وردني من قارئة وقارىء سؤالان أحسبهما مترابطين: لما كانت منطقة الهدنة منزوعة السلاح فكيف تحدث المناوشات المسلحة؟ والثاني: هل هناك مناوشات خارج هذه المنطقة؟
والسؤالان ورداني على مدونتي في البريد الخاص. ويبدو أن السائلين أرادا مشكورين أن يدفعا عني الحرج فيما إذا لم أحر جواباً..
المنطقة المنزوعة فيها حراس مسلحون بأسلحة خفيفة من الجانبين متفق على عددهم وفيها عدد من المراقبين الدوليين المسلحين أيضاً، وخلف الشريط الحدودي هذا تكمن الأسلحة الثقيلة، والخطر كل الخطر أن تحدث حركة غامضة أو نأمة عفوية يمكن أن تؤدي إلى اشتباك كما ذكرت في السابق.
وأجيب على السؤالين باختصار شديد على أمل أن أتطرق للعلاقة بين الكوريتين بشيء من الاستفاضة في مدها وجزرها..
لعل أجرأ عملية تلك التي نفذها واحد وثلاثون من رجال الكومندوز الشماليين، استطاعوا اختراق الشريط المنزوع من السلاح وعبور نهرامجين في فجر يوم17/1/ 1968 والوصول الى القصر الرئاسي في سيؤل المعروف بالقصر الأزرق لاغتيال الرئيس يوم 21 وقد فشلت العملية وتركت آثاراً خطيرة في مسار العلاقة بين البلدين، وتُعد هذه واحدة من أكثر العمليات إثارة ودقة.. وإسقاط الطائرة الجنوبية في عام 1987 هي الأخرى من أكثر العمليات الكارثية في العلاقة المتوترة بين الكوريتين.. أما قصف البارجة الجنوبية تشيونان في 26 مارس 2010 فهو يشكل نقلة نوعية خطيرة حين تعرضت في البحر الأصفر الى قصف بطوربيد أصاب مؤخرتها وأغرقها وعلى متنها 104 بحار من طاقمها تم إنقاذ 58 منهم، وقد "أثبتت" لجنة تحقيق عالمية بمسؤولية كوريا الشمالية، التي أنكرت أن يكون لها علاقة بالحدث! لقد نسف هذا الحدث كل الجهود السلمية والعلاقات التجارية، والدبلوماسية بل والأهم نسف اتفاقية عدم الاعتداء.هذه مجرد عيّنات مختصرة.. أما نشاط السي آي اي في تأجيج الصراع وجعل العلاقة متوترة أو القيام بعمليات سريّة متقنة لرمي التهمة على كوريا الشمالية، فهو موضوع واسع بحد ذاته..
هذا م ا تبقى من القطار!
ولا يسعني الحال لأتكلم عن حروب من نمط آخر بين الكوريتين، فضيلتها أنها غير دموية من قبيل حرب الرياضة وحرب الأعلام (بفتح الهمزة) فهي حروب لا تعدم طرافة، شأنها شأن حرب الاستعراض بين شطري إقليم البنجاب على الحدود الهندية الباكستانية ففيها من المضحكات والغرائب من الجانبين ما يُضحك الثكلى حين تفتح البوابات للنظارة وتبدأ الهتافات والرقص والغناء بحماسة تقترب من الهستيريا وحين تكون مندهشاً مما ترى ستتلقى ممن جاورك سؤالاً محرجاً: سيدي إلى أي الجانبين تميل؟!!
***
هذا هو مطار أنتشون، بدا من الجو مذهلا ، يتربع على جزيرة اصطنعت من جزيرتين، فهو محاط بالمياه تربطه بالبر الكوري جسور أحدها اطول جسر في آسيا، أنشأ المطار ودُشِّن عام 2001، ليصبح منذ عام 2005 من أكبر المطارات في العالم ويحوز على المرتبة الأولى من حيث الازدحام وحسن التسيير والنظافة وما احتواه من حدائق داخلية وملعب غولف وكازينو ومستشفى ومتحف كوريا الثقافي وغرف مخصصة للنوم ناهيك عن المطاعم والمقاهي الباذخة والسوق الحر الذي هو الأكبر طُرّاً في العالم..والأهم أن المطار مربوط بشبكة مواصلات سريعة مع كل بقعة في البلد بمختلف وسائل المواصلات من حافلات وتاكسيات ومترو وقطار سريع وقطار عاديّ، حيث زمن الوصول بالقطار السريع الى مركز سيؤل 45 دقيقة والعادي 55 دقيقة..
أما أن يكون الأسرع في الإجراءات ( 12 دقيقة للوصول و19 دقيقة للمغادرة) وفق بيانات المطار، فهو أمر مشكوك فيه، فمنذ أن حطت طائرتنا القادمة من هانوي حتى عبور مكاتب الهجرة استغرق 70 دقيقة! وهو زمن يفوق مطار بانغكوك (45دقيقة ومطار طوكيو ناريتا 40 دقيقة) أما المغادرة فكانت 30 دقيقة!! ولئن قيل أن أي مطار هو بوابة البلد، وصورتها المصغرة عنه، حتى وإن مرّ المسافر عابراً ( ترانزيت) من خلاله، فهذا ينطبق على مطار أنتشون الذي يعكس صورة صادقة عن تطور كوريا الجنوبية السريع المدهش!
***
منذ غادرنا المطار عبر جزيرة أنتشون بدا كل شيء حديثا جميلاً منظماً، جسور وطرقات وملاعب وعمارات وشوارع أنيقة ونسبة الاخضرار عالية بفضل الحدائق، والفصل ربيع الجو معتدل، المرور ينساب بدون عقد مرورية كنت وحدي في الحافلة حتى نهاية الخط حيث أكملت المسافة الى فندقي بتكسي الى حيث أقيم.
من الملاحظات الهامة في اختيار الفندق في العواصم الآسيوية - خصوصاً- أن يكون في مركز المدينة، لأنه سيوفر النقل ويتحاشى العقد المرورية إن لم يتوفر المترو، ثم سيوفر رياضة المشي الى معالم المدينة وأسواقها ومطاعمها وخاصة الشعبية ما يتيح التعرف الى وضع البلد الثقافي والاقتصادي والاجتماعي..ناهيك أنه يوفر مبالغ غير قليلة تصرف للمواصلات..
وسيؤل ( وتلفظ بالكورية سُول) هي مدينة الأسوار وأهمها طرّاً سور سيؤل الكبير، وهي مدينة القصور الملكية والحدائق والأسواق التقليدية والأسواق الحديثة وأهمها وأكبرها مول لوته، وهي مدينة مركز التسوق، أما الحدائق فنصيب هذه المدينة التي غزتها الأبراج العالية نصيبها من الاخضرار واسع بفعل باركاتها الكبيرة المحافظة على النمط التقليدي الكوري المستمد من حدائق القصور الملكية، وهي المدينة التي غزتها الحضارة ومعطياتها على حين غرّة فتوسعت وجلبت من أبناء الريف الى المدن، فعلى الرغم من الثورة التكنولوجية التي عمّت البلد فإنك تلمس لدى الكوريين التواضع والطيبة الريفية والكرم رغم حاجز اللغة فقليل من يتكلم لغة أجنبية حية بل حتى قطاع السياحة ذا الخدمات الممتازة قلّ من يتكلم فيه الانكليزية!
جانب من حي ميونغ دونغ
تُعد مدينة سيؤل مدينة نموذجية لمن يتخذ من قدميه مركباً! لتنظيم مسالك المُشاة ومناطق عبور آمنة من أنفاق، والأنفاق هي وحدها مدينة مزدهرة تحت الأرض، لا تتعب الماشي قط لتوفر المصاعد والسلالم المتحركة، التمشي متعة كبيرة وأهم المناطق هو بارك نامسان وحديقته النباتية، وبرج مدينة سيؤول العملاق، معظم الأشجار والأزهار تحمل الأسم المرجعي العلمي (واضعه العالم السويدي كارل فون ليننيه) إضافة إلى الإسم الشائع..ويمكن النزول من البارك الذي يتبوأ تله نامسان (300م ارتفاعها) واسعة الى حي ميونغ دونغ الجميل بشوارعه وأسواقه وأشهرها سوق سامدمونغ هذه المنطقة لا تهجع ليلاً ولا تستكين نهاراً، بمطاعمها ومشاربها وما إلى ذلك من وسائل اللهو والمتعة البريء منها وغير البريء، هذا الحي لا تدخلة المركبات فهو مخصص للمشاة ...
من يتوق الى الطعام الشرقي ( الحلال) فعليه بحي إيته ون ، الذي يحتوي على الجامع الوحيد الذي أُنشىء في بداية الستينات، وهو بناء كبير على مرتفع اشتهر ببوابته المقوسة الواسعة ..وكان مسؤول الاستعلامات رجل كوري قال جواباً على سؤالي عن عدد المسلمين الكوريين: عددهم أكثر من خمسة آلاف مسلم وجلهم من الكوريين المتحولين! الذي أعجبني أن المسجد يستقبل طلاب وطالبات من كوريا وخارجها ولا يلزمهن بالحجاب! وقد شهدت نقاشاً بين الطلبة وبين شاب مسلم يجيبهن على اسئلتهن وقد اعطاهن ما يلزم من الكراريس باللغة الكورية! ثم راح الطلبة يجولون في أنحاء المسجد ويلقون التحية الإسلامية على كل من يقابلون... ولقد لاحظت وغيري أن المطاعم الإسلامية عموما غالية وأحسنها وأكثرها اعتدالاً هو "مطعم زعفران" الذي يقدم الأطباق العربية من المنسف حتى الكبسة!! وفي شارع المسجد تجد أيضاً مشارب ومراقص وما إلى ذلك، ويبدو أن أبناء العُرب لا ينسون نصيبهم من الدنيا!
وأنت نازل من إته ون نحو محطة سامغاكجي ستمر على نصب الحرب الكورية بمقابل وزارة الدفاع حيث هناك المُتحف الحربي، وقد اصابتني الدهشة حين عرفت أن كوريا كانت تصنع المُعَدات العسكرية المتطورة بما فيها الطائرات منذ الخمسينات!
ما يلفت النظر هو العدد الملحوظ للكنائس وأهمها كاتدرائية سيؤول، أما المعابد -البوذية والشامانية - فهي تقع فوق الجبال وحول مدينة سيؤول باستثناء معابد القصور الملكية معبد يوغييسا في وسط Jogyesa Temple البوذية، والمعبد التاريخي الكبير والوحيد مدينة سيؤول وفي الحي الشهير جونغنوغو المزدحم بالجامعات والأسواق. وهو من أقدم المعابد التي تعكس ثقافة الزن البوذيين، المعبد مبهج حقاً وخاصة في بالوناته الملونة وتماثيل بوذا الذهبية في جلساته التأملية المتعددة، ويستقبل الزائر بكأس من الشاي الكوري ذي النكهة والعبق المميزين..
القصور الملكية الستة، هي كنوز مدينة سيؤول التي تتباهى بها بين كل العواصم الآسيوية ، ففي سيؤول وحدها هناك خمسة قصور ملكية تعكس مراحل العوائل الملكية لاسيّما مملكة جوسون حين قسِّمت العائلة لى عدة عوائل متخاصمة فبنت كل عائلة لنفسها قصرا مميزاً، والسبب الرئيس للإنقسام والتنافس هو أن الملوك كانوا يتزوجون أكثر من زوجة ويتخذون أكثر من مَحظيّة!! تماماً مثل خلفائنا العباسيين الذين زادوا على الزوجات بما ملكت أيمانهم من الجواري الفارسيات والتركيات والخلاسيات ووو..
لخصوصية معمارها وتنوعه بشكل هارموني وقيمه التي تعكس معتقدات المرحلة التي بني فيها، زد على ذلك حدائقها المحفوظة بأشجارها المعمرة وزهورها وبركها، والديكورات الأبواب واللوحات الثمينة على الجدران والسقوف والأشعار التي سجلت عليها وبعضها بخطوط الملوك الشعراء أنفسهم، ما أكسب هذه القصور أهمية ثقافية وتدوينية إضافة للفنون المعمارية والتشكيلية وكذلك الأثاث الذي سلم وحفظ وكان خير شاهد على ثقافة تلك المراحل..سأتوقف مع أهم قصرين، وهما : قصر غيونغبوك Geongbok Palace وهو أكبر القصور وأهمها، بني في بداية حكم عائلة جوسن حين أصبحت سيؤول هي العاصمة، حيث بني في وسطها عام 1394، يتميز ببوابته العملاقة الجمية ويضم هذا القصر 200 بناية تحتلف كل احدة عن الأخرى ما يشكل لوحة هارمونية متنوعة، فالبناية الكبري هي مقر الملك، وبناية التشريفات ، وبناية مخصصة للديوان الملكي وبناية للحرس، وبناية لكل زوجة فيه حدائق واسعة وبركة، شيد في وسطها قصر ترفيهي للضيوف وبناية خاصة لعلماء الفلك.. والملفت أن في كل بوابة
بوابة قصر جيونغ بوك
هناك بوابة خاصة للأشباح والجن لا يجتازها الأنس لكي لا يصطدموا بالجن! أما بلاط القصر فشيد من أحجار لاتعكس اشعة الشمس كي لا تزعج ساكنيه. جناح من القصر استغل كمتحف للثقافة الكورية..
ولا بد من الإشارة إلى أن هذا القصر قد دُمّر من قبل الغزاة اليابانيين عام1592..وقد أعيد بناؤه عام 1865 وفق أسس البناء الأصلية، ثم دمرت بناياته المائتان عندما ألحِقت كوريا باليابان! ثم رمم من جديد بعد الحرب العالمية الثانية، فهو ذو سبعة أرواح!!
قصر تشانغ ديوك Changdeok Palace وهذا القصر المحفوظ من قبل اليونسكو للتراث العالمي، هو خير ممثل لحقبة سلالة جوسيون الملكية (1392-1897)، يقع شرق قصر جيونغبوك ببضعة مئات من الأمتار، وهو وإن كان أصغر من الأول إلا أنه أكثر عكسا لثقافة عصره من ناحية المعمار والحديقة المشهورة "الحديقة السرية" ذات المداخل والممرات المدهشة والتي تحتوي أشجاراً ونباتات نادرة يبلغ عمرها عدة قرون!، وأهم ما فيه مقتنيات الملوك وكتبهم وأشعارهم لا سيما الملك الشاعرإيشان Iysan حيث لا زالت بعض قصائده معلقة بخط يده بالخط المتداول الى اليوم وأعني به خط الهنغول..الحديث عن هذا القصر التاريخي يطول فهو يحظى بأهمية متفردة.. وقد عانى ها القصر الخراب نفسه لعدة مرات خلال مراحل الغزو الياباني ولم يسلم منه إلا 30% قبل أن يعاد بناؤه..
وأخيرأ لا بد من التنويه بقلعة هواسيونغ العملاقة والتي بمثابة مدينة سيؤل الجنوبية وقد سوًرت بأسوار، نظراً لما عانته هذه المدينة من الغزاة، شُيّدت عام 1796 واستخدم في تشييدها تقنيات حديثة من رافعات وعتلات؛ ونظراً لكونها واسعة فيمكن المرور على أهم أسوارها وأبراجها بمقطورة سياحية مكشوفة، وللأسف لم يتوفر دليل يتكلم الإنكليزية، وإنما سيجود عليك من يجاورك الذي يلم بالإنكليزية بعض الإلمام بشيء من معلومات الدليل!
لقد ركّزت على أهم العيّنات التأريخية والثقافية في سيؤل ونأيت عن الجوانب الترفيهية وما أكثرها!