نحن أمام هايكو عراقي بدأت تظهر ملامحه وتنكشف هويته، وإن جاءنا من الغير، فقد أضفت لغتنا وواقعنا المعاش وبيئتنا على هذا النوع الشعري رداءً؛ حتى بدأ يلوح سؤال: ما هو مستقبل الهايكو في العراق وغير العراق من بلاد العرب؟ والجواب يكمن في الهايكو نفسه؛ فهو دفقات على شكل مقطعيات ثلاثية أو رباعية على الأعم أو ثنائية أحيانا تشكل متتاليات حتى وإن كانت مستقلة عن بعضها ما مكًن لها أن تشكل بديلاً للمطولات العصماء وتسمح لممارسها الحركة في المضمون وباساليب شتى تفرضها طبيعة اللغة العربية، من تهكم وتأمل وتأويل وما يجلب من دهشة أو صدمة.. ولا نود الإعادة في خصائص الهايكو، فمن الأجدى أن نواصل ما بدأناه في معاينة الهايكو لدى من مارسه من الشعراء العراقيين.
***
الأستاذ زاحم جهاد مطر حالة تبعث على الدهشة والفرادة من نواحٍ عديدة؛ حين تبحث عنه لا تجد عن شخصه شيئاً يُذكر، فهو لا يبوح عن ذاته رغم عطائه ومنجزه الذي باغتنا كسيل جارف وبمدىً زمنيًّ قصير! فمن هو المقالى "المقاماتي" ثم الشاعر زاحم جهاد مطر وما هو إنعكاس تجربته في ما كتب؟
مولود في عام 1949، وهو بغدادي، كرخيٌ، عسكري حائز على بكالوريوس في العلوم العسكرية.. ولا داعي للتعجب فالعسكريون رغم حياتهم المنضبطة الخشنة أحيانا وربما بسبب ذلك أبدع رعيل منهم في الأدب والفن منذ البحار العسكري رمسكي كورساكوف ومحمود سامي البارودي وحافظ إبراهيم وووو والنهر مازال جارياً الى اليوم!
هو خبير في أخطر مجال وهو مجال الألغام وهومؤسس ومدير المنظمة العراقية لإزالة الألغام والمقذوفات غير المفلقة، تاسست في أيلول 2003 وشارك في مؤتمرات بهذا الحقل في عمان وبيروت ونيويورك وواشنطن محاضراً ومشاركاً فعّالاً له مؤلفات هامة مثل "التعبئة العسكرية" في ثلاثة أجزاء. عاش ملاحقاً من قبل النظام السابق، ومهمّشاً من قبل النظام اللاحق! مارس الكتابة منذ عام 2010 حين نشر "كلكامش آخر" حاول أن يُعيد كتابة الأسطورة من خلال "كلكامشيات" و "بكاء الرقيم"؛ لكنه نجح في إحياء المقامة الأدبية وبرع في كتابتها، وطُبع له كتابان " مقامات معاصرة" و "مقامات" .
ثم مارس الهايكو، ولا بد أنه دخله مسلحاً بثقافة وخبرة واسعتين شملت ميادين متفاوتة ومتباعدة، من العلوم العسكرية واطلاع واسع على عالم الأساطير التي تُغني ملكة الخيال، وعلى مقامات الهمذاني والحريري حيث اللغة المعجمية وروح الفكاهة وأسلوب الحكاية، والتأثر بالأسلوب القرآني لاسيّما التسجيع، ما أعطى شاعرنا مدداً في المفردات وأساليب التهكم والسخرية من مفارقات الحياة ومفاجآتها ولكنه وظّفها لأسلوب مقامي هادف عالج فيه عذاب الإنسان واغترابه، ولن أبالغ إذا ما قلت أنه برع في الحكايات على ألسن الحيوان مستوحياً أسلوب ابن المقفع في "كليلة ودمنة"..
إذن لم يمضِ على الأستاذ مطر وهو يمارس الكتابة الأدبية سوى عشر سنوات وعلى ممارسة فن الهايكو سوى شهر وكان في جميع الأحوال بارزاً موهوباً؛ على أنني أجده أبدع في المقامة التي لا تخلو من شاعرية، ولست باخساً كتاباته الأخرى قطّ..
هكذا مرةً واحدة يطلّ علينا ولأول مرة بنضد من الهايكو اثنتين وخمسين مقطعيّةً. تحت عنوان "كشاكيل الهايكو" فلنأخذ عينات وافية:
طار/ العقال/ قطار الشرق مرً سريعا.
في الهور/ مشحوف/ فوق هلال.
الضيفُ هو صاحب المنزل/ صاحب المنزل هو الضيف/كوخ القصب.
قطعان الجواميس/أرتال النساء/لون واحد.
في المعتقل/ لاوجود للكراسي/ فقط خوازيق .
هذه المقطعيات لصيقة جداً بواقعنا ووسطنا العراقي وسخّرها الشاعر ببراعة لتخدم النص الشعري ودلالته، فالعقال الذي هو رمز الشرف العراقي قد فقد معناه بسرعة مع التغيرات التي عصفت بالعراق، وغدا التكالب على المال والكرسي هو الشغل الشاغل ما أفسد القيم العراقية . في المقطعية الثانية والثالثة والرابعة هي استكناه تشبيهي مستوحى من طبيعة الجنوب العراقي، وقيمه التي مازال ابن الجنوب محافظاً عليها، أما في الأخير فهو سياسي عراقي محض، أعادنا الى قصر النهاية ووسائل التعذيب الوحشية! قد أسيء فهم الرابع بأنه امتهان للمرأة، نعم هو امتهان للمرأة من قبل سطوة التقاليد العشائرية التي أرجعت المرأة الى الوراء وما صفقات النساء الفصليات إلا دليل على ذلك!
يدٌ مقطوعة/ ترسم غصن الزيتون/ بلون أحمر.
النائم على الرصيف/ جرفته/ مجارف الزبالين.
الرؤس/ التي تراها/ ذيول .
الشيطان علّمه السرقة/ نسي وكتب/ هذا من فضل ربي.
حفيد/ يأكل الحلوى/ جَدٌ يتحسر.
ما زلنا في العراق والشاعر زاحم مجاهد مطر ينقلنا نقلات ذكية الى أجواء الحرب التي مازالت شاخصة، فضحية الحرب مقطوع اليد ينشد السلام للجميع وينسى نفسه! والمشرد لاقيمة له، قيمته والأزبال سواء، والرؤوس الفارغة التي أتت بها المقادير الضالّة هي ذيول لمن أكبر منها، والسارقون يتجارون بالدين ويبررون السرقة وينفقون منها على الطقوس الدينية.. والحفيد الذي يأكل الحلوى ويثير شهية جده الذي لا يأكلها لأنه يؤثر بها الحفيد أو لأنها تضر بصحته؛ وهذا على الضدِّ من ذلك القول المأثور: الآباء يأكلون العنب والأبناء يضرسون!!
فلئن كانت هذه المنوعات الكشكولية عراقية تؤسس لهايكو عراقي، فعلينا الانتقال إلى آخر ما كتبه الشاعر، وهو " من وحي ملكة الليل"؛ وقد صوّر أحاسيسَ شاعرية وتداعيات تأملية لا تخلو من لغة رومانسية شفيفة تحكي قصة تلك النبتة المزهرة بزهور تعددت أسماؤها "ساهرة الليل" الشبوي" "ملكة الليل"... والدلالات واضحة واللغة منسابة سأختار عيّنات منها:
مساءٌ معطرٌ ونجوم فضييّةٌ/ يالهفي/ صوت انفجار.
هذه اللية لا عطر يضاهيكِ/ إلا/ عطر سيدتي.
قالت: إذا أردت عدم نسياني/ ازرعني/ قلت: في قلبي.
لاتسأل أحداً / فقط تلمس ناحية العطر/اتجاه منزلي
اللغة هامسة الموحيات حاضرة الصور الحسية تنثال ، وهذه المتتاليات تتميز بوحدة موضوع محورية واحدة على خلاف الكشاكيل، لكن في كلتا الحالتين لا نجد صدمة قوية بل مترفقة بلغة غنية ومنسابة انسيابا يشدُّ القارىء.. لاحظت تكراراً للصور في أكثر من موضع وهو أمر لا شائبة فيه سببه التدفق وكثرته ففي حدود شهر واحد كان غيثا عميما من الهايكو حوالي مائة وثلاثين، إنها طاقة وموهبة كبيرة. دونكم بعض المتشابهات الجميلة:
تعطرين الليل/ وتفرشين الصباح/ سجادة بيضاء.
الليل سعيد بعطرك/ والنهار حزين / لسقوط أنجمك.
وكذلك هذه المقطعيتين المعبرتين عن رغبة داخلية جامحة!:
عطرك/ يجعلني/ أحلُم برغبة لا حدود لها .
عندما تتعطر بعطرك/ تحفزني/ بالارتماء في حضنها .
أفارق الأستاذ زاحم مجاهد مطر متمنيا أن تتاح لي الفرصة في الوقوف معه في ما نَثَر..
***
الأستاذ لطفي شفيق سعيد – وما أجمل الأسم !- هو الآخر ضابط بل هو من الضباط الأحرار وهو مناضل يساري عتيد وصلب حُكم بعد الانقلاب الدموي في 8 شباط عام 1963 حيث عكس تجربته في نقرة السلمان تحت عنوان "1000 يوم في سجن نقرة السلمان"، وهي من أهم الكتابات التي كتبت في أدب السجون في العراق، حيث صوّر حياة السجناء اليومية بدقة بالغة وكذلك رسم أهم الشخصيات التي عايشها ونسي نفسه بتفان ونكران ذات، كما صور الحياة الثقافية في داخل السجن وروح التعاون الجماعي بين السجناء..كل هذا بإسلوب شيق وجميل .
وكتب الاستاذ لطفي ذكرياته عن بغداد وعن حياته في الكلية العسكرية وكان وصفه لفيضان بغداد في الخمسينات وكفاح طلاب الكلية العسكرية من أجل إنقاذ المدينة من النهر الثائر تعد من أروع الذكريات، وخاصة خوضه في المياه حتى بعقوبة فهو من مدينة الخالص.. والأستاذ أبو نبيل رسّام مُجيد له لوحاته التي صوّر فيها الحياة البغدادية، وجمع بين مختلف الأساليب من الانطباعية والتجريدية الحديثة، ولا غرابة فالأستاذ على صلة قربى بالعائلة الفنية لآل سليم وأعني بهم جواد ونزار ونزيهة.
مارس شاعرنا الفنان قصيدة النثر، وتعرّف قبل عام على قصيدة الهايكو عند قراءته ماكتبته عن الشاعر جمال مصطفى وقد أعجبه هذا الفن فراح يمارسه بلباقة وحماس الشباب، والعم لطفي قد نيّف على الثمانين ولكنه شاب في روحه ونشاطه واهتمامه وثقافته التي تجمع بين القديم والحديث وكلتيهما مشفوعة بخبرة عملية وفنية وثقافة واسعة.. كما سنرى من هاي-كو عراقي:
رأسُ سهم ظلُّه/ فوق بحيرة راكدة-/ بطٌّ يهاجر توّاً.
صفوفٌ متراصة/ سعفات ترتجف!!/عمال مسطر.
إنها أجواء الإرهاب التي تعكر صفو الإنسان حتى في عزلته مع الطبيعة حين تمر نفاثة وترسم خيطاً من دخان وتهزم أسراب البط! عمال المسطر الكادحون يعرضون قوة عملهم بانتظار من يشتري، يرتجفون خوفاً من مفخخة طالما استهدفتهم.. رائع يا أستاذ لطفي، الكلمات مقتصدة لكنها مشحونة بحسن الإيماء وجمال التصوير.. وفي السياق نفسه يتحول لليومي العادي:
أكثر ما يعجبه فيها!/ صدرها وأفخاذها/ يتناولها بشهية.
أراد المزاوجة بين الدجاجة المشوية والإيماءة الخادعة عن جسد المرأة الذهبي!
أسرار مهمة/ يخفيها صاحبها:/ يستلمها الدّفان.
وهنا أتذكر حكاية علي آل صويّح عندما أوصى أن تُخرج يدُه من التابوت عارية ويمر موكب المشيعين القلائل على الشيخ حمد آل حمود فصاح عندها حمد: حتى وأنت ميّت تنصحني! وكذلك بشخصية الدّفان السكير في هاملت حين يصيح بالأغنياء: أطعموا ديدانكم!!
رفقاً بالحيوان / مطلوب أيضا:/ رفقاً بالإنسان.
المفارقة عادية جداً ولغة تخلو من الشاعرية، ليتك تحذفة يا أبا فراس على خلاف ما سبقه. ومن ناحية أخرى، سنجد كيف انعكست تجربة سجن نقرة السلمان في هذه المقتطعات:
سجين سياسي/غادر السجن/ ليعود مجدداً للحياة.
في غياهب الجبِّ/ 6 أمتار تحت الأرض/ قبو السلمان.
لامكان لشخص آخر/ 180 زفير وشخير/ قاووش 3 السلمان.
القمر منيرٌ/ في الداخل-/ فانوس في القاووش.
في هذا النضد لغة واضحة وتصوير دقيق لحياة السجن، وأعتبرها تجربة فريدة في شعر السجن تقترب من الهايكو..لكنني لست مع الأرقام بل أريدها بلغة مكتوبة بالأحرف حيث الأرقام لغة الإحصاء وليس لغة الشعر. أختار منوعات من الهايكو للأستاذ لطفي:
التي وهبتني قبلة/ أمام زوجها !!/ ابنتي.
بعيد ميلاده17 (السابع عشر-خ)/ يتقن ثلاثة (ثلاث-خ) لغات-/حفيدي.
ولننتقلِ الآن الى هذه المقتطعات الهادفات اللاتي تنم عن ثقافة الأستاذ لطفي شفيق سعيد والتزامه السياسي والإنساني:
عَشاء في الخيام/ رملٌ وهوام!!/ كم هو رخيص .
جسر الأئمة / جسر بزيبز/ جسر التنهدات.
رواية/ لمن تقرع الأجراس/ تقرع اليوم للإرهاب.
مشابهة لآلهة الجمال/ بندقية بيد وراية بيد-/ من أجل الحرية .
يتناول الشاعر محنة المهجرين في الأول والثاني، ويستحصر مشهد جسر الأئمة حيث إزهقت أرواح المئات من زائري الإمام الكاظم بحادثة معروفة، وتجمع النازحين من الأنبار عند جسر بزيبز إحدى البوابات المؤدية الى بغداد...وبين رواية لمن تقرع الأجراس لأرنست همنغواي التي عكست أجواء المتطوعين الأممين للدفاع عن الجمهورية الإسبانية الفتية وخاصة البطل الأمريكي روبرت جوردَن الذي ظلّ مترددا بين تفجير الجسر لمنع قوات فرانكو من الزحف وبين تعلقه بالشابة المقاتلة التي أحب.. ثم أدخل الفنان لطفي شفيق سعيد في المقتطعة الأخيرة اللوحة الشهيرة للفنان الفرنسي أوجين دو لاكروا "الحرية تقود الشعب" والتي تتوسط اللوحة الحسناء الفرنسية الثائرة في الثورة الفرنسية الثانية عام 1830 والتي أسقطت عرش شارل العاشر ولتنصّب لوي فيليب الذي سيسقط هو الآخر بعد ثمانية عشر عاماً والأيام دول!!
-للموضع بقية-