كانت ترجمة عزرا باوند (1885-1972) ابن الثامنة والعشرين عاماً للهايكو، من اللغة اليابانية إلى اللغة الإنكليزية، ثم ممارسته لهذا اللون الجديد من الشعر؛ قد فتح باباً جديداً في مملكة الشعر الأوربي؛ كان باوند شعلة من نشاط إذ اهتم بآداب الشعوب وجاب الى حيث مكامن الكنوز. فقد ارتوى من الساغا الآيسلندية مثلما ارتوى من الهايكو الياباني... والمهم والجدير بأن يُنَوّهَ به هو أن رائد الحداثة كان يستقي روافد ثقافته من منابعها الأصليه ثم ينفخ بها من روحه ليكسيها رداء الحداثة . وحيث أنه كان محاطاً بهالة من شعراء وكتّاب لامعين من عشير جيمس جويس وتي أس أليوت وأرنست همنغواي.. فقد كان لهم الناصح الأمين في جل أعمالهم؛ ألم يتوسط لأليوت لكي تنشر أرضه اليباب؟! إذن كان باوند سببا في انتشار أو نشر الهايكو ليمارسه أعلام الشعر الأوربي على اختلاف مِلَلِهم..( راجع الحلقة الثانية ) .
أسوق هذا لأنتقل الى مفارقة هامة أردتها مُدخلاً لحلقة اليوم؛ وهو أن شعراءنا المُبرَّزين لم يمارسوا هذا اللون، فتحاشوْه وربما تجاهلُوه، لماذا؟ لا أملك جواباً جاهزاً ولكنني أعتقد أنهم اكتفوا بما حققوا من حضور، فعلامَ الخوض في حقل قد لا يكون آمنا؟! وقد يكون أيضاً ترفعاً عن لون كبروا عليه فلا بأس من أن يترك للشعراء الصاعدين! أترك لغيري أن يدلوَ بدلوه؛ ونعود الى موضوعنا الرئيس.
***
الشاعر القاص حسن البصام يدحض المأثور العراقي: رمانتين بفرد ايد ما تنلزم!، هو أمسك بكف واحدة رمانتي الشعر والقصة بجدارة معاً، فلا بدّ من وقفة مع الأستاذ حسن المولود في الناصرية عام 1960، والناصرية هي منافسة البصرة في الشعر والقصة والفن وأحسب أنهما أختان والبصرة ولا شك هي الأخت الكبرى! حسن إذن ابن الجنوب خَبَره، ومن يخبُر الجنوب سيعرف بالضرورة طينته وما أعطت ثمراً جنياً في حكايات المضايف، ومجالس الغناء في الأعراس والأفراح وطقوس الحزن في عاشوراء وأشياء كثيرة تنطبع في ذاكرة أبنائه وتنعكس في شعرهم وقصصهم وغنائهم ورسومهم وفنونهم الشعبية ..
والأستاذ حسن البصام حقوقي فهو خرّيج كلية الحقوق، ولا أبالغ إن قلت أنك تلمس شريعة القانون في نتاجه القصصي، المترع والمتغَلغِل في ثنايا المجتمع وما فيه من ظلم وفي أعماق النفس الإنسانية ما فيها من السُّمو والدناءة والنُبل والضِعة.. ولقد قرأت له قصة "حكم شرعي" فأُعجِبت بها، في جُمَله القصيرة المكتنزة ذات الإيماءات الهادفة والتي ينحو فيها منحىً أخلاقياً عالياً فاضحاً النفاق، وممهداً للنهاية الصادمة كأحسن ما يكون التمهيد وحُسن الحركة داخل النص.. وليس موضوعنا هذا..
وأنا أقدِّم الأستاذ حسن البصّام الشاعرَ على القاص، ولا تقليل من شأن قصصه قطّ، وإنما أجد أن حسناً بدأ شاعراً وعُرف شاعراً ونُشر شعرُه في الصحف قبل القصص، وأزيدُ فهو طبع مجموعاته الشعرية قبل مجموعاته القصصية وسجّل حضوراً شعرياً مُلفِتاً قبل أن يشرع بالقصص؛ ودونكم المسلسل الزمني لمنجَزه: أساور الذهب ، شعر 2010 دمشق؛ وشم على جبين نخلة، شعر، 2013 دمشق؛ الختم بالثلج الأحمر، دمشق2014؛ فنجان قهوة مع زليخاي،شعر، 2015 ؛ البحث عن اللون، قصص، بيروت 2014.. ومازل له تحت الطبع قصص وشعر.
وشاعرنا كلِف بشعر الحداثة منذ الصغر حين أدار ظهره للعمودي بسبب المناهج التي تجبر على حفظ القصائد دون الاعتبار الى تنمية الذائقة الجمالية وحسن الإلقاء وافهام التلميذ مكامن الجمال المرتبط بالقيم الإنسانية..أحبَّ رواد القصيدة الحديثة وانشدّ على وجه الخصوص الى أدونيس ومحمد الماغوط وأنسي الحاج، ومن يتتبع شعره سيجد آثاراً لقصائد الحداثة البيروتية فيه . لذا سنجد تأثير هؤلاء وخاصة محمد الماغوط حاضراً في شعره:
حين يكتمل نزف الجند/ يظهر الساسة/ ليستثمروا الرحيق .
رأسك يصلح للمقابر/ يأبى الجلوس عليه/ وطني الجريح .
كلما تمخض/ ولد خيبة/ رحم الوطن .
الحس السياسي والإحساس بخيبة كبرى تسود في هذه المقطعيات الثلاث، فكلما جاء سياسي عوّل علية الشعب ولكن دون طائل، والمتاجرة بدماء الجند دائما ما تجيَّر لصالح الساسة وعندما يذبح مئات الجند في سبايكر والحويجة حينئذٍ كلٌّ ينفض يده! هي مفارقة واقعية وليست تأملية!
ولنتوقف مع ما لدى الشاعر من تلميح رومانسي مثالي:
أنكر الفجر مشيبه/ صابغا خصلات نوره/ بسواد عينيك.
يشمُّ خدّي خدّك/ ناكراً أنفه/ عطر باقي النساء.
إعزفي آخر همس/ كي أحلّق فراشةً/ أيتها القيثارة.
إسقي أوتاري الذابلة/ بماء لحنك/ أيتها الابتسامة.
تساقطي على فمي قُبلةً قبلةً/ كلما مدّت الريحُ يدها الى خصرك/ أيتها النخلة البرحيّة.
أود أن اشير أولا أن هذه المجموعة الهايكوية كانت تحت عنوان " دهشة الهايكو خارج حضن الطبيعة" وإنصافاً للحقيقة أجد أن الشاعر البصام قد بصم بصمات لمعطيات الطبيعة وبشكل هارموني مع الغزل ما أكسب هذا النضد سحراً في الوصف والمعنى، ففي الأول تجد الإيقاع الشعري حاضراً وخدم الصورة، وفي الثاني جسّد معاني الوفاء للجمال، ورغم أن الثالث نأى قليلاً عن الهايكو إلا أن شافعه حسن التصوير، فكثيرا ما يَطرب السامعُ ويحلّق مع الهمس الجميل أياً كان مصدره همس حبيبة أو غناء بلبل أو شدو مطرب أو قيثارة كتلك التي حلّق معها الشاعر، ونصل الى الأخير وهو الكلايمكس فهو أكثر من رائع ولكنني فضلت لو حذفت عمتنا النخلة والاكتفاء بالبرحي وفق القاعدة البلاغية: الجزء يشير الى الكل؛ ليكون التلميح والأختصار من صلب الهايكو.
حيرتُك في توالد الأرقام/ دونتك في قائمة الفقراء/ أيها الغني.
أريد أن أتوقف مع هذا التجسيد الذي سبقه فيه أبو الطيب المتنبي:
ومن يُنفقُ الساعاتِ في عدِّ ماله – مَخافةَ فَقرٍ فالذي فعلَ الفقرُ
نعم كم من فقير تحسبه غنياً من التّعفف، أما الذي يجع المال ليعدّ ماله مزهواً به من دون أن يُنفقه فهو فقير حتى ولو ملك ألوفاً مؤلفة.
وللأستاذ البصام زهدياته التي تسم قصصه كما شعره بالدعوة للأخلاق، ولاننسى أن تولستوي وحتى تشيخوف من كبار الأخلاقيين في الأدب العالمي فلنقرأ:
ملابسك ناصعة البياض/ لن تمد يديك الى جيوبك/ خشية أن تتسخ
وله بالمعنى نفسه:
أيها البياض تجنب السواد/ إن لامسته أو لامسك/ اتسخت.
وهذه أخلاق علي بن ابي طالب إمام المتقين وأبي الفقراء الذي طالما وصف المال بأنه وسَخ الدنيا، ويبقى البياض ناصعاً رمزاً للنقاء والصفاء. هناك مقطعيات لا أجدها تمت للهايكو بصلة، أذكرها فقط للإفادة من مثل:
أكثر ما يحتاجه الغنيُّ/ ذُلَّك/ أيها الفقير.
كن حذِراً/ فإن عدوَّك/ قد جنّد نفسك.
رقيقة مثلك/ وكبيرة مثلُ الحلُم/ أيتها الورود.
أختم جولتي مع الأستاذ الشاعر البصام بآخر ما جاد به خاطره الشعري، بمتتاليات تعبر تعبيراً صادقاً عن عالمه الداخلي حيث تلمس اللوعة والعاطفة الجامحة وتكثيف الصورة بأقل الكلمات المعبرة والمكتنزة بالمعنى حيث لا تجد فيها حرفاً زائدأ:
يسيح على مسامات اللذة/ حين تسخنه/ صولات أحصنة الرغبة.
ترتق عطشي وتفك أزرار ليلي/ تغسل وحشة آخر الرحلة/ غيمتك النزقة.
سأخلع سقفاً يحميني منك/ لتلبس خصلات القلب جوعاً/ واشتعل الجذر ضياء.
أفارق الاستاذ المبدع الشاعر القاص حسن البصام، وقد أمتعنا بما جادت به قريحته الشعرية آملا أن ألتقيه بوقفة متأنية مع قصصه.
***
نحن أمام كفّ كبيرة سِعتها رمانتان وزيدَ عليهما بتفاحة وحبّات عنب! الفنان القاص الشاعر سالم الياس مَدالو، وقد ولد في القوش، التابعة للموصل والمبتعدة عنها بأربعين كيلومتراً وإنني لراغب في أن أقول شيئاً في هذه القصبة الغافية على هضبة تحت أقدام جبل يطوقها بساط سندسي من مزارع القمح والكروم؛ ولو قُدِّرأن يكون لمددننا كما في الغرب شعاراتٌ لكان لألقوش سنبلة قمح وعُنقودُ عنب متعانقان! هي حافظة التراث المسيحي الآرامي، ولكن مهلاً! فلأهلها نصيب وافر من الثقافة العربية والإسلامية، فلا غرابة أن تجود المدينة بفيض من المثقفين شعراء وفنانين وسياسيين، والمدينة ذات صبغة يسارية ولأجل هذه الصبغة الحمراء عانت المدينة من جور الحُكّام الطغاة المتعاقبين على الحكم فكان لها كوكبة من شهداء الفكر..وإن كان لي أن أذكر مثقفيها والأمر صعب فسأنوّه بالمفكر المناضل نجيب سطيفانا وسفره الكبير " صراعات الكنيسة وسقوط القسطنطينة" عن دار التكوين 2011 دمشق.
وعودة إلى سالم مدالو المولود في 1945، هو خرّيج علوم بغداد قسم الكيمياء عام 1970، من أسرة ثقافية، اهتم بالرسم منذ الصغر وأحب المسرح وجرّب كتابة المسرحيات، وكتب القصة والقصة القصرة والشعر.
ولي رغبة في الوقوف مع لوحاته، حيث تمعنت بإحدى عشر منها؛ تشكل له أسلوبا يعتمد على تقنية حركة الألوان ودرجة حرارتها بهارمونية عالية ويتحاشى الكونتراست المباشر، تنساب الألوان مع بعضها؛ هادئة خالية من الخطوط بل تتشكل "خطوطها" من تماس الألوان بتقنية ليست سهله مكونة تشكيلات موحية، يكتشفها الرائي بعد طول أنات ثم يمارس ضربات وإن شئت لمسات فنية غير اعتباطية تزيد اللوحة مخملية وخاصة في اللمسات الخاتِمة للوحات، قد تبدو ضربات الفرشاة اعتباطية لأول وهلة ولكنها مدروسة تومىء ولا تفصح والعنوانات التي اختارها للوحاته تمنيت لو أخفيت أو ألحقت بدليل منفصل، ليدرك الرائي الفطن تشكيل الحمامة والوردة والإنسان المغترب المتأمل المتكرر الذي يذكرني بحنظلة ناجي العلي!
أحسَبُ أنني استطردت قليلاً وهو أمرٌ لا غضاضة فيه ولا مناص منه، لأننا سنرى هذا الأسلوب حاضراً في هايكو الأستاذ مدالو، بل وسأزيد كَمالة في قصصه القصيرة جداً جداً لتداخلها مع الهايكو: micro-short story
رميت قطعة خبز يابس/ لسنجاب جريح/ هزّ ذيله قبالتي/ أكلها وابتسم.
وفي الحقية من الصعب متابعة الهايكو الذي كتبه شاعرنا الفنان، لأنه بدأ بوابل عميم منذ 29/6-2013 وبشكل يومي تقريباً حتى أصبح سيلاً جارفاً، وأنا لست مع هذه الكثرة في أي لون إبداعي حتى وإن تمكن صاحبه من أداته، ولنا أن نذكر شاعر الحكمة زهير بن أبي سلمى الذي كان يتمهل بعام لكل قصيدة حتى سُميت قصائده بالحوْليات..إن التأني سيسمح بالمراجعة والتركيز والصقل وسيُشوّق المتلقي ويشده لشاعره وسيتيح للشاعر نفسه وللناقد برصد سيرورة التطور الشعري لدى الشاعر ولا أريد أن أذكر ذلك التعبير الذي يستخدمه البعض والمسمى ب " الإسهال الأدبي"..أول ما كتب شاعرنا ثلاث قصائد هايكو:
يمامة/ يمامة حطّت/ على برج قلبي/ ونارٌ أضرمت.
شقيقة نعمان ابتسمت/ قرب نبع قلبي/ وريح هبّت.
غيمة/ غيمة معطاء ركضت في/ قبة السماء/ ونوارس فرّت.
ونرى وضوح المعنى وحسن المفاجأة والنزوع الرومانسي الذي يجعل الشخص يسترجع بعض الوجوه في حياته، ابتسامات وكلمات رقيقة من مخلوق رقيق! فاليمامة الكائن الوديع الاليف رمز السلام التي لاتملك وسيلة للذود عن نفسها سوى الجّناحين قادرة أن تضرم النار! ولا يختلف المشهد كثيراً عن شقيقة النعمان التي لامست قلبه ريحٌ هبّت رخاءً، ولا يختلف الأمر كثيراً مع الغيمة وفرار النوارس!
المطر/..../ الحمامات/ والكراكي/ في الربيع ستشي بالريح/ وبمياه المطر.
في هذا الهايكو يستحضر الشاعر أجواء ألقوش وخاصة إذا عرفنا أن طيور الكراكي هي طيور جبلية، هذه المقطعيّة وصفية جميلة، وسنلاحظ أن للطبيعة حضور قوي زاخر بطيورها وحيوانها وسمائها، وزهورها... ويعمد الشاعر الفنان الى رسم صور بالكلمات:
أزهارٌ أشجارٌ وسنابل/ لهيب نار/ أيتها الساقية.
نجمٌ حزين/ يعانق/ قمراً فقد هالته.
قرص الشمس الذهبي/ يعانق هالة القمر الفضية/ فوق سجادة من عقيق.
هنا يعمد الشاعر ومن خبرته كرسّام الى تشكيل لونيّ آسر يبعث على تأمل الصورة والمعنى، ففي الأول احتاج الشاعر الى ساقية بلون بارد ليخفف من حرارة الألوان، في الثاني رسم لوحة حزينة وجانس بين حزن النجم وفقدان القمر هالته، ويصل في الثالث الى غاية الجمال وهو يشكّل لحظات الغروب الذهبية وطلوع القمر بهالته الفضية فوق سماء أديمها أحمر كأنه الياقوت!
وللشاعر تقارب في الصور:
حديقة مفتوحة/ غزالة نائمة/ ذئب خلف التل يعوي.
صحراء قاحلة/ غزالة نائمة/ وذئب.
وأود أن أختار أكثر من هذا العالم الذي يسحرنا به الأستاذ مدالو والذي تنثال فيه الصور انثيالا، ولا غرابة فهو فنان يزواج بين الكلمات وصورها:
طلقات طلقات/ وسماءٌ مضطربة / وأقمار قتيلة.
يهتفون/ الثلج الثلج/ الثلج يذيب أحزاننا.
العندليب يغرّد/ فوق التلال/ والتل ظلٌ لقبعات النهار
عتبة قصاب/ قطة/ وعينا كلب بلون الدم.
قلوب وقباب ساطعة/ قمرٌ زاهٍ في قبة السماء/ رائحة الأبنوس.
في صغري أحرقت/ عش الدبابير/ وركضت صائحاً/ النجدة
في هذا النضد استخدم شاعرنا التكرار البلاغي الذي يهدف منه إلى تأكيد الصورة والاستفادة من جرس المفردة، وليس محقاً من أخذ عليه ذالك فالروّاد اليابانيون استخدموه بكثرة. وفي البقية نجد الوضوح والمفارقة في المعنى، وانفرد في الرابع بالاستفادة من وقع القافات وهي من الحروف المقلقلة، وقد خفف من وهج الصورة باللون المعتم للأبنوس، وأما الأخير فكان عاديّاً على خلاف الإبداع في سابقيه.
وأريد أن أنهيَ وقفتي مع الأستاذ المبدع سالم الياس مدالو في هذا النضد الذي حاول فيه أن يؤسس لهايكو عراقي، ولكنني أجده اعتمد السرد الحكائي الذي لا ينسجم مع الهايكو الذي يعتمد على الاختصار الى الحد الاقصى فلنرَ:
قباب ومرايا/ مهمشة وبواشق/ وبومات/ مبتسمات...وحقول ومروج/ عارية إلا/ من أشواكها/ وطيورها/ تبكي ذبول ازهار...وينابيع وانهار/ وسواقي حزينة/ تمنح صخب/ أمواجها/ لأزاهير/ أحلامها وطيورها.
أشكر الشاعر الأستاذ سالم الياس مدالو، فقد أتاح لي متعة وفائدة.