تُصَدِّر مختلف دول العالم قوانينا متنوعة: منها لحماية آثارها في المتاحف ؛ ولتعمير الأمكنة التاريخية والدينية؛ ولإحكام السيطرة على المواقع الاثرية لمنع الحفريات ، خاصة غير الشرعية...
إضافة الى قوانين أخرى لتنظيم سوق بيع وشراء ونقل التحف بين أقطار العالم: فبينما أصدرت بعض البلدان قوانينا تمنع المواطنين من حيازة أي تحفة أو أثر لبلادهم يفوق عمره مائة عام، ففي بلاد أخرى يُسمح بتصدير بعض التحف بقرار رسمي خاصة اذا وُجدت منها نماذج متعددة بشرط الاحتفاظ بأفضلها داخل البلاد، وفي بلاد ثالثة يهدي رئيس الدولة تحفا من تراث وطنه وشعبه الى " أصدقائه " من رؤساء دول أخرى!
وكان لهذه القوانين أهميتها ومفعولها في الماضي، وذلك رغم وجود أساليب مضادة لاختراقها . أما في الوقت الحاضر، وبعد أن أصبحت تجارة الاعمال الفنية تحقِّق مليارات الدولارات سنويا، فقد ظهرت وسائل وطرقا شتى للتحايل على القوانين : فالسرقة من المتاحف، وخاصة في العالم الثالث مستمرة؛ وكذلك توسُّع الحفريات غير الشرعية؛ إضافة إلى ممارسة التزوير: سواء بالنسبة للمخطوطات والمنمنمات، أم التحف القديمة، أم الاعمال الفنية الحديثة والمعاصرة...
وبوجود وفرة وفيرة من المال السائب السائل في أيادي أثرياء حروب وبترودولار ومخدرات وتجسُّس ورشاوي واتجار بالبشر....فان الفن من المجالات الجذابة لغسل وتبييض الأموال الحرام؛ وفي نفس الوقت للحصول على وجاهة وشهرة يركض ورائها الفاسدون ولا يستحقونها . وقاد هذا الى عدة ظواهر منها: المبالغة في دفع أسعار عالية لاقتناء الأعمال الفنية؛ وإغراق سوق الفن العالمي بالأعمال المزوَّرة؛ واختراق قوانين الاتجار بالأنتيك. وبينما يشهد العالم منذ عقدين إنشاء العشرات من المتاحف الجديدة وحشوها بالأعمال الفنية، فان متاحف قديمة، ومنها متاحف عالمية مشهورة، مثل المتروبوليتان وسميثسونيان وغيتِّي... تشكو من وجود " تحف " مزوّرة في مجاميعها!
نَشَرَتْ( بثينة عبد الرحمن، متحف " الفن المزور " في فينا.. لوحاته تزوير في تزوير "، جريدة الشرق الأوسط 11/12/2011 ): " ...المتحف المعني، هو متحف " الفن المزور " الكائن بالمنطقة الثالثة في العاصمة النمساوية، فينا، وهو ملكية خاصة تعود للمعمارية ديانا كروب وزوجها، والطريف في الأمر أن المتحف يقع مقابلا تماما لمتحف الرسام الفنان المعماري، كذلك، هندرت فاسر المشهور بأن أعماله عصية على التزوير. "
وعلى مثال الممتلكات الثقافية العربية والاسلامية، فإنها تُسرق وتُهرَّب إلى مراكز إقليمية، مثل دبي وعمّان وبيروت وبشاور... ومنها الى أسواق الانتيك العالمية، مثل لندن وباريس ونيويورك وزيوريخ وفرانكفورت وطوكيو... ليحطّ رحالها في متاحف الغرب واليابان وفي المجموعات الخاصة هناك، وفي غيرها من بلدان، وذلك من خلال التجار ودور المزاد .
حتى ان كثرة مايُنهب من آثار وتحف وأعمال فنية من بلدان المسلمين والذي يُغرق أسواق الأنتيك في العالم، يجعل من القوانين مجرد حبر على ورق . فاذا كان الغزاة والعصابات والمافيات الدولية قادرة على غزو البلدان ونهب متاحفها ومواقعها الأثرية، فهل يتعذّر عليها استصدار وثائق مزوّرة لما يُنهب ويُغتصب ويُهرّب ويُسرّب؟ حالها في ذلك حال تأليف القصص الخيالية وصناعة الأكاذيب الدولية التي تُستخدم حججاً ومعابر لغزو البلدان وإبادة الشعوب ونهب مواردها الطبيعية وممتلكاتها الثقافية كما حصل في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا ومالي... والقائمة مفتوحة .
كتب ( رالف بلومنثال، هواة اقتناء القطع الأثرية تصيبهم لعنة الآثار المنهوبة، جريدة الشرق الأوسط، 21 يوليو 2012 ) : " لم تعد المتاحف تقبل قطعا أثرية ليس لها تاريخ موثق يرجع الى ماقبل 1970. وهو التاريخ الذي حددته جمعية مديري متاحف الفنون.... ولكن ترك هذا التحول الكبير في المواقف هواة الاقتناء متورطين في أشياء يقولون: إنهم اشتروها بحسن نية منذ عدة سنوات من تجار ذوي سمعة طيبة. وكشفت إحدى الدراسات أن نحو 000 100 قطعة أثرية إغريقية ورومانية يملكها أفراد في الولايات المتحدة لن تتمكن من الوصول الى معظم المتاحف."
وحتى القوانين الصارمة التي تصدِّرها اليونسكو، ودول البلدان الغنية بالاثار، مثل ايطاليا واليونان ومصر والعراق، وكذلك مايُسنُّ في أوربا من قوانين، مثل القانون البريطاني: Dealing in Cultural Objects – 2003 ) ) الذي صدر بعد غزو العراق، والذي يؤكد على ضرورة تأصيل مايُعرض في أسواق الأنتيك للبيع : على ان لايكون مسروقا و/ أو مهرَّبا، وعلى وجوب إثبات أصل التحفة قيد الاتّجار... فان هذه القوانين تُخْتَرَق بدورها، وذلك بتزوير المستندات، واختلاق القصص التي تُزيِّف حقائق حركة التحفة ومُلكيتها...
ومن أمثلة ذلك ما كنتُ شاهداً عليه : فنتيجة لنهب الممتلكات الثقافية العراقية، ومنها خزائن الأضرحة، خاصة إبان حروب صدام حسين العدوانية ضد بلدان وشعوب العراق و إيران والكويت والسعودية، فقد تسرَّبت الى الخارج كميات ضخمة من الأعمال الفنية؛ وقد عُرض عليَّ في لندن ثلاث تحف فضية، مما يزيِّن رؤوس البيارق التي تُحمَل في مواكب عاشوراء، كما في العراق وايران والهند وباكستان... قيل انها كانت في ضريح موسى الكاظم في بغداد، فرفضتُ شراؤها. وبعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، الذي شهد الدمار والتخريب والنهيبة البربرية الكبرى للممتلكات الثقافية العراقية، التقيتُ في أحد دكاكين الأنتيك الأوربية بتاجر كان يعرض تمثالا صغيرا لرأس سومري وجههُ من العاج وشَعْرُه من الفضة، وطبعاً رفضتُ شراؤه كذلك. ويزورني أحيانا بعض جامعي وتجار الأنتيك لمساعدتهم في التعرّف على مالديهم من تحف. وكان لدى أحدهم تحفة عربية من اليمن تعود لما قبل الاسلام، مصنوعة من النحاس المطعم بالفضة. وعندما رَفَضَتْ دور المزاد في لندن تثمينها بما يرضي مالكها، وذلك لعدم معرفتهم بها، فقد أخذها صاحبها وسافر بها الى باريس وعرضها هناك في واحد من أهم وأكبر وأشهر دور المزاد الفرنسية والعالمية، الذي وضع صورة لهذه التحفة في دليل المزاد، وباعها!
وأذكرُ أني تحدّثتُ مع رئيس أحد أهم الوفود في مؤتمر عالمي خاص بحماية الممتلكات الثقافية للبلدان المتضرّرة من الحروب مُذَكِّراً إياه بالنهيبة التاريخية المخزية والشنيعة التي حصلت في العراق بعد غزوه عام 2003، وما يُعْرض من آثاره وتحفه للبيع على صفحات أدلّة دور المزادات العالمية، بينما لم يتم التطرق بالإسم لهذه الجريمة خلال أعمال المؤتمر؟ فأجابني: إننا بصدد إصدار قانون بذلك!
أما مندوب إحدى الدول العظمى ومدير أحد أهم وأكبر متاحف العالم الذي كان جالساً في منصّة رئاسة المؤتمر فقد وجّه نفس السؤال علناً في اليوم الثالث للمؤتمر وأثناء الجلسة الأخيرة، ولكن أحدا لم يجبه على سؤاله!
وتساهم في القفز فوق القوانين وتسريب التحف إلى الخارج قوى مافيا الفن، الباحثة عن الارباح المذهلة والسريعة والسريّة: وهي عصابات من التجار، ودور المزاد، وشهود الزور، والمحامين " الاكفاء الماهرين "، ونفر من الكادر الوظيفي في بعض المتاحف ومؤسسات الاثار ودوائر الجمارك، وحرّاس المواقع الاثرية والمساجد والأديرة والكنائس...
وتتكشّف بعض الحالات لتهز مزادات بيع الأنتيك والمتاحف وأثرياء الجامعين، فتُحدِثُ أصداءً مدويّة في العالم. ومن ذلك ماذكرته ( مجلة العالم، لندن، العدد 558، 1 /مارس 1997 ): أنه قد اثيرت في بريطانيا فضائح عن سوق " اللوحات الفنية حيث نشر بيتر واطسن كتابا بعنوان " سوذبي القصة من الداخل " كشف فيه تورّط موظفي مزاد سوذبي الشهير في وسط لندن في أعمال تهريب اللوحات من دول أوربية أخرى أو اخراجها بصورة غير شرعية من البلدان الاخرى " ... " وقد أثيرت الفضيحة عندما أثبت برنامج تلفزيوني وثائقي ان موظفا صغيرا في سوذبي قد ساعد امرأة ايطالية على اخراج قطعة فنية مهمة من ايطاليا بصورة غير شرعية الصيف الماضي وان موظفا اكبر مكانة منه قد باعها في المزاد وهو على علم بانها لم تأت الى المزاد بصورة شرعية. وقال البرنامج ان موظفي سوذبي يطوفون الهند دائما للبحث عن أثر نفيس يخرجونه من هناك بالرغم من المنع القانوني الموضوع على مثل هذه التحف. "
كما كتب ( أحمد كمال حمدي، تاجر هولندي يدوّن اعترافاته في كتاب " فن ساخن وأموال باردة "، خبراء التحف يعملون لصالح المافيا، جريدة الشرق الاوسط، العدد 5624، في 22/04/1994 ) قائلا: " احدث الكتاب الذي نشره تاجر التحف والآثار والاعمال الفنية الهولندي ميشيل فان راين، حول خفايا هذه التجارة وعلاقاتها المشبوهة والمتشابكة مع عصابات تهريب القطع الاثرية والفنية والمافيا الدولية، ضجة كبيرة في الاوساط الفنية والثقافية والمالية في معظم دول اوربا الغربية، وخاصة في المانيا التي تعتبر اكبر سوق لتجارة هذه الاعمال الفنية والتعامل بها في العالم.
ويلقي هذا الكتاب الذي يحمل عنوان " فن ساخن وأموال باردة " الذي ظهر باللغة الهولندية وترجم فورا الى اللغتين الانكليزية والالمانية، ضوء على اسواق التعامل بالقطع الفنية والتحف والآثار، وما يسودها من أعمال خارجة عن القانون تشمل السرقة والتزوير والتهريب وغسل الاموال والملايين التي تحققها هذه التجارة التي تدخل الجريمة فيها وتتشابك مع معظم الخطوات التي تسير عليها وتجري فيها، وعصابات المافيا والجريمة التي تجد في هذه التجارة " الفنية " سوقا واسعة مغرية، ومصدرا كبيرا ل" الاموال السوداء " متحدية بذلك الدول والحكومات وسلطات الامن ودوائر الضرائب ومكاتب التحقيق والبحث عن الاعمال الفنية المسروقة ومصادر الاموال المشبوهة .
ويرى هذا الكتاب الذي يتصدر في هذه الآونة واجهات المكتبات في المانيا، ويحظى على اهتمام واسع من قبل وسائل الاعلام الالمانية والاوربية، كيف استطاع الكاتب فان راين، بالتعاون مع مجموعات المافيا في أوربا والولايات المتحدة، العمل على تهريب آلاف القطع الاثرية والاعمال الفنية والايقونات النادرة من روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة بعد انهيار نظامها السابق، وكذلك الاموال والرشاوى الكبيرة التي دفعها الى عدد كبير من المسؤولين في دول أوربا الشرقية، للتسلل الى المتاحف ومراكز المجموعة الفنية والاثرية، والاستيلاء على بعضها وتهريبها عبر الحدود....ويكشف فان راين في كتابه قصصا عن تنافسه الشديد مع مكاتب بيع التحف والآثار والقطع الفنية في مختلف أنحاء العالم، وفي مقدمتها دار سوذبي البريطانية في لندن، للحصول على التحف والآثار وبيعها، مشيرا الى قصة طريفة جرت مع هذه الدار البريطانية العريقة، عندما اتفق مع شخص يوناني اشتهر بتزوير التحف وكلفه تزوير قطعة أثرية مصنوعة من الذهب والفضة، كلف دار سوذبي ببيعها على حسابه التي خدعت في حقيقة هذه القطعة الفنية وقامت بحملة دعائية واسعة لها..وقبل موعد المزاد العلني الذي خصص لبيع القطعة فجّر فان راين قنبلته الانتقامية ضد الدار البريطاني معلنا بان القطعة مزورة وليس لها أي قيمة، سوى معدن الذهب والفضة الذي يستخدم فيها.
ويعترف الكاتب بأساليبه غير القانونية وتجاوزاته العديدة للقوانين المحلية والدولية، ولكنه يؤكد بان تجار التحف في العالم ليسوا أفضل منه، وان دور المزادات العلنية ومكاتب بيع التحف أقرب الى منظمات المافيا الدولية وهي على استعداد لبيع أي شيء مقابل تحقيق الكسب المادي.
ويقول ان معظم خبراء فحص التحف في العالم يعملون لحساب مافيا التحف والقطع الفنية لكتابة تقارير مزورة عن القطع واللوحات والتحف التي تعرض عليهم لفحصها، بل ان بعضهم يتقاضى رواتب من القائمين على المكاتب والمؤسسات التي تديرها هذه المافيا. "
وكتبت
Laura Gilbert, Collector says Sotheby’s sold him Nazi art, Uncertainty over whether the work – once owned by Goering – was looted has apparently left unsalable, The Art Newspaper, Section 2, No. 246, May 2013
أما عن العلاقة بين الفن والضرائب والقوانين، فاذا كانت فضائح التهرّب من الضرائب تطال مقاهي Starbucks ومؤسسات مثل Amazon و Google
فقد كتبت
Riah Pryor, Art Markets & America, Court rules auction houses should be more transparent, New York’s auctioneers try to preserve consignors’ anonymity as demand for openness grows, The Art Newspaper, No 241, December 2012
هذا في الولايات المتحدة حيث لايعرف الجمهور عادة مَنْ البائع وأحيانا مَنْ المشتري، إذ يفضل كلاهما، وكذلك دار المزاد، التحفُّظ على ذكر الأسماء. بينما يجب ذكر أسماء البائع والمشتري في عقد البيع والشراء الطبيعي، مما يحفظ أصالة المُلكية، وتجنُّب التزوير، وتحاشي عمليات تبييض الأموال.
وبذلك فانه ليس بالضرورة ان يردع القانون أي من أطياف وأطراف مافيا تجارة الأنتيك. فالقائمة مفتوحة، والقوانين منتهكة، والتحف منهوبة، والمواقع الأثرية مُخَرّبة، ومعارفها ضائعة، والجريمة مستمرة ومكشوفة... فلا أحد يعرف بعد، مثلا ماتمّ نهبه من آثار وتحف مصرية خلال النهضة الشعبية منذ يناير 2011. ولا من سورية أو مالي....
وكذلك ماذكرته وسائل الإعلام العربية والعالمية مثل جريدة الشرق الأوسط، و " الفيجارو " الفرنسية ، وال " سي.أن. أن " الأمريكية، و " جريدة الفنون " البريطانية، عن سرقة الممتلكات الثقافية الليبية إبّان الصراع الذي دار على مدى عدة أشهر من عام 2011، منها تماثيل ، ومجوهرات ، وميداليات ، و " كنز بنغازي " الذي يضم 7700 قطعة من المسكوكات الأثرية الذهبية والفضية واالبرونزية التي تعود الى العصور اليونانية والرومانية والإسلامية. كما تَحَدَّثَتْ الصحافة الفنية العالمية عن التمثال المرمري الروماني الذي سُرِقَ من متحف صبراتة ، الى الغرب من ليبيا، والذي تمَّ بيعه في مزاد كريستيز يوم 14/04/2011
The Art Newspaper, No.29, November 2011 P. 9
ولا تزال قائمة تدمير وتخريب ونهب وتسريب وتداول الممتلكات الثقافية العربية والاسلامية مفتوحة على مصراعيها: من أفغانستان وآسيا الوسطى الى العراق وسورية نحو مصر وليبيا ومالي... حيث يتعرّض تراث الشعوب الى أشكال متنوعة من الأضرار نتيجة النهب والتخريب والتدمير والتهريب في مربع: الغازي والحرامي والتاجر والشاري. ولم ينفع في ردع هذه الجرائم لا القوانين المحلية ولا الإتفاقيات الدولية وضوابطها الواضحة التي تحدِّد بيع وشراء وتصدير واستيراد الأعمال الفنية؛ وذلك رغم اختلاف أنظمتها بين دولة وأخرى، مثل الولايات المتحدة وكندا والإتحاد الأوربي وسويسرا وبريطانيا وروسيا وتايوان واليابان والصين... ( راجع بهذا الصدد:
The Art Newspaper, No. 172, September 2006
www.al-jadir-collect.org.uk
jadir959@yahoo.co.uk