من حديثة الى الجبايش.. على طريق الفرات

2016-01-07
 في يوم من الأيام - لا أعرف تاريخه بالضبط ولكنني أرجح ان يكون في بداية العقد الثلاثيني من القرن الماضي - أتى رجل من اقاصي غرب العراق، من حديثة الرمادي، حديثة الفرات، وكأنه انحدر مع هذا النهر الخالد الى جنوب وطنه العراقي، وصل هذا الرجل الناصرية، ولم يتوقف الّا في قصبة الجبايش الواقعة على الطريق المائي بين الناصرية والبصرة متشاطئة في قسم منها مع بحيرة هور الحمّار وعائمة فوق البحيرة في القسم الآخر..          ..
لم يكن لديه أقرباء مباشرون هناك، ومامن معارف وأصدقاء تعرَّف اليهم في وقت سابق كانوا في انتظاره..أتى غريباً ليحل بين أهله!!
زيارته هذه كانت الأولى الى الجبايش، ولم يقفل بعدها راجعاً الى حديثته، هو الحديثي ألأب والجد ابن بساتين بروانة!!
نزل في الجبايش وقصد مضيف القبيلة الكبرى في الجبايش مضيف بني أسد متمثلين في فرعهم الرئيس ال الشيخ وأبناء ال الشيخ ومن ضمنهم عائلة آل خيّون زعماء بني اسد في الجبايش وفي عموم العراق!!!
عُقد المجلس ودارت فناجين القهوة العربية ألأصيلة وقُدمت السُفرة التي تكفي للعشرات بل للمئات مثلما أعرف وأعهد في مضائف الجنوب وفي مضائف بني أسد وفي مضائف آل ألشيخ، ومضيف آل خيون على الخصوص وهو تحفة معمارية نسجها أبرع مهندسي القصب على وجه البسيطة ليمارس أبناء بني أسد وأبناء العراق والجنوب فيها كرمهم ألأسطوري ألأنساني الأهوج!!!
كان القادم الغريب يُدعى حمزة..حمزة الحديثي، وكان سبب قدومه رغبته في العيش في الجبايش..وسبب ابتعاده عن مدينته حديثة كان خصاماً أوخلافاً مع بعض أهله أو أبناء مدينته أو غضباً منهم أو زعلاً عليهم..
قال له أبناء الجبايش : ابشرْ وأهلاً وسهلاً.. أنت الآن بين أهلك وأبناء عمومتك .. الجبايش مدينتك وبنو أسد أخوتك وأهل الجباش كلهم عائلتك!!!
كان من بين الحاضرين بعض أجدادي من آل الشيخ وأعمام مباشرين لأبي ومنهم قصّاب مدينة الجبايش مع ولده...
حمزة الذي كان يشتغل قصّاباً في مدينته حديثة سيشتغل لاحقاً مع أعمامي قصّابي الجبايش في نفس ( ألكَنارة ) وسيكون له بيت قريب من بيوتهم ولمّا كان من المستحيل ان يبقى عازباً تزوج من سيدة من بني أسد..واحدة من جداتنا الرائعات..
لم يفكر أحد في ثلاثينيات القرن المنصرم وقبل أكثر من ثمانين عاماً وما يقترب من قرن من الزمان بحمزة الحديثي السني وجدتي أم حسيبة الشيعية..
من أول أيام أقامته في الجبايش وجد حمزة الأهل  والبيت والعمل ثم الزواج...
أنجب ابنته البكر حسيبة التي ستكون زوجة لعمّي لازم الذي ورث مهنة القصابة عن أبيه..
من هذا الزواج أتى ابن عمي منذر أو عوفي مثلما يسميه أهل الجبايش..مارس عوفي وبجدارة كبيرة مهنة القصابة وهو ابن لازم الأسدي وحفيد حمزة الحديثي.. ولم يكن قصاباً في محله فقط بل كان متطوعاً دائماً في مناسبات المدينة من أعراس وأعياد ومآتم.. وأن كانت مناسبات العرس والفرح تليق به أكثر لأنه مرح وبشوش ولديه قابلية كبيرة على اضفاء روح الأبتهاج والأخاء والمودة حيثما يكون.. بيد انه كان حاضراً للعون في جميع مناسبات المدينة بقامته الفارعة التي تقترب من المترين  وبنيته القوية وشعره الأشقر وكرم روحه ووسامته والأبتسامة التي لم تفارق شفتيه الًا لماماً...
لحمزة الحديثي نسل في حديثة أيضاً حيث كان متزوجاً هناك من امرأة حديثية، ويبدو انه لابد من التقاء نسل حمزة في حديثة مع نسل حمزة في الجباش.. وهكذا شاءت المصادفة أو الأقدار !!
أما كيف حدث هذا بعد عشرات السنين؟!
في فترة الدراسة الأكاديمية التقى طالب ينحدر من الجبايش في سكن القسم الداخلي مع طالب من حديثة يدرس معه ويسكن في نفس القسم!
كان الطالب الحديثي حفيداً لحمزة من أبنة له بقيت في حديثة وتزوجت هناك..تبادل الطالبان الحديث حول مناطق السكن والأصول فعرف الطالب الحديثي ان زميله من بني أسد ومن الجبايش على وجه التحديد .. كلمة من هنا وكلمة من هناك ..سؤال من هذا وجواب من الآخر الى ان تعرف الحديثي الى آثار جده وعرف ان له أقرباء في الجباش : خالة وأبناء خالة ومنهم مُنذر أو عوفي شمعة المدينة وعمود وعميد أعراس الجبايش..
هرع الطالب الأسدي الى عمتي حسيبة ام عوفي بالنباْ الفرح قائلاً لها : تعرفتُ على أهل لكِ في حديثة، وقائلاً لعوفي، تعرفتُ على أقربائك وأولاد خالتك في حديثة.. فبدأت الزيارات والوفود العائلية بين الجبايش وحديثة..
ولما كان ابن عمي منذر أوعوفي أو أبو عدنان زوجاً لأختي ام عدنان فقد كان بيتنا أيضاً محط استقبال أهل وأقرباء من حديثة مثلما كان بيت عمي لازم الأسدي زوج عمتي حسيبة وابو عوفي وديوانيته الكبيرة الممتدة من بيتهم حتى لتكاد تقطع الشارع الوسطاني محط استقبالهم أيضاً..
الملفت للانتباه ان علاقة القربى هذه المنقطعة بحكم الظروف منذ عقود قد تطورت بسرعة عجيبة حتى عوضت في بضعة شهور في الحنان والمودة مافات في عقود!!
وقد روى لي أخي عوفي بعد أول زياراته الى أخواله وأبناء خالته في حديثة ان مجلساً انعقد هناك عند أحد الأقرباء لأستقباله وضم المجلس حشداً من أبناء بروانة وحديثة وكان من بين الحاضرين شيخ ضرير صديق لحمزة الحديثي في فترة وجوده في حديثة، ولما أتى عوفي الى الديوان ضمن جمع من أقاربه الحديثيين ونهض الحضور لمصافحة القادمين توقف الشيخ الضرير عند مصافحة ألأخ عوفي وصاح : هذه يد حمزة وكف حمزة اميزها من بين جميع الأيادي والكفوف!!
فقال  له الموجودون : صدقت هذه يد عوف حفيد حمزة..
وقد تميزت يدا وكفا عوفي بالفعل بالكبر والضخامة ويبدو ان حمزة كان يمتلك نفس المواصفات الجسدية وقد ورثها أبو العوف من ضمن ماورث..
لم تنقطع زيارة عمتي حسيبة وأبنائها لحديثة وما انقطعت زياراتهم من حديثة عنّا حتى بعد ان غادرتُ العراق. كانوا يزورون بيت عمي لازم حيث يسكن الأبن عوفي وزوجته أم عدنان مع عمتي ام عوفي في بيت ألأهل الكبير. كانت عمتي واختي تتنافسان في الطيبة والنبل الأنساني والكرم ولا استطيع ان أقول من منهما كانت أنبل من الثانية، وقلما رأيتُ مثل هذا الأحترام والأنسجام بين أم وزوجة ابنها مثلما عرفتُ بين أم عوفي وأم عدنان..
بقي عوفي ضمن بيت امه وابيه الكبير الى ان توسعت عائلته فأبتنى له دارة في موقع قريب من بيت امه وابيه مباشرة على ضفة نهر الغميجة في الجبايش.
لم اتمكن للأسف الكبير من رؤية هذه الدار لوجودي في الخارج في المانيا الّا انني حينما كنت في زيارة لبعض أصدقاء العائلة المقيمين في السويد دعاني ورافقني صديق منهم في نزهة في أحد أحياء ميناء هلسنبورغ الراقية حيث القصور المنيفة في اطلالة ساحرة على الساحل، حيث بادرني الصديق بالسؤال:
كريم..هل ترى هذه البيوت الجميلة، أن بيت أختك أم عدنان وأبن عمك أبوعدنان أجمل وأفخم من كل هذه البيوت !
قلتُ له :معقول؟!
فأردف:
لقد كان قلعة على الماء بحيث اننا نتوه في أروقته ونحن ننقل الطعام من المطبخ الى غرفة الضيوف!
كنتُ أعرف كم تفخر عمتي حسيبة بأبنها منذر أو عوفي مثلما تحب هي ان تسميه مثلما تفخر بأبيها حمزة الحديثي!!
تفخر بأهل الجبايش مثلما تفخر بأهل حديثة!!

والآن وبعد ان رويت هذه القصة القصيرة ومن الممكن ان تكون قصة طويلة أو رواية أبطالها حمزة الحديثي ومنذر ألأسدي فأني لا اضيف شيئاً جديداً الى حقيقة ان : العراق بيت العراقيين جميعاً سنة وشيعة وان الطائفتين المسلمتين ابناء دين واحد ووطن واحد وماء واحد وتاريخ واحد، وتزواجهما وقرابتهما وتوحد دمهم امور موغلة في القدم  بقدم تواجدهما على أرض العراق الخصبة الطيبة المعطاء.. ولهم بالفعل عوائل كبيرة تشترك في النسب منها شمّر وعُبيد وجبور وزبيد وتميم وحتى أبناء بني أسد لهم اخوة في البلدان العربية الأخرى على المذاهب السنية بالأضافة الى حالات تزاوج عديدة بينهم وبين سنة العراق..
أردت فقط ان أقول ان هذا ألآخاء امتد ليصل حتى الى الجبايش القصية في أعماق بحيرات العراق!!!

ولا يقتصر أمر الأخوة هذا على شيعة وسنة العراق بل يمتد ليشمل أتباع وأبناء كل الأديان والمذاهب والأعراق في بلد الفراتين: المسلمين، المسيحيين، الصابئة، الأيزيدين والأمر سواء ان كانوا من العرب أو الكرد أو التركمان أو الكلدان أو ألآشوريين  أو السريان أو ألأرمن أو الشبك، ,اتمنى بالفعل ان لا اكون قد نسيت مكوناً من مكونات هذا الشعب الطيب الكريم الجبّار ألمبدع ألعريق صاحب ألأفضال الكبيرة على الأنسانية كلها ورائد التاريخ البشري برمته، الذي يسدي الخير للآخرين ويبدع ويمنح فينقلب ألأعتراف بالأحسان عند الآخرين الى حسد وحقد وجحود وخبث وشر وتخريب وخسة ونذالة..

آه، ما اتعس الجهات والدول والأحزاب والمنظمات التي أساءت وتسيء وستسيء الى العراق وما اجدر بالعراقيين قطع دابر الفتنة والشر بضم أفئدتهم البعض الى البعض  قلباً على قلب مثلما يقول الكلام العراقي ...
متوحدين أود أن اراهم في بلد الرافدين وخارجه واينما كانوا وفي كل زمان يجمع بينهم روح أبو الحسنين علي بن ابي طالب وكيان الحسين الفذ من مراقدهما ومساجدهما وحضرات موسى الكاظم وابو حنيفة والكيلاني من اضرحتهم وحب وتسامح ورسالة سيدنا المسيح من كنائسه واديرته في العراق والتي تُعد من الأقدم والأجمل على صعيد التاريخ المسيحي والأنساني كله..
هذا سفر التاريخ الأنساني كله سفر أسلافنا وأجدادنا الكبار العظام الأجلاء لا ولن نستغني عن أي شيء منه وكلنا وما نملك للدفاع عنه ضد الباطل الذي استفحل والشر الذي خرج من زرائبه وكهوفه وكواليسه الى العلن شامتاً ومتشفياً ومستهتراً، مشوَهاً ومشوِهاً .. ونحن العراقيين من يرد غيه ويعالجه مثما كان أجدادنا وأسلافنا السومريون والبابليون وأبناءبغداد العصر العباسي يشخصون الأمراض ويعالجون المرضى من كافة أنحا العالم..
أجلوا خلافاتكم ابناء وطني لأنها خلافات طفيفة وماهو طفيف لايجوز ان يفتك بالجليل والعظيم وتوحدوا على ماهو مشترك فهو هائل وكبير وجلل..
توحدوا على حب بلد الرافدين العريق : حب العراق النبيل ..العراق قلب العالم  وضمير العالم في مامضى والآن بعد الآن .. العراق ضمير الأبد!!


كريم الأسدي
برلين في 12.03.2015

كريم الاسدي

كاتب وشاعر عراقي يعيش في برلين

karim.asadi777@yahoo.com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved