سألني سائل: كيف تكون المفارقة المدهشة التي تبعث على التأمل خارج الهايكو؟ وفي الحقيقة إن تراثنا الشعري لايعدم جواباً، وسأعطي أمثلة علّها تكون مُدخَلا، من دون الاستغراق في شرحها.
عرف الشعر الإنكليزي في القرن السابع عشر شاعراً ذا شخصية مدهشة متناقضة انطبعت في شعره، هو John Donne فهو قس كاثوليكي تحول الى الانجليانية وهو شاعر المتناقضات، ميتافيزيقي وعلماني يكتب أشعارأ دينية ودنيوية إيروتيكية وهو في جميع الأحوال ساخر وجاد وفيلسوف تعنينا منه قولته: أيها الموتُ إنك لمائتٌ قطعاً! Death, thou shalt die!.
ويقول الشاعر ابن الرومي وهو على فراش الموت والسُّم يسري في جسمه ليقربه من أجله:
الناس يلْحون الطبيبَ وإنما – غلطُ الطبيب إصابةُ الأقدارِ
والمتنبي:
فما حاولتُ في أرض مُقاما- ولا أزمعت في أرض زوالا
على قلقٍ كأن الريح تحتي- أوجِهها جنوباً أو شمالا
ويقول شاعر آخر:
إلى الماء يسعى من يغص بلقمةٍ- إلى أين يسعى من يغص بماءِ
يقول الياباني شيكي: وبلٌ في الصيف/ المطر يهطل/ على رؤوس أسماك الشبوط. وفي تراثنا : البليلُ لا يخشى وابلاً، أو (المبلل ما يخاف من مي المطر).
ولو استغرقت لملً القارىء ولخرجت عن فحوى الموضوع؛ ولكنني راغب في أن أرويَ حكاية من طه حسين ألخصها جداً: كان الطلاب في الجامعة المصرية قد سئِموا من أَستاذ الفرنسية المخلص الشديد، فأضربوا عليه، والأستاذ الفرنسي في كل يوم يحضر الى القاعة الفارغة حتى ينتهي الوقت فيخرج..فسئِم الطلاب وعرَفوا أن لا أستاذ غيره، فدخل القاعة ووجدها تغصّ بالطلاب فقال لهم قوْلةً ثم استأنف درسَه: " أراد رجلٌ أن يغيظَ امرأته فقطع ذكَره!" ولكم أن تتصورا وضع الطلاب الذين أطرقوا خجلين واجمين! فلنجعل هذه القولة هايكو:
رجل يغيظ أمرأته/ فيقطع.../ذَكَره!
ولو استحضرنا أشعار النساء التهكمية "المكشوفة" في العراق وباللغة الدارجة وتأملناها لوجدنا فيها ما يُثير الدهشة ويبعث على التأمل والسخرية والتمرد بعفوية صادقة، وبلغة عليها غشاوة خفيفة أو بلا غشاوة! يذهب الشاعر عبد الإله الياسري والشاعر لطفي شفيق سعيد كلٌ على رسله أن مفارقات الهايكو ومعانيه لها في الدارمي حضور وأنا متفق معهما ويزيد الثاني أن الحسجة ( الجيم معجمة بالثلاث ) هي تحمل تلميحات هايكويه، ويزيد
الأول: "ان شعر الهايكو يذكرني بشعر النتفة ذي البيتين". وقد كتب لي أستاذ مهتم بالهايكو، المغربي/الفرنسي مصطفى الرياحي أن للهايكو حضور في الشعر الشعبي الاندلسي وفي الغناء المغربي ودعم دعواه بمرسول من الغناء الشعري، وغيرهم من الشعراء كتب وجهات نظر متقاربة ومهمة..
***
لا نعرف متى بدأ الشعراء العراقيون في كتابة الهايكو، ولكنني أرى أن هناك إشارات من الهايكو لدى بعض شعرائنا من دون أن يسموه ضمن قصائدهم التي تأتي دائما في نهاية القصيدة كصدمة مثل: موفق محمد وعواد ناصر وكَزار حنتوش ووئام ملا سلمان، وجمال مصطفى ..وكذلك لدى سعدي يوسف في عدة قصائد..
ووفقاً للشاعر جمال مصطفى فإن هناك كتاباً مترجماً الى العربية عن الهايكو الياباني صدر عن وزارة الثقافة العراقية ترجمة عدنان بغجاتي، ولعله يقصد به: أزهار الكرز: أشعار يابانية، صدر في بغداد في السبعينات، وأذكر أن المترجم السوري نفسَه قد ترجم: رؤية شرقية: أشعار يابانية، في مجلة المعرفة السورية عدد يوليو/تموز 1973.
ولعل الشاعر محمد الأسعد يكون أول من ساهم و روّج لمثل هذا الشعر، ومارسه بعض الشعراء في الثمانينات مثل الشاعرين الهامين حسين عبد اللطيف وسعد جاسم..وحيث أن المبدع الراحل حسين عبد اللطيف يمثل حالة متفردة، فقد بدأ في الستينات مع شعر التفعيلة صوتا متميزا له ثقافة متنوعة من قديم الشعر وحديثه، واطلاع واسع على الأدب العالمي المترجم مثلما استفاد من ثقافته في الفن التشكيلي وقد تجلى هذا في ديوانه الأول " على الطرقات أرقب المارة" الصادر في بغداد عام 1977 حتى ظهر له عام 1995 "نار القطرب" وفي هذه المجموعة تتعمق لديه تجربة الحداثة وتتسع رؤيته للأدب العالمي وفي هذا الديوان يبدو اطلاعه على الهايكو من خلال مفرداته وصوره، حتى أن "القطرب" الذي هو الضوء المتوهج في الحشرات كالذبابة المضيئة أو النارية fire fly باللون الأخضر الناري متداول جداً في الهايكو العالمي ومثاله للياباني اون تسونيوكس :
جوفي/ مترع بذباب ناري/ وأحياناً لاشيء غير النار.
أما في ديوانه " متوالية هايكو" صدر 2012 والذي جعل له عنواناً آخر "بين آونة وأخرى يلقي علينا البرق بلقالق ميتة" تدل على معرفة جيدة بالهايكو، لا أود الإطاله فمن يُرد الاستزاد فليذهب الى ( موقع بصراياثا ) حيث ملف واف شارك فيه لفيف من الشعراء والنقاد، عن الراحل الشاعر حسين عبد اللطيف ولنا أن نتوقف لماماً مع بعض مقطعياته:
كل ليلة على مدى الخريف/ أحضر الحفل الموسيقي/ الذي تقيمه الجعلان/ هلاّ سمحت لي بإطفاء السراج .
هذا الهايكو ينم عن نظرة ثاقبة حين يفضل العزلة والهدوء على صخب الجعلان حتى ليَوَد ألا يراها! يصفه زملاؤه بالشاعر الصامت، وأنا أقول: إن بعضاً من السكوت كلامُ .
كل شيء مفعم بالضياء، شجرة الكرز، الثلج/أغنية طائر الليل و../ وعاء الحليب.
يبدو في هذه المقطعية ياباني المفردات والصور مشرقا متوهجاً عكس الأول حين تتلوث الطبيعة الخريفية بصخب الجعلان يكون الظلام منقذاً!
وله أيضاً هذه المنوعات:
كم هي رقيقة أزهار الكرز هذه/ حتى أنها تسقط متناثرة من/ قرع الأجراس.
أمام الخريف تقف الأشجار موديلاً عاريا.
في المقطعيتين نلمس لغةً رقيقة وتصويراً جميلاً يحمل لغة الهايكو لكنه ينأى عنه، ثم:
في باطن الأرض/ ينقبون عن الياقوت/ وهو يتوهج في عذق النخلة.
وفي هذه المقطعية يلامس الشاعر البصري الهايكو ملامسة خفيفة بمفارقة بين الياقوت الذي يتهافت الناس عليه؛ بينما ياقوت البصرة (حبات التمر) لا يعبأ بها الناس!
أورد هاتين المقطعيتين المتشابهتين، لا حظ التجنيس البلاغي:
مالك الحزين/ يطير فرحاً/ بكتلته الثلجية.
ندبة سوداء/ غرابٌ يحطّ هناك/ في الثلج.
الملاحظة التي أود أن أقولها أن الشاعر لم يجرب القصيدة العمودية قط فهو مشبع بروح الحداثة؛ بعد أيام تمر ذكرى وفاته الأولى أتمنى أن يحظى بتكريم من وزارة الثقافة بما يتناسب وقامته الشعرية السامقة.
***
وجمال مصطفى حالة نادرة يسجل حضوراً في القصيدة العمودية تحديداً ينم منذ بواكير قصائده عن قدرة ملفتة وموهبة واعدة، صقلها اطلاعٌ واسع على ديوان العرب قديمه وحديثه، ومتابعة جيدة للنشاط الأدبي مذ كان في البصرة شاباً مرهفا يتابع نشطاء الأدب والفن ويحضر ملتقياتهم مستفيداً من تجاربهم، والبصرة تَمورُ بالشعراء والقصاصين والفنانين، لهم منتدياتهم ومقاهيهم...
والدنمارك الصغيرة ( وصلها 1985 ) شكّلت للشاب البصري-ذي السابعة والعشرين عاماً- نافذة لا للاطلاع على الأدب الدنماركي بل وعلى الأدب العالمي، حتى تعمقت تجربته الشعرية والإنسانية والثقافية، كل هذا انعكس في عطائه الشعري ( راجع: موحيات ترمي يواقيتها؛ لكاتب هذه السطور). تتسم القصيدة عند شاعرنا بأنها حالة وجدانية مركبة ومنفلتة تقود صاحبها الى مسالك غير مألوفة فيها إيماءات فلسفية وصوفية وتأريخية موغلة في القِدَم السومري ولمحات وجدانية صافية وغنائية عذبه؛ قصائده تسبح على أديم لغة ثرة وعبارة شعرية متينة ومصقولة، في تضاريسها الهايكوية الذي جاءه عفو خاطر فلنبحث ونتلمس في ما كتب فهل سنكتشف ما قلناه في هايكو جمال؟
مركب الهايكو ضيق، على ربانه أن يحمله بما يتناسب وحجمه ومن ثم يبحر الى جزر صغيرة لم تطأها قدم بحار غيره في معظم الأحوال فهاكم من "شقائق الهايكو" العامرة رياضه بمائتي مقطعية كتبت بين 2010-2011:
زُغْبُ الحواصل/ في بساتين الطفولة/ دشاديش ملطخة بالرُّمّان.
هذا هايكو عربي الطعم فيه من الحطيئة الذي استعطف الخليفة الثاني حين ألقاه " في قعر مظلمة" لا لأجله وإنما لأطفاله الذين وصفهم بكناية بلاغية آسرة "زغب الحواصل" وقد عمل جمال مفارقة رائعة فبدلاً من " لا ماء ولا شجر" عند الحطيئة أصبحت الصورة إنسانية، محض عراقية بتعبير "دشاديش" وليس جلابيب التي تعطي معنى "الكِبَر" وزادها بأنها ملطخة بالرمان! ولا ننسى الالتفاتة في التوقيع الزمني فالرمان خريفي..
نباتي/ يكتفي بالماء.../والمارجوانا
في اسكندنافيا يطلق على ثلة المتسكعين المنغمسين في سكرهم ب A-laget أما ثلة الحشاشة فيطلق عليهم B- laget وكلتا الثلتين لايكاد أفرادها يأكلون شيئا لأن مالديهم يرصدونه لما يلبي حاجتهم في الإدمان ما يحمل البعض أن يعطف عليهم أحياناً بما يسد رمقهم..أظن، انجلت الصورة الإنسانية لهذا الإنسان الذي أصبح نباتيا مكرها لا بطلاً! لقد رسم الشاعر ببراعة وبأقل الكلمات هذه الصورة من المشاهد اليومية التي نمر عليها من دون أن نلتفت لها!
أمام القس/ في باحة الكنيسة، فحل حمام/ على أنثاه
والمفارقة جميلة وتبعث على التأمل في مفارقة الدين والحب، ولتعميق المفارقة تمنيت ياصديقي لو أن الانثى اعتلت الذكر!! ولنأخذ نظيراً له:
الديك في أعلى الكنيسة/ تصفعه الرياح على الخد الأيمن/ فيدير لها الخد الأيسر.
هذه مقطعية محض أوربية، ففي أعلى البنايات يوضع الديك من صفيحة معدن، ليحدد سرعة الرياح واتجاهها.. فهو مطيع لها، ممتثل لنصيحة السيد المسيح: من صفعك على خدك الايمن أدر له خدك الأيسر. وهناك نظير لمشهد زوج الحمام العاشق:
أواخر الخريف/ غرابان على الثيّل/ المنقار في المنقار.
الحب هنا يحمل مفارقة وهو أن موسمه الربيع!
أول الشتاء/ تفاحٌ على الغصون/ دودٌ في التفاح.
وهو مشهد أوربي مألوف حين يترك الناسُ في حدائقهم أشجار التفاح يتساقط منها التفاح حتى تتعفن في الارض وعلى الشجرة، وهناك أطفال "يسرقون" التفاح يسمى هذا الطقس في اسكندنافيا وهذا ما يغضب أصحاب البيوت اللؤماء! Palla äpple
الصبيرة الضخمة/ هدية الأحياء الى الموتى/ سرقت البارحة من المقبرة.
تمنيت لو زالت "البارحة" لتكون مدركاً يحدث في كل زمان؛ الأحياء يهدون الموتى والأحياء يسرقون حتى الموتى!
شجرة العائلة/الأحفاد فقط/ بالأخضر.
رائع يا جمال، الأحفاد عود أخضر غض الإهاب، الآباء يبس عودُهم يقول الشاعر:
إذا ما المرءُ شاب له قذالٌ – وعالجه المواشط بالخضاب
فقد ذهبت نضارته وأودى – فقم ياصاح نبكي على الشباب
أختار للشاعر جمال متنوعات لكي تتوسع دائرة الضوء على الهايكو لديه:
ذات عطر/ هذه الوردة الاصطناعية/ ولا تذبل.
ي ع ق و ب / أخ(على الحدود بين العراق وإيران1982)ي.
الصخرتان/ أرتال من النمل/ عبور الوادي,
يبدأ المطر/ تحت الأشجار المتشابكة/ حين ينقطع المطر.
البطريق واقف/ الجزيرة تتحرك:/ ذوبان الجليد.
سهمٌ في قلب/ على جذع شجرة / في شاحنة أخشاب.
أظن أن الحب استحال منضدة أو كرسياً، جدُّ رائع!
أختتم بهاتين المقطعيتين ذاتي الطعم الياباني وقد مرّ عليّ ما يشبههما في النصوص الانكليزية:
الهلال الذي/ يتلامع في غابة الخيزران/ مجرد منجل.
رقصة البرغش/ كي تعبرها طأطىء رأسك/ واغلق فمك.
لقد استمتعت حقاً برحلتي مع الشاعرين المبدعين حسين عبد اللطيف و جمال مصطفى؛ في الحلقة القادمة ستكون مع شاعرين عراقيين أو أكثر.
خالد جواد شبيل