شعور الإنتماء إلى وطن ما، لا تولِّده العادات والتقاليد التي يمارسها أبناء الشعب الواحد فحسب، ولا يشكِّله أيضاُ التاريخ الواحد، والدين الواحد، واللغة الواحدة، والأهم الحضارة الواحدة بكل مركباتها، وفي جذور ذلك الاقتصاد الذي بدونه لا قيمة للكيان القومي. إن هذه العناصر أو المعطيات على ما تحمله من أهمية، إلا انها لا تكفي وحدها لتأليف عميلة الإنسجام مع الأرض التي يعيش على ترابها، هذا الشعب أو ذاك، ولا بدَّ أن تتوفَّر عناصر أخرى تشترك هي أيضاَ مع ما ذكرتُ، وفي مقدِّمتها إرساء الحرية والدمقراطية والمساواة بين المواطنين نساء ورجالا، وحقوق الانسان، وتكافؤ الفرص في العمل والتعليم والسكن والمأكل والمشرب، وكذلك انشاء المؤسسات المدنية التي تساهم مع الدولة في تأمين الرعاية الصحية، والضمانات الإجتماعية التي تكفل للأفراد والجماعات على حد سواء، العيش بكرامة وأمان وأمن، وأن يقوم النظام على خدمة الانسان، وليس تحويل الانسان إلى عبد للنظام . وحين يتحقق ذلك، وتقدِّّّم الدولة لجميع مواطنيها كافة الحقوق، يأتي دور المجتمع ليقدم ما عليه من واجبات.
هذه الشروط المتعارف عليها، والمعمول بموجبها في دول العالم المتمدِّن، والتي أخذت الشعوب العربية في الآونة الأخيرة، تثور من أجل تحقيقها، كانت وما زالت منقوصة وغير متكاملة بالنسبة للمواطنين العرب داخل إسرائيل، وإذا كانت قد شملتهم قوانين الدولة من حيث التأمين الصحي، وبعض الضَّمانات الإجتماعية الأخرى، غير أن سياسة التمييزالتي انتهجتها حكومات اسرائيل المتعاقبة، تجاه الأقلية العربية، وخاصة في مجال الخرائط الهيكلية، ومخصصات الأراضي وميزانيات التطوير والتعليم، وغير ذلك من التمييز والتجهاهل والإجحاف، جعل العلاقة ما بين المواطنين العرب، من جهة، وما بين أجهزة الدولة، ومختلف وزاراتها، من جهة ثانية، قائمة على عدم ثقة متبادلة بينهما، وكثيرا ما ينتج عن ذلك توتر ومصادمات ، تصل أحياناً حد المواجة ، كما حدث في اكتوبر 2000.
لا أريد أن أتوقَّف في هذه العجالة عند الجانب الذي يخص السلطة في إسرائيل، وما تمارسه بحق المواطنين العرب، من قهر واضطهاد قومي وتمييز صارخ في بعض مناحي الحياة، لأن ذلك بات معروفاً، وتحفظه الجماهيرعن ظهر قلب، ولكنني أريد ألمس الجانب الذي يخصنا نحن بصفتنا أقلية قومية في هذه البلاد، وكيف تتعامل قياداتنا السياسية مع هذه المواضيع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الساخنة، وما هي انعكاساتها وتفاعلاتها داخل مجتمعنا.
إن الشرخ الذي حدث بعد عام 48، بين العرب الفلسطينين المتبقين في وطنهم، وبين محيطهم العربي، أوجد حالة من الإرباك الشديد الذي لم نستطع معه أن نتماثل مع الواقع الجديد، ولم نستطع في الوقت ذاته أن ننقطع عن ثقافتنا وتاريخنا وجذورنا، مما جسَّّّّد ازدواجية أعاقت عملية التوفيق ما بين فلسطينيتنا، وما بين وجودنا داخل حدود الدولة التي غدونا من مواطنيها.
المطَّلع على مسار أدبنا الذي أنتج بعد "ال 48"، يحدِّد من الوهلة الأولى، هوية هذا الأدب، ونكهته الفلسطينية العربية التي وإن كانت قد تشكَّلت من وجداننا العام، إلا انها لم تنعكس على حياتنا ومطلقاتنا السياسة، لأن ماهية الأدب قابلة للتَّعابير التضمينية والتشبيهات والإستعارات والترميز، في حين أن قاموس السياسة يحتاج إلى التَّّّّّّّّّّعبير الواضح والمحدَّد، وغير القابل لتضمينه نصوصاً تحتوي على أكثر من تفسير، ولعلَّ هذا ما حدا بالأديب أميل حبيبي، "أن يصرِّح ذات يوم"، أنه يستطيع أن يقول بالأدب، ما لا يستطيع قوله في السياسة.
وفي مقابلة مع الكاتب ابن مدينة طيرة المثلث، السيد قشوع، أجراها معه نادر الصراص، وراجعها لؤي المدهون، ونشرت قبل مدة قصيرة في موقع "دويتشه فيله"، تحدَّث عن روايته التي صدرت مؤخراً باللغة العبرية، بعنوان:"ضمير المخاطب"، يناقش فيها نزاع الهوية الداخلي لدى شخصيات عربية من السكان العرب في إسرائيل، ويُبيِّن "عدم قدرة هذه الأقلية العربية على إظهار انتمائها للقومية العربية. فمثلاً، قد تم سن قانون جديد في إسرائيل مؤخراً ينّص على أن الدولة لن تدعم المؤسسات، عربية كانت أم إسرائيلية، التي تحيي ذكرى "النكبة". وفي اليوم ذاته تم سن قانون جديد يسمح للقرى الإسرائيلية والتجمعات السكنية أن تختار هي السكان الذين يريدون العيش فيها، وأعرب عن توقِّّعه بأن المقصود من وراء هذا القانون، هو إعطاء الحق للقرى الإسرائيلية برفض العرب، الذين يريدون العيش في هذه المجمعات السكنية الإسرائيلية".
هذه المقابلة على ما تطرحه من قضايا شائكة تتعلق بواقعنا، إلا أنها لم تخرج من دائرة الخطاب السياسي السائد لدى قياداتنا السياسية العربية، والذي لم يرتقي بعد إلى وضع مجرَّد تصور مستقبلي نطرحه، فيعبِّّد الطريق أمامنا للوصول إلى المساواة التي ننادي بتطبيقها، على الصعيدين الشعبي والرَّّسمي.
إن غياب مثل هذا التصور، يساهم في تعميق الهوة القائمة بين شعبي هذه البلاد، وقد آن الآوان لكي نضع شروطنا التي تحقق لنا المساواه، قبل أن نقبل، أو نتحفظ ، أو نرفض ما يعرض علينا من قبل أصحاب القرار، وخاصة ما يتعلق بتقديم الواجبات.
وإن عقلية الرفض المسبق، لا يمكن ان تثمر نهجاً سياسياً نضالياً ناضجاً يلقى أذناً صاغية من الطرف الذي لا يفيدنا الانعزال عنه ورفض مخاطبته، ولن يقودنا ذلك إلى انجاز شعاراتنا حول المساوة والحقوق .
لست ضد رفض مواقف عنصرية، ولكني ضد تحويل الرفض الى قاعدة لمنطلقاتنا .
mawked@gmail.com