قفزة طالب القحطاني
أفْضَلُ الكلام، ما كانَ قَليلهُ،
يُغنيكَ عن كثيره"
(الجاحظ)
من بين عدد من الرسائل التي تلقيتها من قراء وأصدقاء، أثناء فترة الإجازة الصيفية، مكتوب يقول صاحبه ما معناه، أمرّ على مكان "ذاكرة المستقبل" في "الخليج" فأجده من دون كلمات ظاهرة. وعندها أقول: سيأتي يوم وتزدحم بنا الأمكنة.
المكان الذي تغادره طوعاً، أو وأنت تعرف أنك عائد إليه، وليكن منزلا، لا تغادره في حقيقة الأمر، لأنك تحمله معك من خلال أشياء صغيرة فيه، كمرآه عند الباب مثلاً، أو نبتة متسلقة تطل عليك من خلف الجدار، في الطابق العشرين، من عمارة عدد أدوارها يربو على الثلاثين.
وربما تحمل معك منزلك، بما فيه من تاريخ وأولاد وضنك وسعادة، من خلال قبلة تطبعها على جبين ابنتك أو زوجتك.
في هذه الدنيا، نجد أناساً محرومين من هذه النعمة: فراق الديار، رغم أنهم يسافرون كثيراً خارج بلدانهم، ويتغيبون كثيراً عن منازلهم، أو يبدلون منازلهم كما يبدلون أحذيتهم.
ماذا تقول عن أحد هؤلاء؟
ولكن دعونا نتذكر المقابل لهؤلاء. هم كثر والحمد لله. غير أن واحداً من بين آلاف، إذا لم أقل ملايين من البشر، يحتفظ بخاصية خاصة في هذا المجال.
هو، نعم هو بعينه، الذي لا أحد غيره بمقدوره أن يكون اكثر اشتعالاً، وهو يتذكر مكانه الفارغ. وتلك مشكلته العَصيّة في الآن ذاته، لأنه لا مكان عنده.
نعم: هكذا بكل بساطة. انه بيننا مثل أي انسان محترم، أدى خدمة العلم، ويعمل في إحدى المؤسسات المرموقة، وتزوج وأنجب عيالاً.
لكنْ لا مكان لديه.
لا أحد يصدق بهذه الحالة طبعاً، أو لا يريد أن يفكر بها قليلاً: لأنها بكونها فكرة في أحسن الأحوال، تقضّ المضاجع، وتبعث على الغثيان، وتوجع الدماغ.
أما "هو" الذي أعرفه، كما أعرف تفصيلات عباءة والدتي، فإنه لا يتذكر مكانه الخالي المفقود والحبيب والغالي، لأنه لا يريد ان يتذكره.
سنعرف ذلك الآن.
كان "هو"، واسمه الحقيقي طالب القحطاني، ابن عمير القحطاني، الذي من بلد العرب الأوائل، ورد في خاطره أنه يقلد الراقص الروسي فلاديمير نجنسكي، في إحدى انقذافاته خارج جسده. ومنذ تلك اللحظة، والناس من حوله تقول: غادر طالب عقله.
جمعة اللامي
www.juma-allami.com
juma_allami@yahoo.com