قررت مغادرة البلد الغريب الذي أمضيت به اثنتي عشرة سنة . لذلك صفيت ما لدي من أثاث، كالثلاجة، والمايكرو، والخلاطة، وبعض الأدوات الكهربائية الأخرى، حيث اعطيتها لبعض الأصدقاء، وكذلك الأفرشة، والكراسي، والمنضدة. وما تبقى من صغائر الأشياء أبلغت الحارس انها له.. فهجم عليها وراح يجمعها كغنايم، وبروح الحماس والسعادة الغامرة افرغت صومعتي، وسلمت مفتاحها وقضيت يومين في فندق جديد انيق.. ثم أوصلني اصدقائي التايلنديون بسيارتهم إلى المطار على الساعة العاشرة ليلا.. وركبت الطائرة القطرية على الواحدة وخمسين دقيقة .
كانت الرحلة مريحة من مطار سافورنابومي إلى مطار حمد . الإحتياطات الصحية صارمة، والمسافات البينية بين راكب واخر جد كافية، حيث كل صف من مقاعد ثلاثة أو ستة يشغلها راكب واحد . الرحلة استغربت أقل من سبع ساعات.. يبدو أن العراقيين يخضعون لمقابلة رجل أمن يتأكد من الجواز وحامله.. رجل أسمر طويل القامة فظ الأخلاق.. يمضغ الكلمات الإنكليزية مضغا وعليك أن تفهمه وإلّا فهو سريع الغضب..!
مكثنا ساعتين ثم استأنفنا الرحلة إلى ستوكهولم.. كان مشهد الخليج العربي ساحراً بلونه الأزرق وسواحله الرملية الذهبية، حيث تلوح خزانات وأبراج للنفط والغاز . نحن نقترب من الكويت هذي جزيرة فيلكة وهذه أراضي الكويت ثم العراق " هدم الله ما بنوا من حدود" ثم هور الحمّار في ذي قار ثم بادية السماوة والديوانية وعكركوف ثم أراضي الجزيرة.. ثم جبال طوروس مكللة تيجانها بالثلوج ثم نعبر البحر الأسود إلى اوكرانيا فتتوالى الأراضي الخضر المتشابهة للقارة العجوز ونعبر بحر البلطيق إلى ستوكهولم..
ليس بوسعي أن اصف مشاعري وانا امر على العراق تمنيت لو حط الطائر الميمون في كل بقعة لأرى الأهل والصحاب ومرابع الطفولة والشباب تمنيت وأنا في السادس والعشرين من نوفمبر أن احط في الناصرية للتظاهر مع أبطالها المنتفضين نثبت لهم إننا على العهد!! لقد خفق القلب محبة وشوقا وانا أنظر من النافذة فلا أرى غير مساحات شاسعة ساكنة من أرض السواد .. المضيفات العربيات غاية في التهذيب .. السفرة مريحة ومثيرة للشجون .
لم تتجاوز إجراءآت الإنتظار والدخول خمس دقائق.. فالمسافرون قليلون حقا..
استقللت سيارة تاكسي إلى المنزل.. السائق كهل سوري لطيف، أمضى أربعين سنة في ستوكهولم.. يهوى الشعر والأدب وهو معجب بالعراقيين يقول : انهم يشربون الماء مخلوطا بالشعر.. وإذا غنى العراقي يبكي السوري!! سألته كيف ؟ قال: الغناء العراقي مترع بصدق المشاعر الحزينة.. والشخص العراقي هو الأقرب للسوري رغم اختلاف اللهجة ! ثم استأنف: افرح حين يركب معي عراقي.. فالحديث معه ممتع .
تركت بانكوك وجوها الساحر، إلى ستوكهولم وجوها المكفهر الرطب، حيث وصلنا في الثانية عشرة والنصف ظهراً، الملفت أن الناس لا يضعون الكمامة على وجوههم.. فمبدأ حصانة القطيع هو السائد.. والناس مقتنعون أو متكيفون معه.. ما أن وصلت ألقيت بعصا الترحال، وازحت وعثاء السفر بحمام ساخن، ووجدت ما ينتظرني من طعام عراقي وعقار بلون الدم.. حتى رحت في غطيط عميق لما يزيد على اثنتي عشرة ساعة ففارق الوقت يقل ست ساعات عن بانكوك .
أن تلتقي الأصدقاء بعد طول غياب وأن تجلس معهم جلستين مليئة بالأحاديث الحميمة وبحسن المعشر والمقصف، مما طاب مأكولا وساغ مشروبا، أمر يبهج ويوثق العلاقة في ضيافة كل من الدكتور اسعد راشد، والدكتور محمد الحسوني، والأستاذ أحمد العزاوي، حيث يضوع عبق الشعر والفن ويختلط بعبق افاويه الطعام وابخرة السوائل السائغة.. ستتكرر الجلسات ولا شك.. فيها ينقشع الظلام وتتبدد مخاطر الجايحة وتحل البهجة والأمان..
12 ك1/ديسمبر2020