الياس سحاب
انقسمت الأصوات التي بقيت من العصر الذهبي للغناء العربي إلى فصيلتين :
- فصيلة استمرت مقبلة على الحياة إلى درجة عدم الرغبة بالاعتراف بأن للحنجرة الغنائية عمراً افتراضياً قد يصل بصاحبه إلى سن الشيخوخة الفنية قبل بلوغه سن الشيخوخة في حياته العامة. تماما كما يفترض في لاعب كرة القدم، مهما كان فذاً، أن يعتزل وهو في بداية الثلاثينيات من عمره، كحد أقصى، قبل أن يهبط أداؤه في الملعب عن المستوى الذي اشتهر به.
- وفصيلة أحست في الوقت المناسب، وبغريزة فنية رفيعة، ببداية زحف ملامح الشيخوخة الفنية إلى الحنجرة، فتتوقف عن الغناء وتنسحب بهدوء، حتى لو امتد بها العمر، وحتى لو عانت من قسوة الشعور بنكران الجميل لدى الجمهور.
انتمت المطربة وداد إلى الفصيلة الثانية، متشبهة بالمطربة الكبيرة ليلى مراد التي اعتزلت فنياً وهي في الأربعين من عمرها، ومتشبهة بمثلها الأعلى في الفن محمد عبد الوهاب، الذي توقف عن الغناء قبل ثلاثين عاما من رحيله عن الدنيا، عندما شعر أن الشيخوخة بدأت تزحف إلى أوتار حنجرته الذهبية .
لمعت وداد في عصر كانت فيه المعايير العامة التي يفرضها الجمهور لقبول أوراق اعتماد مطرب جديد ومطربة جديدة، معايير بالغة التشدد والتطلب. فوداد من الأصوات التي لمعت دون حاجة إلى شبكة علاقات عامة تلفت النظر إلى تميّز صوتها وتميّز أدائها، في عملية من عمليات التسويق الرائجة، والتي تبلغ من القوة والسطوة أحيانا، أنها تنجح في أن تؤمن الشهرة لأصوات لا تملك أياً من مقومات الغناء. الراحلة وداد كانت تمتلك صوتا يتميز بالشفافية والحساسية الهادئة والعميقة، المعتمدة على استخراج أعماق المشاعر الدفينة إلى أوتار الحنجرة. ساعدها في إبراز هذه الموهبة التي تخلق مع الإنسان أو لا تخلق، تمرس قوي وفطري بمقامات الموسيقى العربية. وكان هذا التمرس يبدو واضحا سواء عند استمرارها في الغناء على مقام موسيقى معين، فتبدو كل جماليات هذا المقام مجلوة على أحسن صورة في أدائها، أو عندما تنتقل بين المقامات الموسيقية المختلفة، ببوصلة إحساسها البالغة الدقة. حتى أذكر أنني قلما استمتعت بجماليات مقام النهاوند الشجي كما فعلت وأنا استمع لأداء وداد للموشح الشهير «لما بدا يتثنى»، خاصة في الموال الرائع الذي قدمت به وداد الموشح.
ظروف حياة المطربة وداد (اسمها الأصلي بهية)، قادتها إلى الاقتران بثلاث من العلامات البارزة في تاريخ الموسيقى العربية في القرن العشرين. زوجها الأول عازف القانون الأشهر محمد عبده صالح، الذي يعتبر عازف القانون العربي الأول في القرن العشرين، والذي شارك في تنفيذ ألحان لعمالقة الموسيقى العربية منذ النصف الأول من القرن العشرين، مثل القصبجي وعبد الوهاب وزكريا أحمد ورياض السنباطي. والذي تحول إلى قائد للفرقة الموسيقية التي كانت ترافق أم كلثوم في حفلاتها الشهرية. زوجها الثاني هو عبقري الزجل اللبناني عبد الجليل وهبي، الذي لعب دوراً تاريخياً تأسيسياً (مع رفاقه عمر الزعني وأسعد السبعلي وأسعد سابا)، في ولادة ظاهرة كتابة الشعر الغنائي في لبنان، باللهجة اللبنانية المحلية، بعد أن كانت اللهجة المصرية هي المعتمدة. أما زوجها الثالث فهو الموسيقار توفيق الباشا الذي يعتبر عن حق قائد أوركسترا النهضة الموسيقية في المشرق العربي، حيث كان يعتمد عليه في تنفيذ ألحانهم الطليعية الكبيرة كل من زكي ناصيف (يا بني امي) والأخوين رحباني (راجعون)، إضافة إلى ما كان ينفذه من ألحانه وصياغاته العصرية للموشحات التراثية. ومن المؤكد، أن كل واحدة من هذه الزيجات الثلاث كان لها – في حينها – الأثر المباشر في تكوين وإنضاج حساسيتها ومهارتها في أدائها الغنائي.
يمكن اعتبار المطربة الكبيرة وداد، نجمة الهجرة الفنية المعاكسة من القاهرة إلى بيروت. بعد أن كان السياق السائد هو هجرة أصحاب المواهب الغنائية من بيروت إلى القاهرة، مثل لور دكاش ونور الهدى وصباح وسعاد محمد ونجاح سلام، وحتى وديع الصافي الذي جرب حظه في الظهور في السينما المصرية الغنائية. وقد كان لهذه الظاهرة أبلغ الأثر في تكوين الشخصية الفنية المميزة لصوت وداد وأدائها. فبعد أن شربت من القاهرة كل مقومات النهضة الموسيقية والغنائية المعاصرة (من القرنين التاسع عشر والعشرين)، انتقلت إلى لبنان في ظروف كانت تشهد ولادة النهضة الموسيقية العربية المشرقية بين خمسينيات وسبعينيات القرن العشرين. وهكذا قدر لوداد أن تكون (إلى جانب أصوات تاريخية مثل وديع الصافي وصباح وفيروز) بين الأصوات الكبيرة التي قامت عليها هذه النهضة الموسيقية الكبرى. فكان أن اعتمد حنجرة وداد لأداء ألحانهم ملحنون كبار مثل زكي ناصيف وتوفيق الباشا وسامي الصيداوي، وسواهم. بين أجمل ما شدت به وداد من ألحان هؤلاء، لا بد من التذكير بلحن كبير لزكي ناصيف "في وردة بين الوردات" وآخر لتوفيق الباشا "لي حبيب" إضافة الى أدائها المميز للصيغة المعاصرة لموشح «لما بدا يتثنى». أما سامي الصيداوي فلعله أكثر من اخترق بحساسيته المرهفة كملحن، أعماق الحساسية في حنجرة وداد كما في أدائها الغنائي، في أغنيات رائعة وشهيرة مثل «بتندم»، و«يا ناعم». ولما تلبدت سماء الفن بأنماط هجينة من الغناء، وكان العمر قد تقدم بمطربتنا الكبيرة وداد، آثرت الانسحاب دون أي ضجة إعلامية، تماماً كما كانت تملأ دنيا الغناء الرفيع سنوات طويلة دون أي ضجة اعلامية. ومع ذلك، فقد جاء نبأ رحيلها المفاجئ في حينه صادماً، ينذرنا بأن الأصوات الغنائية المتبقية من العصر الذهبي، أصبحت تعد على أصابع اليدين، وربما اليد الواحدة.
[1] الشكر الجزيل لمتابع مجلة الموسيقى العربية الالكترونية السيد عبد القادر مسلماني الذي لفتنا إلى هذه المقالة الشيقة التي نشرت قبل ثماني سنوات في جريدة السفير اللبنانية المتوقفة عن الصدور.
المحرر
نقلًا عن جريدة السفير اللبنانية المتوقفة عن الصدور (ببعض التصرف)