ورغم أن الشاعر عمد على نثر "يواقيتها" بحروف منفصلة مستوحيا التشكيل من معنى الرمي الاعتباطي، آثرت أن أكتب أحرفها متصلة لتسهيل القراءة، فليعذرني إذا ما رأى في ذلك تجاوزاً! فعنوان القصيدة الذي دشّنه الشعراء لا سيما شعراء المهجر في العقد الثاني من القرن الماضي هو في حقيقته بدعة حميدة (تَمحَق الضّلال!) تأثراً بشعراء الغرب وانتشر بسرعة، حتى غدا منافسا لمطلع القصيدة الذي كانت القصيدة منذ نشأة الشعر تُسمّى وتُفهرَس في دوواين الشعر به، وأصبح يُعتنى به (أي العنوان) عناية فائقة فهو عامل جذب وتشويق، ناهيك عن أهميته في تكثيف محتوى القصيدة، وهذا ما فعله شاعرُنا المبدعُ جمال مصطفى الذي جعل العنوان مركز ثقل القصيدة بحق...
قبل نحو من عقدين ونيّف كنت في زيارة الى الدنمارك، وقد وقع بين يديّ عدد من مجلة لم أسمع بها من قبل، وكان مظهر المجلة مدهشاً في شكله وفي محتواه، فقد بدا لي لأول وهلة أنه مصنوع باليد، وكانت حروفه مرقونة بآلة طباعة
يديوية، وحين شرعت في قراءة محتوياته دهشت أكثر لتنوعه وغناه حتى بدا فسيفساء جذابة الألوان اكتنزت شعراً وقصصاً ونقدا بل وحتى نقداً سينمائيا لكُتّاب جلُّهم غير معروف إلا ما ندر، وقد قضيت هزيعاً من الليل وطرفاً من النهار في قراءة نهمة ولم أستطع اقتناء "الصوت"(1) لشّحٍ في المطبوع منها! وكان من شعرائها جمال مصطفى الذي أُخِذتُ بقصيدته أخذاً.
ولا شك أن شعرية جمال منذ ذالك الزمن البعيد قد تعمقت واغتنت حياتيا وشعرياً كما أن وجوده في الدنمارك واطلاعَه على محمول هذه اللغة الادبي والثقافي(2) كان له مردود في صقل موهبة الشاعر.. وآية ذلك أن جمالا ذا الثلاثة والعشرين ربيعاً (مولود عام 1958) يوم خرج من البصرة مع البازي عليه سوادُ (3) مشياً على الأقدام الى إيران ومنها الى سوريا ليُلقيَ بعصا تَرحاله في الدنمارك عام 1985. ودليلي على عمق تجربته هو عطاؤه متمثلاً بإنجازه المجاميع الشعرية: أمطار بلا سبب 1988؛ أطلس البارحة 1991؛ الصندوق الأسود1998 وهي مطبوعة أما مجموعته؛ هودجها على التنين2002 مرقونة بالحروف الضوئية. ومازال يواصل مسيرته بهمة وابداع.
ليس موضوعي هو تطور السيرورة الشعرية للشاعر جمال مصطفى فهذا موضوع طويل جدير بأن يُدرَس لا أن يستعرَض، إنما أجد ضرورة التنويه بالأفق الواسع للشاعر من ناحية المنظور الشعري والممارسة الشعرية؛ ومراجعة سريعة لقصائد الشاعر تدل على اطلاعه الواسع على ديوان العرب قديمه وحديثة وزادَها حُسن ُدراية بالشعر العالمي، وألمسُ تأثراته بالشعر الفرنسي والأنكليزي والياباني، وعن هذا الأخير له محاولات مُعجِبة في شعر الهايكو Haiku poem ومن يُرِدِ الاستزادة فليراجع مطولته: شقائق الهايكو..وحسن اطلاعه على الشعر العربي جعله من المتفردين في الطَّرَديّات، وهي تلك القصائد التي قالها الشعراء العرب في وصف الصيد، وهي فن قديم تعود جذوره لامرىء القيس وازدهر في العصرين الأموي والعباسي(4،5) ولم يعد له وجود تقريبا إلا في الشعر الشعبي وخاصة لدى شعراء الخليج في وصف الصيد بالصقور.. وتشهد مطولته -الأرجوزة- المعنونة " طرَدية" على طول باعه وثراء ملكته الشعرية، كما أن الشاعر لم يقتصر على قالب شعري، فله على كل وتر ضربات، من التقليدية الى التفعيلة الى شعر الحداثة...
وعودة الى قصيدة "ترمي ي و ا ق ي ت ه ا"(البسيط):
ترمي يواقيتها في اليَّم كان ضحىً *** ليلاً وما أن صحَتْ حتى مضى شبَحا
قرصان غافيةِ في مركبٍ ذهبٍ *** ربان قافيةٍ يا طالما جَنَحا
عن هَدْي بوصلةٍ فُصحى الى جُزُر *** عذراءَ تنينها ما مرةً مزحا
الواقفون على الاسوار ما نزلوا *** وكيف ينزل من أصغى أو التمحا
كما تطِل أباريقٌ على قدَر *** سكرانَ تحسَبه من تحته قدحا
فاض المجازُ مُريداً شيخهُ عدَمٌ *** ضادِدْ هوى الشيخ واطفح لا كما شطحا
أتوقف عند هذا النضد معترفا أن قطعي لهذا النضد ذي الابيات الستة قطعا متعسفا نظرا لحسن السبك وتداخل الفكرة، ولكن طالما يبرر المرؤ أنْ: لا بد مما ليس منه بُدُّ! هذا المستهل الجذاب في صفاء اللغة والموسيقى والمعنى الذي تُفصح عنه الكلماتُ وتُضبِبُه العبارةُ الشعرية، وفي هذا التضبيب متعة الانشغال الوجداني التي تقود الى البيت الذي يليه فيتكشف أن القرصان يضادد الربان والربان ليس كأي ربان هو ربان قافية، هو الشاعر ومركبه الذهبي قصيدته! وأشهد أن القصيدة مخملية موشاة بخيوط ذهبية، إذن يحمل بوصلته ليبحر الى جزر عذراء لم تطأها قدمٌ غير قدم الربان! وهكذا يجد القاري أن في تضاريس القصيدة ما يسمى بالكلمات المفاتيح لا تقود الى دقة المعنى ولكنها تجذب المتمعن الى أجواء القصيدة ومقاربة الفكرة؛ وفي البيت الرابع الذي يبدأ بجملة خبرية مبتدؤها "الواقفون" هذه الصيغة شائعة جدا عند الجواهري؛ يصل البعد الصوتي الموسيقي ذروته في البيت الخامس حيث وقْعُ القافات الصائته - من الحروف المنفجرة المقلقلة- مع الحاءات الهامسة منَح البيتَ جمالا آسراً نتيجة الكونتراست الصوتي،،، على أنني كنت أفضّل لو ابتدأ الشاعرُ مطلعَه بالماضي ليُصبح: رَمتْ يواقيتها في اليم كل ضحى؛ وذلك أن الماضي هنا أكثر تساوقا مع حركة الزمن الماضي في البيت وما يليه ويجعل البيت أكثر هارمونية من الناحية الصوتية، وكذالك الحال في عجز البيت السادس: ضادد هوى الشيخ واطفح لا كما طفحا أو واشطح لا كما شطحا؛ حيث يكون التوافق اللفظي أكثر موسقة ولا يُخِلُّ بالمعنى بل يعمق الجانب البلاغي في كنايته؛ وهذه مجرد اقتراحات لا تتطاول على روعة الأداء.. عندما قرأت هذه الابيات وتوغلت في القصيدة حضرتني أجواءُ رائعةِ القاضي الشهرزوري (الخفيف):
لمَعت نارُهم وقد عَسعَس اللي *** لُ وملّ الحادي وحارَ الدّليلُ
وأنا أجد الغموض الماتع في قصيدة الاستاذ الشاعر جمال مصطفى لا يخلو من مَسحة عرفانية أكثر منها صوفية(6)، رغم أن الشطح هو كلمة تطلق على المتصوفة من خارجهم يراد بها القَدْح مثلما لازمت كلمة هرطقة كل من اختلف مع الكنيسة الكاثوليكية الرسمية حتى ولو كان من أتباعها! لايسعني أن أتوقف مع كل أبيات القصيدة وكم يصعب أن يختار القاريءُ منها، فالحبكة الفنية والمعنوية متماسكة ومع ذلك سأجتهد في ما أختار.
همّت بقسطاسها الأعلى وهم بها *** ولا يزالان: ما كفّت ولا رجحا
شيءٌ يظل من اللاشيء فيه صدى *** يجري ودافعه يبدو كمن كبحا
ياحانة الشظف الأنكى واكؤسُها *** عطشى وعنقودها للآن ما ذُبِحا
إن لم يكن فلتكن في البدء فارزة ٌ*** بيضاءُ من زبَدٍ سرعان ما اكتلحا
ثم اضمحل كظلٍّ أو كلفظِ فمٍ *** ما إن تبدد حتى عاد فاتضحا
عرشٌ على الماء قال السّومريُّ هنا *** لا بيت كالفُلكِ إن النهر قد طفحا
جاء الأجاجيُّ(7) من مِلح المحال لكي *** يعذوذبَ الماءُ من كوز لها نضحا
يُفضي إلى.. بَغتةً أفضى إلى عدمٍ *** ما عاد من بَعده ضوءٌ ولا رشحا
إلا قناديلُ تُسقى من مخيلةٍ *** إلا تآويل في دلو الذي مَتحا
هذا النضد يغطي وسط القصيدة وآخرها دون الخاتمة لكي يعطي فكرة واضحة عن طول نفس الشاعر ومحافظته على الرقي الفني والمعنوي لقصيدة طويلة نسبياً قوامها ستة وثلاثون بيتاً مع بقاء المسحة الفلسفية ذات المنحى العرفاني بين طياتها وجزالة لفظية وثراء المفردات المستمدة من القرآن والثروة الشعرية المزدهرة في أبهى عصورها، وإن استخدم بعض المفردات القاموسية. ولئن كان ثراء المفردات وخزينها لكل شاعرأمر ضروري فإن القدرة على توظيف هذا الخزين ضمن البنية الشعرية أهم، لأنه سيكون رافدا لإغناء الشعرية بالعبارات والتراكيب البلاغية ناهيك عن أهميتها في اتساق الجانب الصوتي المستمد من وقع المفردات وأجراسها وايقاعاتها ومثال ذلك: قسطاس؛ تبادل مواقع الفعل همّت/همّ؛ يكن/تكن؛ جاء/الأجاجي؛ من/ملح/ محال؛ نضح/يفضي/أفضى/ضؤ؛ قناديل/تسقي...
كان لروي الحاء الممدود بالألف وقع رائع على المتلقي وجعل القصيدة لينة طيعة وكبح الموسيقى الداخلية العالية برفق ولين ومن ينصت للقصيدة سيجد أن صدور الابيات في الأعم أعلى نبرة من الأعجاز وذلك لحضور الحاء الهامسة الكابحة هذه.
ومثلما كان الجانب اللغوي واللفظي قد فعل فعله في القصيدة كذلك يُلاحَظ فيها الجانب البلاغي متمثلا بالتَكرار و الجناس، والمقابلة البلاغية..ورغم أن القصيدة تخلو من الهبوط فإن هناك أبيات تنفرد بجمال مبهر، مثل البيت الذي يصور الطوفان فيحسن التصوير: عرشٌ على الماء قال السومريُ هنا//لا بيتَ كالفُلك إن النهرَ قد طفحا،، وكذلك هذا البيت الذي لا يقل إبهاراً: ياحانةَ الشظفِ الأنكى، وأكؤسُها//عطشى وعنقودُها للآن ما ذُبحا... وذبح العنقود ورد أيضا لدى بشارة الخوري في سياق مختلف (الكامل):
يا ذابح العُنقود خضِّب كفَه*** بدمائه بوركتً من سفّاحِ(8)
قلنا لقد رافقت مسحة الغموض هذه القصيدة، ومسألة الغموض في الشعر العربي مسألة تاريخية رائدها أبو تمام صاحب مدرسة البيان والبديع وبموجبها انقسم النقاد بين مشايع له ومخالف، وفي الموازنة بين الطائيين يبدو انحياز الآمدي للبحتري بسبب هذا الغموض! وفي أيامنا هذه يشيع الغموض المفتعل الذي لا يفهمه حتى صاحبه! على خلاف غموض هذه القصيدة فهو محبب له إيماءاته الفلسفية ولغته وخياله مما يعتبر نقلة تسجل للشاعر جمال مصطفى تفرقه عن مجايليه.. فهل ينبغي فهم القصيدة فهما رياضيا؟ القصيدة كما اللوحة التشكيلية تتألف من عدة عناصر الألوان في تضادها وانسجامها والخطوط ودلالاتها وضربات الريشة وهمساتها، وموحيات اللوحة كلها تشكل عناصر جمالية لا ينبغي فهمها فهما ميكانيكياً منعزلا عن كليته، كذلك القصيدة فهي محصلة لعوامل عديدة لا يمكن فصلها عن بعضها بل تُدرك أبعادُ القصيدة بكل عناصرها المتفاعلة والممتزجة، والتي اتينا على ذكرها في سياق هذه القراءة، وأختتم هذه المادة بتعليقي على القصيدة في موقع نشرها لأنها تمثل موجزاً شاملا لما دونت (مع تغيير طفيف):
هذه القصيدة سحبتني سحباً لأن اقول كلمة أخشى ألا تفيها حقها ولا تبلغ مرامها،، الشاعر جمال مصطفى أطلّ علينا برائعته هذه التي سكبها عسجداً على بحر بسيط، ولكنه استوعب هذا الثراء وانصاع للشاعر..المفردات ثرّة والصور مركبة، تأتلف مع الصوت أيما ائتلاف، ومن يبحث عن الإيقاع الشعري والمقابلات البلاغية سيجدها كثيرة، ولكن المعنى ليس ببسيط بل مركباً، ويقود الى المفاهيم الشعرية المركبة التي تومىء ولا تُفصح عن مكنوناتها بسهولة.. الجانب العرفاني لم يفارق القصيدة من مستهلها الجميل حتى خاتمتها، القافية الحائية منحت القصيدة جو الالفة والحنان،،ومن يُرِد التمتع بالقصيدة فليتلُها بصوت عال.. للشاعر الجميل جمال مصطفى تحية وتهنئة على هذا الجمال الذي يشع من درر هذه الخريدة.
رام كم هنغ 17 أيلول/ سبتمبر 2014
هوامش:
1- صدرت هذه المجلة في عام 1987 على الأغلب وكان لها أن تلعب دورا ثقافيا مهماً لمثقفي المنفى مع "البديل" و" الاغتراب الأدبي" لكنها للاسف توقفت بعد صدور عددين أو ثلاثة.
2- اللغة الدنماركية يتكلمها أربع ملايين ونيف شأنها شأن النرويجية والفلندية فيها من الموسوعات المتخصصة والكتب الثقافية والعلمية أضافة مايترجم لها من كتب هامة، والحكومات تدعم التأليف والنشر قارنوا مع العربية التي يتكلمها حوالي ثلاثمائة مليون في العالم!!
3- كناية عن معنى الخروج سرّا،وإشارة الى قول الشاعر القديم : إذا أنكرتني بلدةٌ أو نكرتها//خرجتُ مع البازي علي سوادُ
4- راجع: د.جابر قميحة رابطة أدباء الشام
5- . www.odabasham.net/show.php?sid=31098
6- يَفرِقُ العرفانيُ عن الصوفيِّ هو جنوح الأول الى الفلسفة، التي ينكرها المتصوفة لفظاً، من رواد العرفان في الشعر فريد الدين عطار وجلال الدين الرومي...
7- الأُجاج –بضم الهمزة- تعني شدة الملوحة والمرارة، وهي مفردة قرآنية وردت "مِلحٌ أجاج" في سورة الفرقان53 وفاطر12، ولم ترد مطلقا بياء النسب لأنها تنطوي على معنى الصفة التامة، اضاف لها الشاعر الياء لاستقامة الوزن.
8- مطلع قصيدة بشارة الخوري: فِتَنُ الْجمال وثورة الاقداحِ//صبغت أساطير الهوى بجراحي