المعلومات الكاملة:
الآن.. تعمل إسرائيل على استجلاب مليون مهاجر جديد من اليهود. وهكذا بدا التاريخ الذي أقحمته الصهيونية على منطقتنا العربية وعلى فلسطين وكأنه يعيد نفسه..من إقامة "دولة يهودية"في القرن العشرين إلى "الحفاظ على يهودية الدولة" في القرن الحادي والعشرين.
و كنا قد شهدنا في القرن العشرين تحولات غير متصورة في الجغرافيا السياسية والسكانية..تحولات تتطلب مرور قرون عديدة..وبخاصة في منطقة يحسب تاريخها بآلاف السنين. فحتى الغزوات الصليبية، التي استمرت لنحو قرنين من زمان العصور الوسطي، لم تنجح في إحلال شعوب محل أخرى، أو في أن تقطع التواصل التاريخي للبشر في جغرافيا الشام ومصر، بما في ذلك فلسطين والقدس.
فقط بضع عشرات السنين بين القرنين التاسع عشر والعشرين، من الغزو والاستعمار البريطاني والفرنسي و الصهيوني، هي التي خلفت انقلابا غير متصور بحساب الجغرافيا والتاريخ، وذلك لاعتبارات عديدة تتعلق بالزمن الوجيز لحدوثه ولطبيعة المكان الذي وقع فيه بأبعاده التاريخية والحضارية.
إلا أنه انقلاب يقع في منزلة وسطي بين الاستيطان الأوروبي للأمريكتين وأستراليا (ما يسمي بالعالم الجديد) وما انتهى إليه من استئصال أهلها وشعوبها..وبين الاستيطان الأوروبي في الجزائر وجنوب أفريقيا والذي أخفق في استئصال الشعوب وانتهي إلى الرحيل بمستوطنيه الفرنسيين في الحالة الأولى أو الإقرار بحقوق وسيادة شعوب البلاد التي ظلت لها الأغلبية (الأفارقة) مع الحفاظ على وجود الأقلية البيضاء من أحفاد المستعمرين "البوير" والبريطانيين بوصفهم مواطنين على قدم المساواة في دولة ديموقراطية.. وهذا ما يجري في الحالة الثانية.
في فلسطين..كان يهود البلاد لا يتجاوز عددهم العشرين ألفا قبل سنوات معدودة من أولى موجات المستوطنين الصهاينة القادمة من أوروبا بحلول عام 1882 وفي ركاب احتلال بلادنا العربية.وكان هؤلاء اليهود الفلسطينيون يشكلون نسبة تقل عن الأربعة في المائة من إجمالي السكان العرب مسلمين و مسيحيين ودروز. وعقب قيام إسرائيل في 1948، كانت نسبة اليهود قد قفزت إلى 90 في المائة فوق الأرض التي احتلتها وطردت أهلها.ومع مطلع القرن الحادي والعشرين عادت نسبة اليهود إلى الانخفاض إلى نحو80 في المائة أمام النمو الديموغرافي للفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 48، وهبطت إلى ما يقارب النصف بإضافة الضفة وغزة والقدس الشرقية.وبينما ينتظر نحو خمسة ملايين لاجئ فلسطيني ممارسة حقهم في العودة إلى ديارهم، كانت إسرائيل قد استجلبت نحو المليون مهاجر من جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق خلال العقد الأخير من القرن العشرين. وبدأت في حملتها الجديدة لاستجلاب مليون آخر، مسكونة بمخاوف ما أسمته " القنبلة السكانية الفلسطينية"..أي النمو الطبيعي بفضل ارتفاع معدلات الخصوبة بين الفلسطينيين سواء في الأراضي المحتلة عام 48 أو 1967.
هكذا جاء الانقلاب الديموغرافي الصهيوني على حساب فلسطين سريعاً وحاداً، لكنه مزعزع. ويراوح الانقلاب المستمر صعودا وهبوطا، و دون بلوغ حسم مصيره بين حد الاستيطان الاستئصالي للأمريكتين وأستراليا.. والحد الآخر لاستيطان جنوب أفريقيا و الجزائر.
لم يكن ما سبق إلا مقدمة لحديث عن التاريخ والجغرافية والسياسة.. وإن كان تاريخاً حديثاً وراهناً، و كانت هذه الجغرافيا سياسية وسكانية سريعة التقلب.وكلاهما - التاريخ والجغرافيا - لا يزالان دون بلوغ نهاية الشوط.
ولذا..فإن حديث السياسة المنزوعة من سياقاتها التاريخية والجغرافية - و المقصود الحديث عن "تسوية تاريخية" أو "اتفاقات سلام" تنهي الصراع - يبدو أمراً بالغ البؤس وممعناً في السطحية والخداع، خصوصا إذا تجاهل الأبعاد الديموغرافية والأيديولوجية الصهيونية.
وربما كانت فكرة هذا الكتاب قد ولدت في اللاوعي عندما تجسد أمامي - خلال تغطيات صحفية وندوات أكاديمية وفي لقاءات مع مسئولين فلسطينيين وعرب وبفضل آليات الرقابة في المؤسسات الإعلامية - جدار الصمت وهو يرتفع حول التاريخ الحي والجغرافيا الحية.. وإجمالاً حول البشر الأحياء في واقعهم ومصائرهم..وحول العقل، فيحجب الحقائق والوقائع، ويفرض الرؤى الجزئية، ويهدر أبعادا أساسية، وحتى تتعذر أية نظرة شاملة. وهكذا كان إخفاء كلمة "الصهيونية" مطلوبا على مدي ربع قرن، وفي محاولة دءوب للفصل بين حاضر "تسوية النزاع" وبين تاريخ و أبعاد "الصراع".
أليس لوناً من "العمي" بالغ الغرابة أن تسمح حكومات عربية في الأمم المتحدة عام 1991 بإلغاء قرار الجمعية العامة بوصم الصهيونية بالعنصرية، و تظل توعز إلى "قادة قطيع العميان" في بلادها بمهمة الفصل المطلوب بين الصهيونية وبين إسرائيل، وبالتالي "تحرير" شعوبها من الماضي الحي، بينما كان قادة إسرائيل والمعول عليهم إنجاز التسوية التاريخية لا يتخلون أبدا عن إعلان الولاء و الالتزام بالصهيونية عقيدة وممارسة، كما فعل "إيهود باراك" لدي تشكيل حكومة "الرهان العربي على قرب التسوية" في مايو 1999.!
هكذا حالنا..بينما كانت إسرائيل تخطط ليل نهار لكيفية مواجهة الزيادة السكانية للفلسطينيين وتضع الخطوط العريضة لجلب مليون يهودي جديد. وفقط نذكر هنا أن نحو مليون مهاجر صهيوني جاءوا إلى فلسطين في السنوات العشر التالية لمؤتمر مدريد ولإلغاء قرار عنصرية الصهيونية.
ولعل تصدر كلمة الصهيونية عناوين الصحف ونشرات الأخبار الإذاعية والتليفزيونية جاء في عالمنا العربي استثنائيا عندما انعقد مؤتمر "دربان" في سبتمبر 2001، بعد أن أعادته بقوة انتفاضة الشعب الفلسطيني الباسلة إلى الوعي العربي.
وربما كان علينا في القاهرة تحديداً، حيث تزامن غزو قوات الاحتلال البريطاني لها مع نزول أولى موجات الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، ألا نتجاهل ما قاله "مناحم بيجين" رئيس وزراء إسرائيل خلال اجتماع للجنة المركزية لـ "الليكود" بعدما وقع مع الرئيس أنور السادات أول معاهدة سلام مع دولة عربية عام 1979:" سنضطر إلى الانسحاب من سيناء لعدم توافر طاقة بشرية قادرة على الاحتفاظ بهذه المساحة مترامية الأطراف..سيناء تحتاج إلى ثلاثة ملايين يهودي على الأقل لاستيطانها والدفاع عنها..وعندما يهاجر مثل هذا العدد من الاتحاد السوفيتي أو الأمريكتين إلى إسرائيل سنعود إليها وستجدونها في حوزتنا".
رحل "بيجين"..ولا يتصور على المدى المنظور عودة إسرائيل إلى احتلال سيناء عسكرياً.. لكن الصهيونية لم ترحل..تحتل أرضا وتمتلك القوة والتحالفات الدولية..كما توجه إرادات..والأخطر أنها تحتل عقولا وضمائر حتى بين صفوف ضحاياها العرب، لكنها في الآن نفسه تواجه أسئلة صعبة بشأن مستقبل إسرائيل وهويتها "اليهودية " وواجهتها " الديمقراطية ".
لعل سنوات وسنوات من "تغييب" حقيقة الصهيونية وأبعادها في مصر والعالم العربي قد اقتربت من نهايتها. أما هذا الكتاب فيطمح إلى المساهمة في إعادة الكشف عن الصهيونية من جديد.. واستنادا إلى وقائع الحاضر والمستقبل لا الماضي وحده.. وإلي قراءة المصادر الإسرائيلية ذاتها.