الشعر كما الموسيقى هما انعكاس للوسط الطبيعي والبشري الذي نشأ فيه، ويشكلان الجزء الأهم من النشاط الإنساني الجميل، وإن كانت الموسيقى هي الأكثر تجريدا من بين الفنون الجميلة. فمثلما اتسم الشعر الجاهلي ببساطة الأفكار ووصف الطبيعة، ورتابة الإيقاع...التي هي انعكاس لبساطة العيش في صحراء الجزيرة العربية وجِمالها، كذلك كانت الموسيقى العربية، فقد اتسمت موسيقى الجزيرة العربية بالبساطة والمد الصوتي وقلة الترجيع، وتكرار رتيب للتيمات الموسيقية، كما اتسمت الموسيقى ببساطة آلاتها كالرباب، والقصبة، والرق،،، وكان العزف مطابقا للغناء تماما وتكرارا له بما ينسجم مع الصحراء المنبسطة وسير سفنها الرتيب! وقد تمثل ذلك بالحداء والركباني - من السيكاه / الخزام- الذي ورثناه بالإسم نفسه من العصر الجاهلي وقد كان الخليفة الثاني ممن يجيد غناء هذا اللون.
مع انتشار الإسلام وامتداده في أسيا وأفريقيا حصل اختلاط للعرب بالأعاجم، بلغ أوجه في العصر العباسي مما سمح بإغناء الموسيقى العربية بموسيقى الشعوب الأخرى وبإدخال آلات موسيقية لا عهد للعرب بها قبل ذلك، وكان أكثر هذا التأثير يتأتى من الفرس والترك اللذين احتلا بغداد في العصرين البويهي والسلجوقي، وبعد سقوط بغداد على يد المغول عام 1258م (656ه)، وتكون دويلات جديدة في العراق كتعاقب دولتي الخروف الأسود والأبيض(1375-1508م) حيث دخلت مؤثرات جديدة للتركمان والأذريين. مع استمرار تناوب التاثيرين العثماني والصفوي، وهذا ما عبرت عنه الأغنية البغدادية الذائعة: "بين العجم والروم بلوه ابتلينه" والمقصود بالروم هو الترك. وكان من نتائج هذه الحقبِ المتلاحقة بعد السقوط والتي انصهرت بها الأنغام العربية بالأعجمية وأعطت أكلها لونا من الغناء هو المقام العراقي والبستة البغدادية... وهي حقب شهدت حروبا دامية، سيق بها العراقيون بالإكراه لحروب الدولة العثمانية ضد أعدائها التقليديين من الفرس والروس...ولا أظن أن "السفر بر لك" بغريب على أسماع العراقيين.
هذه العوامل والظروف هي التي طبعت المقام العراقي باللون الحزين الذي ظل محافظا عليه والذي أثر بمجمل الغناء العراقي وطبعه بطابعه المتميز وهو الحزن الجميل الصادق.. ففي أنغام المقام العراقي يتلمس المرؤ أنات الأسرى وتوقهم للعودة، ويلمس الحنين، والتوجع والتشكي، إضافة الى رشاقة الإداء في القرارات والجوابات، كما يلمس بسهولة ويسر التأثيرات الأجنبية كالترجيعات العالية التي هي نتاج الطبيعة الجبلية كما في مقامات العجم والدشت والنهاوند والأوشار والكرد والحجازكار والاورفة... على خلاف الامتدادات الصوتية التي هي نتاج الطبيعة المنبسطة والممتدة مع الأفق كما في بعض قطع الحجاز والصبا والسيكاه والبيات، كالحويزاوي والقطر، واللامي والحكيمي والجمال اضافة الى الركباني، والعتابة والسويحلي...ومن ينصت الى المقام العراقي سيستمع الى العبارات غير العربية والتي تحمل جملا نغمية معينة كمتكآت تعين مؤدي المقام على استذكار القطع وتعتبر مع التحرير والميانات علامة فارقة للمقام.
لم يكن إداء المقام بالأمر السهل، بل يتطلب دراية نظرية واسعة بالأنغام الشرقية والسلالم الموسيقة، وخبرة في تمييز القطع والأوصال، ومن الناحية العملية يتطلب مواهب فردية من صوت متكامل في المنخفضات الصوتية والطبقات العالية وليونة أو مرونة في الصوت تستوعب المسارات اللحنية لكل مقام، وجمال الصوت يعني قدرة تأثيره في السامع مع مساحة واسعة تتيح لصاحبه التحكم بالصوت في المديات المنخفضة والعالية من قرارات وجوابات مع نفس طويل يمكن صاحبه من إشباع القفلات الموسيقية ( راجع مقالة: مطرب غنى بصوته في عدة مواقع وصحف عراقية، نشرت في أحد ملاحق المدى: يوسف عمر بين التقليد والتجديد لكاتب هذه السطور).
كثيرون هم الذين أدوا المقامات العراقية، ومن هذا الكثير نجد قليلا من استطاع أن يتميز بأسلوبه كقاريء مبدع غير مقلد، من أمثال: أحمد زيدان واضع الأسس الحديثة للمقام بعد أن تميز عن استاذه الكبير رحمة الله شلتاغ، وكذلك نجم الشيخلي وخبير المقام المقرئ رشيد القندرجي الذي اشتهر بطريقة الزير في الترجيع وبأسلوبه التقليدي المحافظ، والأستاذ المجدد محمد القبانجي الذي جدد وابتدع مقامات مثل القطر وطورالحويزاوي بعد أن كان نغما محدودا يؤدى في منطقة عربستان وما جاورها من العمارة في جنوب العراق، وأدخل آلات حديثة لمصاحبة التخت الشرقي في أداء المقام بعد أن كانت الآلات مقتصرة على الجوزة والسنطور والنقارة والطبلة وهي المعروفة بالجالغي البغدادي. لقدتأثر وتتلمذ على الأستاذ القبانجي جيل من كبار القراء المتميزين مثل حسن خيوكة وعبد الرحمن خضر ويوسف عمر وشعوبي ابراهيم وناظم الغزالي وحمزة السعداوي...ومن الأصوات المميزة بجمال النبرة وحسن اختيار النصوص حتى سمي بمطرب الوقار هو المطرب الكبير حسن خيوكة الذي رحل مبكرا عام 1962 مخلفا وراءه أجمل المقامات في الرست والدشت الذي أدخل فيه الإنشاد متأثرا بسابقه القارئ الكبير يوسف الكربلائي.
أما المطرب الكبير ناظم الغزالي فقد كان صوتا جميلا لم يكن من السهل تقبل اسلوبه من قبل المحافظين من المستمعين فقد كان يترنم بالطبقات العالية من صوته فلم يمتلك قرارا يحاكي حلاوة الطبقات العالية، لذا استطاع أن يسحر المستمعين العراقيين والعرب بالجزء الأخاذ من صوته مركزا على المقامات القصيرة كالجمال والأوشار والحكيمي والمدمي والخلوتي والدشت... والتي طالما يتبعها ببستات برع في إدائها أيما براعة! متمكنا من تلافي بعض النواقص الإدائية وعدم طول النفس، برشاقة وللتدليل على قولي يمكن مقارنة إدائه مقام اللامي (أقول وقد ناحت بقربي حمامة) بإداء المطرب الكبير يوسف عمر وبنفس الكلمات! تميز المطرب الكبير ناظم الغزالي بالإضافة لحلاوة الصوت وحسن توظيف المقام لأبعاده الصوتية، تميز أيضا بحضور متميز أمام الجمهور وحسن التفاعل معه ، ومرونة الحركة على المسرح مستفيدا من دراسته للتمثيل، مع حسن هندام ملفت، حتى أن المطرب الكبير صباح فخري أشاد في أكثر من لقاء معه باسلوب ناظم الغزالي في إدائه ووقفة أمام الجمهور معترفا بأنه قد تأثر به الى حد بعيد..
لم يبرز من الجيل الحالي من المطربين الحاليين الا عدد قليل مثل المطربين الكبار: الأستاذ عامر توفيق، والأستاذ حامد السعدي والأستاذ حسين الأعظمي، بيد أنهم لم يخرجوا عن عقال التقليد إلا لماما بهذه الدرجة أو تلك... كان التميز بينهم بالصوت رئيسا دون الإداء المتقارب..فالتفرد والتميز أصبح ضروريا جدا كما أن الإجتهاد والتطوير وحسن ملاءمة الصوت للحن والكلمات مسألة ضرورية ناهيك من تقجيم المقام وفق ذوق الجمهور، أدلل على ذلك بما يأتي: كنت منشّدا ذات ليلة وأنا أقطع مسافة طويلة من النرويج الى السويد الى البرنامج الثاني لراديو الموسيقى الكلاسيكية -والذي يُعنى أيضا بموسيقى الشعوب- حين قدمت عريفة الحفل المقامَ العراقي لجمهور سويدي متمرس بايجاز مع إشادة بهذا اللون الغنائي العريق، وكنت متلهفا حقا وقلقا، ترى ماهو المقام؟ ومن يؤديه؟ وبدأ العزف وإذا بالمقام هو المخالف، وهو أكثر المقامات العراقية حزنا ويحتاج الى قرار هامس للتحرير وصوت عال رخيم شجيّ للميانة، ولو تجاوزنا العزف وضربات الطبلة العالية الى المطرب، وإذا بصوت غليظ صادح صادع يخلو من الهمس والشجن، أما الكلمات فهي: "نغم المخالف كبل لنغام اشجاني...". لم تمض على هذه الحفلة سوى أسابيع حين بث الراديو نفسه مقام راشدي وبايقاعه المعروف وهو الجورجينا لفرقة سنغالية من ثلاثة عازفين أبدعت أيما إبداع ونالت إعجاب الجمهور، وتقدم رئيس الفرقة معرفا بالغناء على أنه غناء صوفي يغنى بالمناسبات الدينية ...فشتان!
قليل جدا من المطربات من أدى المقام وأبدع به سوى أسماء لا تزيد على أصابع اليد الواحدة، وذلك لصعوبة المواءمة والإداء، فقد أبدعت الكبيرة صديقة الملاية ذات الصوت الرخيم بمقامات قليلة كالحكيمي، والبهيرزاوي، والإبراهيمي...أما سليمة مراد فقد أجادت البنجكاه، وكان صوت المطربة الكبيرة زهور حسين الساحر بترجيعاته وبحته المميزة قد أبدع بالدشت والأوشار والحجاز. أما لميعة توفيق ذات الطبقة العالية المرتجفة فلم أسمع لها غير الجمال! وإذا ذكرت الأصوات النسائية التي أدت المقام فتبرز مائدة نزهت ذات الصوت الدافىء المميز والمشحون بالعواطف الصادقة، فقد أبدعت في مقامات شرقي رست والجمال والحكيمي واللامي ومقامات أخرى ..فهي أستاذة قديرة في المقام العراقي، ولم يُدانِها صوت نسائي آخر!