرفس .
عدم الامتثال لاحترام المعابد حين تدخل النساء الأوربيات بملابس فاضحة وعدم خلع الأحذية .
(*)الجيشاGeisha بنات أعددن إعداداً خاصأ في ممارسة الرقص والموسيقى على المسرح مع دراية كبيرة بالتراث الفني الياباني، معظم رقصهن يكون للضيوف والحفلات الرسمية والمهرجانات، ولا يتعاطين بيع الهوى .
(**) وهو مسرح يجسد الاساطير الشعبية اليابانية يؤديه الذكور Kabuki .
(***) الكاروك نوع من المحلات يقدم موسيقى اليابان وقد يدعو الى أكثر من ذلك .
( ***** ) الكيمونو ملابس خارجية تمثل ملابس تراثية