"القَنْطرةُ، ما يتخذ من الآجر والحجر في موضع، ولا يرفع"
(كتاب التعريفات - الجرجاني)
بعد موت عبدالوهاب البياتي، أكل بعضهم من لحمه وهو لا يزال حاراً، بينما كانوا قبل شهور من ذلك اليوم الحزين يكتبون فيه الأطاريح المادحة.
يحدث هذا، الآن، مع الراحل عبدالوهاب المسيري ولكن من "المصدر الأول" لأعدائه، ونتمنى ألا نسمع، أو نقرأ صوتاً عربياً، يلغ في دم المسيري الذي لا يزال حاراً.. وسيبقى.
ولقد قرأنا كلاماً مكتوباً لأحد شعراء العراق المعروفين، تضمن شتيمة للراحل عبدالوهاب البياتي، لا تليق بشرف الشعر، ولا مكان لها بين تقاليد الحياة العراقية التي تلوثت، مع الأسف، بثقافة "شعراء القادسية" الذين كانوا ينتظرون "المكرمة" من ذاك الذي لا يعرف من الشعر سوى جنون العظمة.
في تلك الحقبة، أي "دَهْر المكرمات"، ربما تجد عذراً لشاعر عاثر الحظ. ولكن أي عذر يمكن ان يعتذر به عاقل للموتى، وهو يجد شاعراً يمجد القتلى، ويشيد بالجزار، عندما تقابله سيدة عراقية قائلة: لقد أفسدت تربية جيل بأكمله، فيرد عليها: "اعذريني سيدتي: كنت مخدوعاً طيلة خمسة وعشرين عاماً".
وبعد هذا يقرأ تلك القصيدة، القصيدة التي تصوره مخدوعاً لكنه بعد اسابيع يقرأ قصيدة في مديح الطغيان.
من شأن "ثقافة الحروب" ان تعد موائد للموتى، وموائد للأحياء قبل موتهم أيضاً. حول الموائد الأخيرة يتحلّق المهازيل من المخاليق الذين لا يجدون سوى الغيبة والنميمة. وهم أيضا هؤلاء الذين يكتبون مطولات فجة وممجوجة في الذين قالوا عنهم كلمات يخجل منها أكثر القردة فضائحية.
ان "ثقافة الحروب" عنوان عراقي بامتياز، وهي تلد وتستولد، مجموعة من الأسماء والمنظومات الثقافية والأدبية، التي تنقل القلم من هذه اليد إلى تلك اليد، بعد طرفة عين وأخرى.
وفي النور الكاشف لهذه الثقافة التي تعلمت من إعادة تأهيل نفسها في مختبرات "المؤتمر" وصحافته، ان الواحد منهم يغير دينه، ويبدل قوميته، تبعاً لموقعه الجغرافي. فهو عربي من تميم في الخليج العربي، وتركماني طوراني في كوكوك. وكوردي عيلامي في السويد.
وهو يساري لا يشق له غبار، في ظل خيم تشرف عليها الميليشيات الكردية، وتتصدق عليها السفارة الأمريكية ببغداد بدولارات معدودات تحت شعار تنمية الديمقراطية.
هذه موائد أقامها هؤلاء لأنفسهم، وأقاموها قبل ذلك للأموات من الكبار. ويبدو أن مؤسسات الاستخبارات "الإسرائيلية" أفادت من خبرة هؤلاء، فأصدرت دراسة تتهم فيها المسيري بمعاداة السامية.. بعد موته.