أول الكلام:
فكرت أن أريح القارىء هنيهة من الماضي بما كتبت عن ابن الرومي - رغم إنها رؤية جديدة - الى مواضيعِ الحاضر المسكوتِ عنها، فالجميع يلحظ استفحال النزعة الاستهلاكية وأضرارها، والكل يدرك حجم الإضرار والأضرار الأقتصادية التي تلحق باقتصادنا الوطني نتيجة سياسة الاستيراد التي حققت دول الجوار منها أرباحاً طائلة من موادَّ كان العراق مُصدِّراً لها، نتيجة فوضى الاقتصاد وتولي مسؤولين لايمتلكون الحُنكة الكافية لإدارة شؤون البلد ناهيك عمّا رافق ذالك من فساد كبير أدّى الى نشؤ طبقة من البيروقراطية الطفيلية التي أثرت على حساب الشعب.. ناهيك عن تدني مستوى الزراعة والصناعة وقتل روح الابداع التي يتميز بها العقل الجمعي العراقي !
ولا شك أن كل هذا سيترك أثاراً اجتماعية وبيئية خطيرة، ناهيك عن الظاهرات المستشرية من الهَدْر والنهب التي طالت الاقتصاد العراقي ومازالت، يدفع ثمنها بالدرجة الأولى القطاعات الواسعة من الفقراء ومحدودي الدخل، ومن تجلياتها الإفقار وسؤ الخدمات ومحاربة حرية الرأي وحق التظاهر، ولله در الشاعر أحمد شوقي الذي قال قبل نحو من قرن :
إذا ما جاءه طلابُ حقٍّ – يقولُ : عصابةٌ خرجوا وشقّوا
هذه مقالة مُركزة توخيت منها معالجة ظاهرة خطيرة مستفحلة لوجود من هو مستفيد منها دون الانتباه الكافي لمخاطرها وهي : نزعة الاقتناء والثقافة الاستهلاكية..
***
ليس هناك من لايُحب الاقتناء، سواء للمواد الضرورية من مأكول ومشروب وملبس وأثاث لمسكن لائق... الخ، ويتعدى الأمر الضروريات الى ما هو أقل ضرورة مما يُطلق عليه بالكماليات مثل وسائل الركوب والنقل والترفيه .. بيد أن الضرورات والكماليات تتبادل المواقع بشكل نسبي، فمثلاً كانت الكهرباء في بدايتها ضرورية للإضاءة ثم للتكييف ثم لوسائل الترفيه، وهكذا ازدادت أهميتها حتى غدت في عصرنا الراهن وسيلة للتواصل الاجتماعي من خلال الفضائيات والانترنت وما وفرته من خدمات معلوماتية اصبحت هي الأخرى من ضرورات الحياة.. ولا يحتاج الأمر لنقاش !
ومن الملاحظ أن نزعة الاقتناء هذه تزداد في البلدان أو المجتمعات التي تنتج ما يحتاجه الإنسان حتى أصبحت جزء من منظومة تقافية للبلدان الصناعية؛ وفي بداية القرن العشرين فضح وحذّر العالم الاقتصادي/الاجتماعي الأمريكي الماركسي ثورستين فيبلين (1857-1929) من تنامي هذه الظاهرة جراء إغراق السوق بالبضائع الاستهلاكية وحذّر مُشدِّداً من مخاطرها الاجتماعية وتنبأ باستفحالها وانتشارها، في كتابه الهام ( نظرية الطبقة المرفهة * )، وقد انتبه المفكرون لخطورة هذه الظاهرة وما ألحقته من أضرار فتشكلت جمعيات حماية المستهلك، وترسخ مبدأ ضمان جودة السلع للتخفيف من وطيس حمى السوق، لكن الأضرار مازالت مستحكمة مثل التبذير والضرر الاجتماعي الكبير من غزو الالكترونيات فقد اختفت أو كادت تختفي ظاهرة مطالعة الكتب الورقية في المترو او الحافلة لتحل محلها ظاهرة استخدام أجهزة التواصل وتعززت الفردانية وروح الانكفاء على الذات لدى الشباب، حتى غدا الحب هو الآخر الكترونياً مبتذلاً مرادفاً لحب الأجساد بغياب العواطف الإنسانية الحميمة ، مما أشغل الشباب عن انطلاق مواهبهم في شتى الميادين الدراسية والفكرية وشيوع مبدأ قضاء التسلية لقضاء الوقت !
لقد ظل منظّرو مجتمع الرأسمالية يبذلون كل طاقاتهم في الترويج للرأسمالية باعتبارها مجتمع الوفرة، متناسين مشاكل "الوفرة" من بطالة وازدياد معدلات الجريمة والتغيرات السلبية الناتجة من التفاوت في المداخيل والقفز على مشاكل البيئة كلها من جهة ؛ وشن حملة تشويه للتطبيقات الاشتراكية "مجتمع الندرة والشُّح !" مستغلين البيروقراطية فيها وخنق الحريات متناسين الجوانب الإيجابية فيها التي عُنيت بالإنسان وتطويره.. لأجل التشويه مستغلين الإعلام والسينما والمسلسلات التلفزيونية المبطنة بالدعاية للمجتمع الرأسمالي والموجهة بعناية لتشويه التطبيقات الاشتراكية مسلطين الأضواء على السَّلبيات دون الإيجابيات..
ولكن الأمر يزداد من حيث دوافع الاقتناء لدى الدول التي كانت فقيرة فقراً مدقعاً، ثم اغتنت على حين غِرَّة بما جادت عليهم مكنونات الأرض من بترول وغاز ولتحصل على سيولة نقدية كبيرة، وبذلك حصلت نقلة كبيرة في حياتها من البداوة والعيش على مردود الصيد البحري البدائي الى التمدن والغنى، فاصبحت تعيش حالة شديدة الازدواجية في تعايش العقلية البدوية العشائرية مع وسائل عيش متطورة وأسلوب حياة متطور باذخ التطور والثراء حتى غدا سكان هذه البلدان لا يطيقون حرّ بلدانهم فيقضونه في منتجعات باردة من مغاني أوربا وآسيا حيث تنتظرهم المُتع بشتى أشكالها !
وقد حظي الغرب بكسب كبير من تصديره السلع الاستهلاكية التي فتن بها محْدثِو النِعم، لاسترجاع البترودولار، وإغراقها بسلع كمالية فسيطرت على هؤلاء نزعة استهلاكية عمقت ثقافة "البرستيج"، والتفاخر باقتناء الساعات الثمينة والأجهزة الالكترونية الغالية والسيارات الحديثة، حتى اصبحوا يستوردون ملابسهم التقليدية من عُقُل وكوفيات وجلابيب من أوربا، مما قتل روح الابداع لدى هذه الشعوب التي تتفاخر بعلو أبراجها السمنية لا بصناعاتها ومتانة اقتصادها.. وفي الرياضة تصرف ملايين الدولارات لسباق الخيول، والهجن التي يستخدم بها الأطفال رغم الحظر، وصيد الصقور، والغزلان مما ألحق ضرراً كبيرا بالبيئة، ناهيك عن فيض النفايات البلاستيكية لعبوات المياه التي غالبا ما ترمى في البحر دون الاهتمام بمبدأ التدوير!! وفي زيارته الاخيرة للسعودية لفلف ترامب قرابة خمسمائة مليون دولار لبيع الأسلحة والمعدات العسكرية، وبذلك أنقذ الشركات المصنَّعة للسلاح من أزمات خانقة بسبب الكساد ..
أما الثقافة لدى شباب هذه البلدان والتطور الصناعي والعلمي فشبه معدومة فلا تلمس وجود مفكرين او علماء ( رغم أنها تنفق على التعليم مبالغ هائلة ) باستثناء تخريج الألوف من رجال الدين يفتون بلا رقيب ويؤلفون ويطبعون ماشاؤا مجترين بلا ملل كتب الاقدمين في الفقة والتفسير والحديث.. كل هذا دون الحساب لنضوب ثروات البترول والغاز بعد عقود من السنين، وعندها ستتعرض هذه البلدا لكارثة موعودة طال الدهر أم قصر...
(*)The Theory Of The Leisure Class
خالد جواد شبيل
21تموز/يوليو2017