قطيفة زرقاء : مودلياني..

2016-01-01
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/65b92556-cc98-45b8-8051-50306f361ffc.jpeg
 كم هي المسافة بين أصابع التشكيلي العظيم/ العجوز رينوار واصابع مودلياني؟ وماهو فرق الألم بينهما؟ ولوكان  مرفها وله حاشية اجتماعية انيقة  تحيطه دائما مثل بيكاسو هل كان مودلياني يتعرض للضرب الشرس في ليل مثلّج؟ وأي سذاجة ناصعة جعلت مودلياني يدخل الحانة وجيوبه لاتحتوي سوى دفتر صغير لرسم التخطيطات واستمارة المشاركة في مسابقة اللوحة الواحدة ؟ ويالها من ثقة مطلقة بموهبته المتسيدة حين يعلن مودلياني لصاحب الحانة أنه بعد قليل سيكون ثريا، فهو متيقن ان لوحته ستنال الجائزة الاولى ومقدارها الآف الدولارات من خلال مسابقة اللوحة الواحدة التي اشترك مودلياني وبيكاسو ورسامون آخرون، اني اتكلم عن الفلم الذي أخرجه الكاتب والمخرج الاسكتلندي ( ميك دايفز) في 2013 أدى دور مودلياني الممثل ( آندي غارسيا ) أمريكي من أصول كوبية كما أدت ( إيليا زولبرستين ) دور عشيقة مودلياني: ( جين هيوترن ).. والممثل ( أميدو غاليلي ) بدور بيكاسو..
(*)
مجاورة مع السياق لاأسأل احدا سواي:لوكان لدينا صالة سينما كم عدد المشاهدين للفلم؟ هل بعدد الذين شاهدوا فلم المحاكمة عن رواية كافكا تمثيل توني بركنز في سينما الوطن الشتوي في منتصف الستينات من القرن الماضي؟ رأيت القليل من لوحات مودلياني، حين كان لدينا في البصرة (أورزدي باك)..وكان هذا الاورزدي باك اشبه بالمول الآن، وفيه قسم يحتوي البومات متنوعة الحجم للرسامين العالميين، وكان هذا الاورزدي، خلف سينما اطلس المجاورة لسينما الرشيد ولايفصل بين السينمتين سوى محل عرضه اقل من مترين وطوله عدة امتار، مطعم سبمبوسة وباكورة وعنبة بإدارة هنود مسلمين، نطلق عليهم (البهره) وهم من الشيعة الاسماعيليين .. ويلي هذا المطعم سينما الرشيد وهي الآن محلات أزياء ....اعود الى مودلياني، اكون ثالث الأثنين : بيكاسو، مودلياني وانا..
(*)
عين الكاميرا لم تركز طويلا على اصابع التشكيلي العظيم رينواربل اكتفت بتلك الممرضة وهي تطعمه الحساء بالملعقة كما يطعم الطفل في سنواته الاولى، كانت اصابع يد رينوار محدودبة الجذور تكاد خرزات منابت الاصابع تشق الجلد المتخشب للكف.. لكن انتاجيات اصابعه وفرّت له رفاهية باذخة وشيخوخة انيقة ..لاينتظر رينوار احدا سوى ذلك الزائر الاخير..فقد اكتملت حياته بزهو فرشاته وتأرجت احلامه كلها.. لكن أي مصير ينتظر اصابع مودلياني؟ هناك اصابع لم ترد في الفلم لكن ذاكرتي رأتها في ملعب سانتياغو بعيون عمال مناجم النحاس مع ابادة سلفادور الليندي في اوائل الثلث الثالث من القرن العشرين انها اصابع عازف الغيتار مغني الثورة الشيلية فكتور جارا...
(*)
فلم مودلياني يستحق أكثر من مشاهدة فهو يتوقف عند حقبة تشكيلية صاخبة بخصوبتها، 1919 وهي السنة الاخيرة من حياة مودلياني وحياة رينوار.. استوقفتني الكاميرا وهي تصور المباني والبيوت من الخارج، كان للتصوير مذاق السرد الروائي الوجيز، ثم تنتقل لتصور الفضاء الداخلي للأمكنة.نفسها. الغيم يكتنف الفضاء من بداية الفلم حتى نهايته، لكن نوافذ المراسم وبيت راعية الثقافة آنذاك الروائية غروترود شتاين، مشرعة للنور وثمة موسيقى تصويرية نحيلة كالألم الذي ينحت بقلب عشيقة مودلياني 
(*)
لعبة الانتقال بين المكان وضديده كانت بلاغة حادة كشفرة حلاقة جديدة.. فضاء مشع بالأنارة والعطور والاناقة .. حشد نخبوي ينفلق مع دخول بيكاسو وحاشيته، جروترود شتاين وجان كوكتو وسواهما، بيكاسو الذي يملك الشهرة والمال والسيارة ويضع مسدسه بجوار كأسه دائما.. وتقتله الغيرة من موهبة مودلياني التي يعرف بيكاسو جيدا تفردها، فبيكاسو لم يهتم بالطفل الذي كانه بيكاسو نفسه، خلافا لمودلياني الذي تتقدمه طفولته في خطواته واصابعه وروحه ذات الاجنحة، هذا الطفل الذي يراه في العتمة الداخلية لشباك مرسمه، ويرى في كل امرٍ يقصده الطفل وبوظيفة قرين لمودلياني..
(*)
هم.. اعني النخبة في تلك الاضوية ومودلياني في عتمة تلك الحانة، يسقي مرض السل الذي يكابده ويسقي موهبته خمراً وقد أقتصر الفلم على لقطة عابرة حيث تفحصه الطبيبة..اقدام تهرول باللوحة، واقدام تركل وترفس مودلياني، يد تمسك حبال رفيعة لتزيح الستائر عن اللوحات..وكؤوس ترفع  في الشارع المضاء بالثلج هراوتان ترتفعان وتهبطان على جسد مودلياني..الاحتفاء الانيق الدافىء بالخمور والعطور والانوثة، عشيقة مودلياني بثوبها القطيفة الازرق، الذي انتزعه لها بعد ان كسر واجهة زجاج محل الازياء ..الحبيبة الاخيرة لمودلياني مثل جملة اعتراضية بينهم.الستائر تنزاح عن اللوحات تستوقف العيون لوحة الفنان المقيد بأربع سلاسل والمقمّط برداء الجنون السميك، فيعلو التصفيق وهي لوحة مرآوية، لكن التراسل المرآوي بين الأنا والآخر سيتجسد بلوحة بيكاسو التكعيبية فهو رأى نفسه بوجه مودلياني، وما بيكاسو سوى قناع متعدد  كما في ذلك الكرنفال الذي لم يره سوى مودلياني في احدى هلوساته  وحين ينتزع القناع من أحد الوجوه ستطالعنا وجوه مودلياني..حين يزاح الستار عن لوحة مودلياني ..يتسيد صمت متشنج..صمت متآمر ضد مودلياني، وما ان يتسعيد بيكاسو توازنه من هذه اللوحة الانطباعية حتى يعلن بيكاسو اعجابه مصفقا، فيتبعه قطيع الحضور..بإستثناء عشيقة مودلياني، فهي تثبت عينيها بعينها التي في اللوحة وتتذكر جملة مودلياني التي كان يرسمها مغمضة العينين، هاهي امام اللوحة الاولى والاخيرة لمودلياني وهو يرسمها بعينين مفتوحتين، وهاهو مودلياني قد حقق وعده لها..( حين أدخل روحك واعرفها أرسم عينيك )..
(*)
الفلم يتناول مودلياني بالمقارنة مع ضديده الاجتماعي/ والابداعي بيكاسو، وما يشوب العلاقة بين الأثنين، توحدهما لطخات الفرشاة وتفرق بينهما الامزجة/ الغيرة المهنية/ التمايز الاجتماعي..استوقفني البعد الجواني لشخصية مودلياني ذلك البعد المتماوج بين الهلوسات /البوهيمية  / الفقر النبيل الوجع الداخلي الشرس، وهنا اتساءل هل استطاعت لوحة بيكاسو والتي اسمها مودلياني المشاركة في المسابقة، ان تكشف خبايا مودلياني وتقاطعاته..؟ وكم نسبة بيكاسو نفسه في لوحته عن مودلياني؟ هل سيطر بيكاسو على مودلياني وسيقوده بيديه كما فعل مع ذلك الطفل في المقبرة الذي كان يتأمل مراسيم دفن مودلياني؟ الم تقل عشيقة مودلياني لبيكاسو بعد موته مقتولا: انك لن تتخلص من عبقرية مودلياني الى آخر يوم في حياتك...
* صحيفة طريق الشعب / 7/ 6/ 2015

مقداد مسعود

مقداد مسعود (من مواليد 15 أكتوبر 1954م البصرة، العراق)، هو شاعر وناقد عراقي بدأ النشر منتصف السبعينات من القرن العشرين ولدَ في بيتٍ فيه الكتب  أكثر من الأثاث . في طفولته كان يتأمل عميقًا أغلفة الكتب، صارت الأغلفة مراياه، فعبر إليها وتنقل بين مرايا الأغلفة، وحلمها مرارًا . في مراهقته فتنته الكتبُ فتقوس وقته على الروايات، وقادته إلى سواها من الكتب، وها هو على مشارف السبعين في ورطته مع زيت الكتب وسراجها بقناعة معرفية مطلقة

مؤلفاته
الزجاج وما يدور في فلكه
المغيب المضيء
الإذن العصية واللسان المقطوع
زهرة الرمان
من الاشرعة يتدفق النهر
القصيدة بصرة
زيادة معني العالم
شمس النارنج
حافة كوب ازرق
ما يختصره الكحل يتوسع فيه الزبيب
بصفيري اضيء الظلمة
يدي تنسى كثيرا
هدوء الفضة
ارباض
جياد من ريش نسور
الاحد الاول
قسيب
قلالي

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved