في الطريق الى هيروشيما انتابني إحساس بأنني خلّفت الوجه الجميل لليابان ورائي وأنني مقبل الى مدينة كئيبة ذات وجه يغشاه العبوس أو الحزن، وزدت أكثر بأن الناس فيها أبعد ما يكونون عن المرح، وأن المدينة ماتزال تعاني من عقابيل التلوث الإشعاعي وغير ذلك من ألوان التلوث.. كلُّ تلك الهواجس تكوّنت واعتملت على خلفية التاريخ المأساوي القريب لهذه المدينة، لهذا فكّرنا أن ثلاثة أيام ستكون كافية؛ فهل صدق الإحساس؟ وهل صحّ التخمين ؟
نخرج من المحطة لنواجه مدينة هيروشيما الواسعة وما أكثر المدن التي تنتهي بلاحقة شيما أو جيما وتعني جزيرة، الساحة فضاء واسع نظمت فيه سيارات التكسي ومواقف الحافلات وعربات الترام . بدت المدينة منبسطة حديثة، والترام يسير بنا نحو مركز المدينة نقطع نهرين متوازيين ومتفرعين ليكونا جزيرتين جميلتين . هي مدينة الاخضرار والازدهار، الناس يبتسمون بل ويمرحون بضحك عال عندما لا يحصل التفاهم! الهواء عليل، البنايات متناسقة، الناطحات قليلة إلا في المركز، لا تواجهك في هذه المدينة معابد ولا بنايات أثرية عديدة فقد أتت القنبلة الذرية على كل شيء وما تبقى لابدّ من إزالته للتخلص من الإشعاعات ومخاطرها المدينة نهضت من الرماد! هي مدينة المتاحف، والمطاعم، والمشارب كثيرة جداً ولا غرو فالمدينة اشتهرت بمأكولاتها اللذيذة ومشروباتها السائغة، وهي مدينة أرخص من غيرها.. كلما تتوغل فيها تحسبها بغداد وقد لبست حلّة قشيبة .!
جميع المدن الكبرى التي زرناها منبسطة في بلد يكون ثلثاه من المرتفعات والجبال، وهنا في الجنوب الغربي يكون الشريط الساحلي ضيقاً جداً ويُسمى الجانب من سلسلة الجبال المواجه للبحر سانيو ( الجانب المشمس ) بينما الثاني يسمى سانين ( ظل الجبل ) والذي تقع علية مدن مقاطعة هونشو ومنها هيروشيما . لذا يكون تأجير الدرّاجات وركوبها متعة وفضول.
يقع بارك السلام وهو أهم مَعلم فيها على بعد خمسمائة متر من فندقنا.. فهو محصور بين فرعي النهر الغربي هون كاوا، حيث جزيرة نكاجيما ضمت البارك والمتحف والنُصُب التذكارية وبناية القبة، والمُلفت أنك لا تجد كلمة حرب بل حذفت لتحل محلها كلمة السلام !! الجزيرة قبل المأساة كانت قلب المدينة النابض بالحياة حيث المعابد والمعاهد والعمارات السكنية والملاعب الرياضية..
أهم مَعلم هو متحف هيروشيما التذكاري للسلام، على الزائر أن يكون متماسكاً لهول مايرى، سيرى عرضاً سينمائياً للمدينة قبل القصف الذري، عمال يذهبون الى المعامل وموظفون الى دوائرهم وطلبة الى معاهدهم وأطفال تدفعهم أمهاتهم بالعربات أو تأخذهم بالدراجات الى رياضهم.. حركة دائبة لوسائط النقل المختلفة في شوارع لمدينة تعد كنزاً لمبانيها التراثية ومعابدها ومعاهدها... ثم تتغير الصورة رأسا على عقب، خراب ودمار وقتلى مشوهون وملابس متهرئه وحيوانات نافقة ومصانع ومشافي ومعاهد مهدمة.. ووسائط نقل استحالت هياكل حديد.. ثم ترى شيئيات السينما مجسمة بعينات من مخلفات الحرب دراجة ثلاثية لطفل، ملابس خوذات العمال، ومخزن لبيع الكهربائيات انصهرت محتوياته، ومعمل للمصابيح تلاصقت مصابيحه وفقدت أشكالها، ولسان بشري قد اندلق من فم صاحبه.. وجدران لروضة أطفال.. ثم وصف علمي للقنبلة ومكان سقوطها على مرمى حجر من المتحف، وتحول مكانها الى حديقة مزدانة بالزهور! المتحف يوثق لكل ما حصل توثيقاً مدهشاً لدقته وواقعيته.. لم أر سجلاَ لكتابة الزائرين ولكنني تذكرت متحف جرائم الحرب العدوانية في مدينة هوشي منه ( سايغون ) الذي وثق كل جرائم الفرنسيين الذين هزموا في معركة ديان بيان فو من مقاصل قطع الرؤوس وغرف التعذيب ثم حل محلهم الأمريكانيون وجرائم القصف بالنابالم ووسائل تعذيبهم للثوار.. لقد قرأت في سجل الزوار كتابات الشباب الأمريكيين وأتذكر منها: ليتني لم أكن أمريكياً (ية)؛ أشعر بالخجل أن أكون أمريكياً (ية)؛ وليتني ما خلقت في الولايات المتحدة!
يبدو نصب السلام ذا شبه بنصب الجندي المجهول في بغداد الذي أزيل منها، شُيِّد عام 1952، ويطلق علية القبر الخاوي cenotaph حيث سجلت أسماء الضحايا، الذين يقدر عددهم 140000من غير المشوهين والمعاقين وفي كل صباح يُبدل إكليل الزهور، خلف النصب هناك الشعلة المتوهجة للسلام، احتوى البارك على نصب الضحايا من الأطفال؛ وهناك برج لضحايا الطلبة على شكل سلّم يرتفع الى الأعلى؛ ونصب للأمومة، ونصب الضحايا الكوريين للقنبلة الذرية، وقاعة للمحاضرات ودار استراحة .. وساحة للمهرجانات السنوية للسلام في كل يوم من السادس من آب أغسطس حيث تقرع الأجراس..
عندما تعبر النهر من الجهة الشرقية هناك بناية القبة للسلام وهي في الحقيقة قبة القنبلة الذرية؛ وهي أكثر معلم باق يشير الى حجم المأساة التي طالت المدينة بتدشين أول قنبلة ذرية سقطت بالقرب منها. صمم هذه البناية معمار تشيكي في عام 1915 لتكون مقر الترقية الصناعية، والبناية تحفة معمارية، صمد الهيكل الصخري وكل ما عداه دمِّر، وبقي هيكل لقبة البناية مسيّجة ويمنع الدخول إليها لمخاطر الاشعاع! لقد قتل كل الذين كانوا بها من الكادر الصناعي وعموم المشتغلين ولم يسلم أحد. لقد بقيت البناية تروي حكاية المأساة ما حدا باليونسكو أن تضمها لمحفوظات التراث العالمي منذ عام 1969.
نصب السلام ويظهر من داخله موقد الشعلة ثم هيكل القبة الشهيرة للبناية الوحيدة التي بقيت !
ما أود أن أقوله بأن بارك السلام هذا لم يكن الهدف منه هو كشف ويلات الحرب الذرية التي راح ضحيتها المدنيون فحسب إنما تكمن أهميته في الدعوة الجادة للتخلص من الحروب نضالاً ونشداناً للسلام العالمي في أن يعمَّ كوكبنا هذا، حيث لا تني الحروب تدمر الإنسان والحيوان وتهلك الزرع والضرع! ونحن في العراق الذين اكتوينا ومازلنا بالحروب أجد من الضروري إقامة النصب شواهدَ لجرائم الحروب ومن أجل أن نجعل السلام مادة يتطلع لها الأطفال لتكبر معهم حيث تكبر الأحلام لبناء عراق السلام.
لا أريد الاستغراق في المتاحف المعتبرة في هذه المدينة، مثل متحف مقاطعة هيروشيما للفنون، ومتحف مازدا والمكتبة العامة.. ولكن لا بد من الترفيه والمتعة في رحلة الى جزيرة مياجيما.
هي جزيرة حالمة بكل معنى الكلمة يمكن الوصول اليها بالترام لسبعين دقيقة، أو برحلة مائية في قارب، لعل فيها معالم عديدة أولها الغزلان التي تستقبلك بميانة فتسحب الخرائط أو المحافظ أو الملابس وفي كل الحالات هي وديعة تستطيع أن تلمسها وتداعبها؛ فأول إعلان يواجهك وأنت تطأ أرض الجزيرة هو ما يحذرك منها ومن فضولها! المعبد العائم هو معبد خشبي واسع جداً يجذبك بلونه الأحمر فهو عائم عند المد ثابت عند الجزر وتجد بوابته في وسط الخليج يمر تحتها الصيادون تيمنا بصيد وفير!
في المرتفعات معابد قديمة وأبراج تنزل منها لتدخل السوق الجميل المكتظ بالسائحين، وفي دروبها معامل للمصنوعات اليدوية وصناعة البسكويت الخاص بالمدينة يصنع أمامك لتأكله طرياً. وهناك باركات محمية في غابات المرتفعات تسكنها الحيوانات البرية ومنها القرود. تعد هذه الجزيرة أهم ثالث معلم يزار في اليابان! يمكن المبيت فيها لمشاهدة منظر الغروب.
المعبد العائم في جزيرة مياجيما شُيد من الخشب عام1680 وترجع جذوره الى القرن السادس!
قررنا أن نقضي نهاراً في مدينة أوساكا فهي تبعد ساعتين بالقطار الطلقة من هيروشيما، وفي الذهاب ركب مجموعة من الطلبة في العربة وكانت الصدفة أن جلس بجنبي أحد معلميهم وأعجبني انضباط الطلبة، هم من ثانوية نيوزيلندية تبادلنا أطراف الحديث مع معلمهم اللطيف وعرًفني ببلاده وباليابان التي تردد عليها عدة مرات بسفرات مدرسية، وكان محبا لليابان يلم بلغتها بعض الإلمام، كان الحديث معه ممتعاً فهو مدرس ملء الفم، ولم ندرِ كيف انقضت الساعتان، ودَّعنا بعضنا متمنين سفرة طيبة .!
هذه أوُوسَكا هكذا تلفظ باليابانية هي ثالث أكبر مدينة بعد طوكيو ويوكوهاما، وهي مركز اقتصادي كبير، فهي مدينة القنوات والجسور، وهي مدينة المسارح لا سيّما مسرح الدمى، وهي مدينة المعاهد وإذا ذُكرت فتذكر جامعة كانساي تأسست 1886، وجامعة أوساكا العريقة التي تأسست عام 1931. وزد على ذلك فهي مدينة المتاحف مثل متحف أوساكا التاريخي والمعارض الفنية وبناية أوميدا ناطحة السماء، وفيها أقدم المعابد المحفوظة في اليابان وهو معبد شيتنوجي البوذي الذي تأسس عام 593م، وفيها الكثير الكثير.
ولكن لابأس أن نسأل في المركز السياحي لعلنا نتحصَّل على خرائط ومعلومات تُغني عن الكتاب الثقيل، وهذا ما حصل فعلا وكم ضحكت الموظفة حين قلت لها نريد أن نقضي عدة ساعات فما هو أهم مايُرى؟! قالت عدة ساعات في أوساكا؟!! فأشارت لنا ببارك أوساكا ومنه الى قلعتها ثم الأكواريوم ثم .. ثم.. فهي محقة عندما ضحكت متعجبة فما مثل أوساكا ما يُرى في ساعات!
ركبنا القطار المحلي ولم نجد صعوبة في الاستدلال على البارك والقلعة، حيث نصبت خارطة كبيرة توضح معالم الطرق للمعالم؛ فهو من الحدائق الهامة فيه نُصب فنية وقاعة مسرح وقاعة نشاط رياضي ثم تمشينا بمحاذاة البحيرة فلاحت لنا القلعة العالية وبرجها الشهير. الصعود يتم بمصعد وهناك من يصعدها على قدميه، هي مثال للقلعة المحصنة بخندق مائي وجدار صخري عال الدخول إليها عبر جسر تاريخيّ تتألف من خمسة طوابق كل طابق يروي عن شيئياته وتصميمه بالتصوير الناطق وما يمكن أن يرى من كل جانب، والأفلام التاريخية التي صورت فيه والمعارك التي دارت في القلعة .. أجمل ما في القلعة هي الإطلالات الأربعة على المدينة العملاقة وعماراتها الشاهقة.. فيها أسواق لبيع التذكارات، وبعض المطاعم، ثم رجعنا لنتجول في مركز المدينة وشوارعها وأسواقها وقد أوشك النهار أن ينقضي حين عُدنا الى هيروشيما .!
في الفندق الذي كنا نتناول فيه الفَطور، جلست شابتان فسألتني إحداهما أين ستذهبون بعد هيروشيما فقلت لها مداعباً الى " إيدو" فضحكن عندما قلت أتعرفانها فقلن بالتأكيد هي طوكيو. وذات مرة سألت غيرهن من المناوبات هل يقصً عليكم كبار السن ما حدث، فقلن نعم نحن نحفظ الحدث وتسلسله الزمني ونحن من المدينة لقد ذهب الكثير من أجدادنا وعوائلهم ضحايا للقنبلة الذرية وما زلنا ندفع الثمن .!
فارقنا مدينة هيروشيما مفارقة المحب، فقد طابت لنا مُقاماً، بل هي الأطيب في كل ما رأينا في بلاد اليابان ذات المرابع الجميلة.. ونفارق اليابان وقد أودعنا فيها زمناً فيه جمال وطيب وفيه عبرة لمن اعتبر ..
هذه آخر حلقة، بيد أنني أفكر أن أكتب مادة أخرى بمقالة واحدة عن اليابان خارج هذه الحلقات الخمس، ألتمس فيها عنواناً لعل فيه فائدة تُرتَجى: دروس من بلاد اليابان.