هكذا قررت في سّوْرة غضب أو استجابة للنفس اللوّامة أن أغلق حسابي في الفيسبوك على حين غرة، وهي ليست المرة الأولى بل هي الثانية أو الثالثة، وهذه الأخيرة هي الأطول إذ مضى عليّ فيها حوالي اثنتي عشرة سنة – ولا أقول عامأ – حيث كتبت سلاسل : زمان يازمان ! وفيسبوكيات، وكشكول، وريثما يختمر العجين وعلى باب الله وارتخاءة الشعر، وهي فرزات متنوعة بلغت عدة مئات كسبت بها أصدقاء أعزاء وصديقات عزيزات، وكلهم يعلق ويعقب ويمدح ويذهب بعيداً في الإطراء أو قد يضيف رأياً أو يكمل سانحة يراها ناقصة فيكملها، وأخوكم منسجم مستبشر ومن ذا الذي لايحب كثرة الأصدقاء وقد قالت أمهاتنا وصدقن : يُمّه ألف صديق ولا عدو واحد !
أما ما نشرته في الصحف والمواقع الرصينة فهو القليل الأقل !
***
كثيرة هي الأبيات الشعرية التي يختزنها الإنسان في ذاكرته سواء أبيات منفرد أو قصائد أو أجزاء من قصائد؛ بيد أنه من العسير أن تُستخرج الأبيات وفق مقتضى الحال بما يُعرف بحسن الإستشهاد ! فالتذكر هو عملية معاكسة للخزن ! وقد قيل : إن أردت أن تتذكر شيئاً فحاول أن تنساه ! ولعل من أكبر علماء العراق في هذا الموضوع هو الدكتور نوري جعفر (1914 – 1991) الذي لمع في دراساته عن فسلجة الدماغ وعملية الخزن والتذكر..
وقد يكون التذكر جزئياً، حين يحفظ بيتاّ أو شطر بيت ولا يعرف قائله، وحين يصيب التذكر مطلع قصيد دون بقية أبيات القصيدة ! والسبب أن الخزين لا يرجع اليه ولا يُنشط ولا يُضاف إليه فيبقى مركونا في الذاكرة . والشعر أسرع حفظاً وأسرع تذكراً من النثر، ولعل السبب يُعزى الى الجانب الموسيقي لبحور الشعر والقافية.. ويساعد فهم الشعر وجمال انسيابه وحسن تصويره ورِقّة لفظه على الحفظ بخلاف النثر.. ولأجل ذلك نُظِمتِ المطولات من الأراجيز (من بحر الرجز) النحوية في شعر رتيب هو النظم بعينه لخلوه من الخيال والعاطفة مثل ألفية ابن مالك، ومطولات في الفقه والطب ..الخ .
ويساعد على التذكر هو توافق المعنى مع حادثة جسدها بيت من الشعر أو شطر من شعر، فلطالما يحدث لشباب يتسامرون على مائدة شرب وأن يكون أحدهم قد أصابه ارتخاء في يده فتندلق الكأس من يده وينسكب منها شيء على الأرض، فيستشهد أحدهم بشطر من شعر :
وللأرض من كأس الكرام نصيبُ !
شاع هذا الشطر ولا يعرف أحد بيته التام ولا شاعره !
شرِبنا شراباً طيّبا عند طيّبٍ – كذاك شرابُ الطيبين يطيبُ
شربنا وأهرقنا على الأرض فَضلةً – وللأرض من كأس الكرام نصيبُ
وهو من مرويات الأصمعي، وجاء في المختارات الشعرية لأبي حامد الغزالي، كما ذكره أيضا المتصوف العارف عبد الغني النابلسي.. وردده السكارى الظرفاء في مجالسهم مع كثرة ما يرددون من نكات و أشعار لا يفسدها إلا أحاديث هامسة فجة ساخنة في السياسة ذات المسالك الخطرة في ظل أنظمة قمعية لاترحم !
وهناك شطر آخر لبيت شعر طالما يُستشهد به لسهولته وجزالة لفظه وسهولة وقعه على الأذن فيدخل الذاكرة ويحسن الإستشهاد به عندما يشجر بين الأشخاص تلاسن فيسيء أحدهم ويتجاوز الحدود فيرده أو يردعه الآخر:
"وكلُّ إناء بالذي فيه ينضَحُ"
وقد يبدو الأمر غريباً أن ينضح الإناء بما فيه من أواني زماننا هذا الخزفية الملساء! ولعل الأواني في زمن الشاعر كانت من الفخار، فإن نضحت برد الذي فيها كما هو حال "الشَّربة" في الفرات الأوسط أو "التُنكَة" في بغداد أو "الحِب" في العراق كله أيام زمان!
ودونكم الأبيات كاملة :
ملكنا فكان العفوُ منّا سجيّةً – فلمّا ملكتم سال في الدم أبطُحُ
وحلّلتمُ قتلَ الأسارى وطالما – غدونا عن الأسرى نعفُّ ونصفحُ
فحسبُكمُ هذا التفاوتُ بيننا – وكُلُّ إناءٍ بالذي فيه ينضحُ
وهذه الأبيات الثلاثة العميقةُ الجزِلة اللفظ والساميةُ المعاني السابرةُ الغور، والمتكاملة والمسبوكة سبكاً جيداً يعز عليها أن يقتطع منها بيت فكيف إذا كان شطراً، الناس يُسيئون للشعر والأكثر للموتى من الشعراء، والبيت من بحر الطويل استوعب المعنى الداعي الى التسامح، والبناء الرشيق المحكم، والقافية ذات روي الحاء الحنين !
أما الشاعر فهو فقيه شافعي ومُحدّث ذو مكانة مرموقة هو أبو الفوارس سعيد بن الصيفي التميمي المُلَّقب شهاب الدين ( 1098 – 1179م)، وكان مهيب المظهر يلبس ملابسَ عربية ويتقلد سيفاً ولا يتكلم إلّا بفصيح القول العربي، واشتهر بلقب كاد أن يمحوَ اسمه وهو "حَيْص بَيْص"، وسبب نبزه بهذا اللقب : حين دخل السوق فرأى الناس في فوضى وقد اختلط حابلهم بنابلهم فقال : مالي أرى الناس في حيص بيص ؟ فلحقه اللقب من الجُهّال لأنهم لا يعرفون أنه قول فصيح حيث قالت العرب : وقع الناس في حيص بيص أي وقعوا في شدة وتداخلوا وتخالطوا !!
وما أكثر ما يقع الناس وحُكّامهم في حيص بيص في زماننا هذا الذي زادته فوق مصائبه مصيبة كورونا !
الثاني من شهر رمضان 1442 هج، الرابع عشر من نيسان 2021م