د. عبد المالك الشامي/ المغرب
تُطرح وبحدة على جل المهتمين بمستقبليات الإبداع، جملة من الأسئلة التي تفرض نفسها على رؤاهم المستقبليّة، وتدفع بهم إلى وضع مجموعة من التصورات التي تصب حول مستقبل الإبداع الموسيقي عموما - والمتسم منه بالمحلية أو الوطنية بصفة أخص -، وحول مجالات إثبات ذاتيته في ظل تحديات العولمة الفنية التي تسعى القوة الحضارية الغالبة من خلال معطياتها فيه إلى تهميش دور مختلف الخصوصيات المحلية والوطنية أو تذويبها في بؤرة هذه العولمة، وذلك من خلال نزع صيغ التفرد عنها عن طريق فرض ضوابط الذات الغالبة، وفرض وجودها عن طريق مختلف الوسائط القادرة على تحقيق ذلك. وملخص هذه الأسئلة يخص:
أولًا. تحديد وتثبيت معالم الهوية الإبداعية العربية، الوطنية والمحلية، بالنسبة لكل ما هو عولمي، ذلك بأن البحوث الحديثة المنجزة حول تحديد معالم الذات الموسيقية العربية توزعتها رغبات مسبقة تتمحور حول كون الذات الموسيقية العربية مؤطرة بتصور سياسي يرجع لتصورات مرحلة إنشاء فكرة القومية وما تبعها من تفرعات ذات أبعاد سياسية وثقافية واجتماعية، والحال أن الفكر العروبي الفني وغير الفني في أصالته، هو فكر منفتح على مختلف الثقافات، وانفتاحه هذا هو الذي أثمر خلال مختلف مراحل ازدهار الثقافة العروبية ذلك الفكر المستفيد من تجارب الماضي، والمنفتح على تجارب مختلف الشعوب. لذلك كان هناك نوع من التجاوز في تحديد الهوية العروبية بالنسبة للابداع الموسيقي حيث تميّز بوجه من التجرد عن الموضوعية، وكان من الضروري تفهم التجارب الفنية الوافدة وتأثير معطياتها على الخصوصيات المحلية، وهو ما أثمر تفرعات مختلفة في الاجتهاد الفني كان من نتائجه هذا الثراء الموسيقي الذي تتوزعه مختلف البلدان المكوّنة للدول الناطقة باللغة العربية أو المتأثرة بمرحلة من مراحل إشعاعها.
ثم إن تثبيت معالم الهوية الموسيقية يفترض أن يُعالج جوانب مختلفة ربما كانت آثارها واضحة في تحديد معالم الذات المتميزة، وفي مقدمة ذلك مثلًا: علاقة اللغة بالتصور اللحني في الموسيقى العربية، فاعتماد التجربة الموسيقية على المزاوجة بين منطق اللغة ومنطق اللحن أثمر ولا شك توجهات مختلفة ومتنوعة للإيقاع الكلامي والموسيقي وتوزعه بين الخضوع لمؤسسات الإنشاد وتوابعها، وبين ضرورات التلحين، ثم بين منطق الكلام العربي الذي يقوم على أساس المتحرك والساكن، وبين منطق الإيقاع الموسيقي الخاضع لمنطق تأثير الوافد على التليد، وهو ما كان له دور في تشكيل الأدوار الإيقاعية العربية الأساسية والوافدة، إذ كلما تغير مناخ الكلام ومنطق تركيبه، كلما حدثت تغيرات لحنية وإيقاعية، وخير دليل على ذلك تجربة الموشح والزجل في الغرب الإسلامي وتجارب نماذج "القواما" و"الكان كان" ونحوهما من صيغ الكلام الدارج المتداول في مختلف البقاع العروبية، التي خرجت بنمط الكلام عن منطق اللغة الفصيحة إلى منطق هجين يختلط فيه ما هو عربي بكل ما هو وافد على هذه المنطقة من الشعوب والتجارب.
والأندلس خلال كل مراحل تاريخها الإسلامي مثلا كانت منطقة صراع متميز بالشمولية، فهو صراع عسكري في جانب، وصراع عرقي بما حملته تجارة الرقيق من تنوع في جانب ثان، وصراع لغوي بما انطوى عليه تركيب المجتمع من تنوع عرقي في جانب ثالث، وصراع ثقافي فكري في جانب آخر...، ومن خلال كل ذلك كانت الدورة الحضارية في الغرب العروبي متميّزة عن نظيرتها في الشرق العروبي بحكم اختلاف المعطيات، لأجل ذلك فإن أي تحديد لمعالم تثبيت الهوية العروبية يُفترض أن يراعي فكرة التنوع التي تهيمن على مختلف التجارب، وقل مثل هذا عن تأثير مختلف العناصر المؤثرة في الثقافة الفنية العروبية خلال مختلف حقب التاريخ العروبي وضمن ذلك البيئة الجغرافية المتنوعة وغيرها من المؤثرات التابثة أو المرحلية الأخرى التي كان لها ولا شك وجه من تأثير.
ثانيًا. البحث في وجوه إثبات الذات المحلية كصيغة من صيغ مقاومة التيارات الجارفة المتسلحة بمختلف الإغراءات والترغيبات، وتحديد سبل دعم ذلك ضمن الاستراتيجيات والبرامج المهيكلة لتدبير الشأن العام ، والفني منه بصفة أخص. ذلك أن الفنون المحليّة في مختلف الأقطار العربية لم تأت من فراغ، بل هي امتداد لتشكل فني له صلة أساسية بالتوافقات المحلية التي ارتضاها الذوق المحلي، وتحقق له من خلالها ذلك الانسجام الذي بحث عنه في موسيقاه، ونظرًا لاختلاف البيئات، باعتبار شساعة مساحة العالم العروبي، فإن النزعة المحلية في كل صقع تتميز بخصوصيات عملت على تشكلها معطيات متعددة تحتاج إلى دراسات تقارن بين ما هو خصوصي بحتميته، وما هو وافد في مرحلة من مراحل التاريخ، وذلك من أجل استجلاء معطيات هذه الخصوصيات وترتيبها ضمن خانات فارقة، لا تهمل البسيط منها لبساطته، أو تقدم المعقد منها لتعقيده. ومثل هذا قد يكون مفيدًا في البحث عن أصالة الألوان الموسيقية المحلية وعن مدى تأثيراتها الإشعاعية على مختلف الأقطار والبيئات الأخرى القريبة منها والبعيدة. ونظن أن مشروع تسجيل التراث الموسيقي في البلاد العروبية - باستغلال الوسائط الإلكترونية المختلفة والذي تجتهد كثير من الأقطار العروبية في تنفيذه - ، كفيل بأن يقدم لنا المادة الخام المساعدة على القيام بجملة غير قليلة من الاجتهاد في دراسة خصوصيات العناصر المحلية ونظيرتها الوافدة.
ثالثًا. وضع صيغ عن التصورات الاستراتيجية المحلية والوطنية التي تهم الثقافة الموسيقية، من أجل تعزيز قيم الذات الموسيقية في عمومها، وذلك من أجل مواجهة التحدي العولمي الجارف عند الفرد المبدع من جهة، ومن خلال مختلف الأوساط التي تتجاوب مع اجتهاداته الفنية من جهة ثانية، ومن خلال التحفيزات الكفيلة بتثبيت معالم الشخصية المبدعة القادرة على مواجهة التحديات الفنية العولمية من جهة ثالثة.
والموسيقى العربية اليوم تواجه صيغًا مختلفةً من تحديات العولمة الجاثمة على جل مكونات الذات الموسيقية العربية، ابتداءً من مراحل التعليم والتكوين في المجال الموسيقي، وما يهيمن عليها من تربية الذوق الموسيقي الموجه نحو تقديم ذات الغير باعتبارها نموذجًا أعلى، وتجاهل التجارب الذاتية المحلية أو تبخيس قيمتها عند المقارنة، ومرورًا بما يتبع ذلك من فتح المجال التداولي أمام مختلف التيارات الوافدة وتضييق المجال على كل ما هو محلي، وانتهاءًا بممارسة وجوه من سياسة التطبيع مع الغير وتشجيع مختلف مبادراته التي تعمل على اكتساح سوق التداول، وذلك مثل عقد المهرجانات الفنية الكبرى وجعل مركز الصدارة لمختلف معروضاته، وتضييق المجال على جل ما هو محلي أو ذاتي.
لأجل ما تقدم يُفترض أن تركز مختلف التصورات الاستراتيجية الثقافية في المجال التثقيفي بعامة والموسيقي بخاصة على احترام الهوية المحلية ومعتمداتها في مختلف الميادين الفكرية والعلمية والثقافية والفنية، من أجل حماية الذات المحلية وتمنيعها من مختلف التأثيرات السلبية القادرة على محو خصوصيات المحلية بمختلف إيجابياتها، وفي المجال الموسيقي خاصة يفترض أن يعطى للجانب المحلي أهميته في تقديم النموذج وبيان مجالات الخصوصية فيه بالنسبة لغيرهز فإذا تمت مرحلة التكوين والتمنيع انتقلنا نحو مرحلة الانفتاح بما تطلبه من تدرج وتمييز بين مختلف التجارب الغيرية بمختلف تميزاتها وخصوصياتها.