الاهداء إلى عناقيد القلب: ليث، ولبنى، ولؤي..
أسبل أحمد شعره الطويل، ومسحه بقليل من زيت الشعر الهندي، ليعطي لونه الأسود بريقاً، وجهّز أجمل ثيابه استعداداً ليوم حافل بالأنشطة، واللقاءآت، سيبدأ الافتتاح لمعارض الفنانين، وصل إلى مركز الفنون باكراً ليتفقد مكان أعماله المشاركة.
بعدها توجه إلى فندق السلام الذي يقطنه ضيوف المهرجان الفني الكبير، جاءت الفرق الفنية من كل صوب ومكان لتقدم عروضها في هذا المهرجان السنوي .
الحركة غير طبيعية أمام بوابة الفندق، سيارات الشرطة في كل مكان، عمال النظافة لم يتركوا زاوية إلّا غسلوها، الشوارع نظيفة، سنادين الزهورالأنيقة صفت بطريقة جميلة فأعطت للمكان رونقاً وشعوراً بالفرح، عُلّقت أضواء الزينة في كل مكان بلونيها الأزرق والأحمر، بينما كانت مكبرات الصوت تبث الأغاني الحماسية، إنه عرس فني بامتياز .
الفندق مزدحم بالضيوف، استقبلته رائحة العطور الفاخرة عند مدخل الباب، وعلقت في ثيابه وأنفه، شق طريقه بين الجموع متوجهاً إلى الكافتيريا ليحتسي كوباً من الشاي، عساه يجد كريم صديقه الباريسي الذي وصل منذ يومين إلى الفندق، لم يمشِ إلا أمتاراً قليلة حتى أحس بطبطبة على ظهره، التفت إلى الخلف، وإذا به كريم .
أخذه بالأحضان مرحباً بعودته إلى أحضان الوطن بعد غياب طويل، تبادلا التحية، ثم
دعاه لشرب كوب من الشاي في كافتيريا الفندق ذات الأجواء الحميمية، رحب صديقه بالدعوة إلّا أنهما لم يجدا مكاناً للجلوس بسبب الازدحام، طلبا مساعدة النادل الذي
وجد لهما مكاناً إلى جوار سيدتين جميلتين .
حياهما كريم : هلوو ...وأكمل معهما باللغة الانجليزية وقال لهما : نرجو ألا نزعجكما
قال أحمد : يا إلهي كريم انظر كم جميلة هذه المرأة، جمالها ملائكي، سامحني والله لا أستطيع أن أرفع عينيَّ عنها، سأجعل عيني تطوف حول ما صنعه الله، وأتحدث معك...
وإذا بالسيدة الأخرى تنظر إلى أحمد وهي مبتسمة، وقالت باللغة العربية مع لكنة غريبة ومحببة : أنت لطيف..
- يا إلهي تتكلمين العربية، شيء رائع... كيف تعلمت العربية ؟
- من زوجي فهو عربي...
- أين هو؟ هل موجود معك دعينا نتعرف عليه ؟
- لا لا لم يأتِ، بقي مع الأولاد في أوكرانيا
وأكملت :
- هذه زميلتي أولكا مطربة أوبرا مشهورة، جاءت مع فرقتها، وأنا اسمي ناتالي مكلفة بالترجمة .
- وهل زوجها في أوكرانيا أيضاً مع الأولاد، أم معكم ؟
ضحكت وقالت : كلا كلا فهي غير مرتبطة بأحد ..
قال لها أحمد : إذن سأخبرك بسر ... أنا أيضاً غير مرتبط، ومنذ زمن بعيد وأنا أبحث عن امرأة أوكرانية جميلة مثلها .
ضحك الجميع إلّا أولكا لا تعرف ما الذي يحدث ...
ولكن زميلتها بادرت، وأخذت تحكي لها تفاصيل الحوار، وإذا بها تضحك، واحمر وجهها خجلاً ؟
كريم وبصوت هامس : أحمد أنت جاي تشوفني لو جاي تصطاد ؟
وضع أحمد يده على جبينه، وقال سامحني صديقي الحقيقة أنا جاي أشوفك.. وأرجو أن تتحمل المسؤولية، أنت من أجلسنا هنا، في الحقيقة كنت متفائلاً هذا الصباح، فالمعرض كان ناجحاً، وهناك من يريد اقتناء لوحاتي، إنها السعادة يا صديقي .
- جميل جداً مبروك، لازم تعزمني إذن .
- بكل فرح وتدلل، العزيمة قائمة باللوحات، أو بدون اللوحات .
- شكراً شكراً حبيبي أحمد أنت رائع دائماً .
وعبر أحمد عن رغبته بدعوة كريم هذا المساء الى نادي الفنانين، لكن كريم اعتذر لارتباطات عائلية، واقترح عليه دعوة السيدتين الأوكرانيتين بدلاً عنه، وهو يغمز له بعينه .
- هل تحب أن أتكلم باسمك، وأدعوهما ؟
- وماذا تنتظر تفضل لا تتردد...
وبدون تردد أيضاً رحبت ناتالي بالفكرة، وأخبرت أولكا التي رحبت بالفكرة هي الأخرى، ثم قالت ناتالي : - هل يمكن أن تخبرنا عن طبيعة المكان الذي دعوتنا إليه ؟
- إنه نادٍ خاص بالفنانين، فأنا فنان، و رسام، وعضو فيه .
- أنت فنان ؟ تعرف ؟! عفواً أنت لم تعرفنا باسمك ؟
- نعم صحيح، إسمي أحمد، وهذا كريم صديقي، وهو سينمائي ..
- تعرف يا أحمد لقد توقعت أنك فنان .. وأخبرت أولكا بذلك .
- أنت شاطرة يا ناتالي، أكيد زوجك فخور بشطارتك ؟
- لا أعرف عليك أن تسأله عن ذلك ..
- هاها ها ...سأسله عندما أزوركم في أوكرانيا، بالمناسبة : ما اسم زوجك ؟ وماهي طبيعة عمله ؟
- اسمه خالد، يشتغل مهندس نفط .
- أوو رائع...
- حسنا أحمد نحتاج إلى نصف ساعة تقريباً لنجهز، ونبلغ المسؤول على المجموعة بخروجنا .
- تفضلا انتظركما هنا . - بعد أقل من نصف ساعة عادت السيدتان، وخرجتا مع أحمد،
وإذا بشاب يتبعهم، وينادي : أستاذ.. أستاذ هل تحتاجون إلى تاكسي ؟ ..
- نعم .
- تفضلوا هذه سيارتي خصوصية ولكني أعمل بها تاكسي
- هذا جميل.. توكل على الله .
ركبوا جميعاً في السيارة، والتفت أحمد يتحدث مع ناتالي وأولكا، شارحاً لهما أسماء الأمكنة التي يمرون بها، هنا مسرح، وهنا دار سينما، وهنا حدائق عامة ووو...
والسائق يستمع حتى أوصلهم إلى المكان، عندها عرض على أحمد أن ينتظرهم ويعود بهم بعد انتهائهم من العشاء، وهو اقتراح لاقي استحسان أحمد فوافق على الفور .
ثم صار السائق مرافقهم الدائم، ينقلهم من مكان إلى آخر حتى يوم نهاية المهرجان .
في ذلك اليوم ذهب أحمد إلى قاعة الفنون لاستلام ثمن لوحاته التي اقتُنيت من صحفيين يابانيين مشاركين في المهرجان، وتعذر عليهم الدفع بالعملة المحلية، فأخذ ثمنها بالدولار بعد تردد كبير، فقد كان التعامل بالدولار جريمة قانونية تصل عقوبتها إلى قطع اليد .
وضع المبلغ في محفظته الجلدية إلى جانب كتيب صغير الحجم خطت فيه آية الكرسي، وأربعة صور فوتوغرافية صغيرة، ثلاث منها لأولاده الصغار، والرابعة لزوجته التي كانت قد توفيت منذ مدة .
ثم انطلق إلى الفندق ليودع الجميع، و يعود إلى البيت ليأخذ الاولاد بجولة تنتهي في المطعم كما اعتاد أن يفعل كل ما باع لوحة من لوحاته .
دخل إلى الفندق، وشعور غريب بالخوف والريبة يتملكه دون أن يعرف سبباً لذلك، وجد أصحابه في الكافتيريا، وجلس معهم، كريم والأوكرانيات، وأصدقاء آخرون يحيطون به، سأله كريم : ماذا بك ؟
- لا أعرف لا أعرف، أشعر بأني لست مرتاحاً .
وفتح حقيبته الجلدية، وأخرج ثلاث علب هدايا صغيرة، قدمها لكريم، ولناتالي ولأولكا.. مع لوحة صغيرة رسمها خصيصاً، قال لناتالي :
- هذه هدية خاصة لزوجك خالد .
فرحت ناتالي، وقدمت له هدية عبارة عن منديل صغير طرز باليد رسوم تقليدية اوكرانية .. وضعه في حقيبته .
وانتبه هنالك أربعة أشخاص يجلسون على الطاولة المجاورة، وجوههم قاسية ونظراتهم مريبة، مما زاد من شعور الخوف في داخله، واحساسه بالخطر الذي يقترب منه أكثر فأكثر، دون أن يستطيع تحديد مصدر ذلك الخطر .
حاول أن يهدئ من نفسه، نهض وقال لأصدقائه : - حسنا انتظركم عند الباب سأخرج لأشم الهواء قليلاً .
ومشى قليلاً، وقبل وصوله للباب اقترب منه رجل وجهه مخيف، بشوارب متدلية وقطع طريقه وطلب منه مرافقته إلى الطابق الأول من الفندق، حاول الاستعلام منه عن السبب .. فوضع الرجل المخيف سبابته على فمه، وقال له : - بدون أي كلام، اصعد وسنعلمك بالسبب .
استسلم لذلك التهديد، وصعد بصمت إلى الطابق الأول برفقة رجلين من أصحاب الأجسام القوية، والوجوه القاسية، الخالية من أي رحمة، أحس برجليه لا تستطيع أن تحمله، وتثاقلت خطواته، تصاعدت في رأسه الأحداث كما لو كانت فيلماً سريعاً، يتحرك في رأسه، وأسئلة كثيرة تدور في ذهنه كل شيء يتحرك كالوميض، تيقن أنه داخل أصعب الأقسام الأمنية خطورة من دخلها أصبح في خبر كان لا محال ...
أعطوه الأمر بالجلوس على أريكة في زاوية من الغرفة، وطلبوا منه أوراقه الثبوتية، وقال له المحقق صاحب الشوارب المتدلية : - تريد أن تعرف سبب استدعائك .. ؟؟؟
عندها دخل سائق التاكسي يحمل صوراً فوتوغرافية توثق كل تحركاته مع السيدتين، وضعها على الطاولة أمام المحقق
- أنت متهم بالتجسس على بلدك، أيها الكلب .
صعقه ذلك الخبر، قال في نفسه : يا إلهي ما ذا فعلت بنفسي؟! أي تجسس هذا ؟
وبسرعة مرت برأسه صورة أولاده الأيتام، الذين لم يكمل أكبرهم الثانية عشر من عمره، تخيل أنه لن يراهم، ولن يروه بعد اليوم .
وقال : يا إلهي ساعدني من أجلهم أرجوك، عائلتي ماذا سيحصل لهم إن سجنت ؟!
ما هو مصيري؟ والتجسس عقوبته الإعدام ؟ والتعامل بالدولار عقوبته قطع اليد، لن أخرج من هنا إلّا وأنا مقطع الأوصال .
فتحوا حقيبته فتشوها، كما فتشوا محفظته التي تحمل الدولارات لكنهم لم يرونها اختفت عن أنظارهم رغم تفتيشهم الدقيق، سألوه : - ماذا اعطوك الاوكرانيات من أجل أن تخون بلدك ؟
حاول أن يدافع عن نفسه بكل السبل، ولكن دون جدوى، حتى أن الشك داخله، هل هما فعلاً جاسوستان ؟ لكنهما لم تطلبا منه شيئاً يوحي بذلك، فقال للضباط :
- أرجوكم أسالوا عني.. أنا أحب بلدي، ومستحيل أن أخونه، أنا فنان كرمت ثلاث مرات من رئيس البلاد، اسألوا المسؤول الأمني عن الفنانين فهو يعرفني جيداً، أنا ذهبت مع الأوكرانيتين كوني اعتبرتهما ضيفتا الدولة التي قامت بدعوتهما، من غير المعقول أن تدعو الدولة جواسيس.. هذا غير منطقي . سيدي أنا حسبتها على طريقة كيف تخاف من ضيفك الذي تدعوه لدخول بيتك ؟
وصرخ به أحدهم : اخرس يا كلب تعلمنا بشغلنا ؟؟ قل لي من أين تعرفهن ؟
أخذ يرتعد من الخوف، وحاول أن يتكلم بصوته المرتجف، مع دقات قلبه السريعة ونفسه المقطوع :
- الحقيقة سيدي التقيتهما هنا في الفندق، وأكمل :
- واحدة منهما زوجها صديقي ..
- صديقك ؟؟ أخبرني ما اسمه ؟
- اسمه خالد، لكنني لا أعرف اسم عائلته ..
- طيب ليس مهماً، نحن نعرف اسم عائلته .. حسنا ماذا يعمل ؟
- مهندس نفط .
-أين يقيم ؟
- في أوكرانيا
- أنت تعرفه جيداً إذن .
- نعم سيدي، أخبرتك إنه صديقي .
- هل تعلم أن صديقك جاسوس؟ وخائن لبلده ؟ ومطلوب للدولة ؟
ثم أكمل : وأنت أيضا ًجاسوس، ومجند لخدمة مخابرات أجنبية... وليس أمامك طريق غير الاعتراف بكل شيء..... هل فهمت ؟ ليس أمامك إلّا الاعتراف...
ونادى المحقق على ضابط عبيد الذي رد وهو يؤدي التحية العسكرية :
- نعم سيدي
اربط عينيه، وخذوه إلى المفرزة، وهناك سيعرفون كيف يجعلونه يعترف .
وهنا تأكد أحمد أنه في ورطة كبيرة لا خلاص منها...