وصلني امس خبرٌ من أهلنا في العراق عكَّر مزاجي وكدَّر نهاري وما أكثر اخبار العراق التي تعكِّر المزاج وتكدِّر الوقت !! لقد تحول البلد كله الى قناة أخبارية مختصة بالأخبار المحزنة والمزعجة .. الأفراح والمسرات نادرة والأحزان والكوارث وافرة !! وطن مأتم ..هذا هو الوطن الذي ننتمي اليه والذي رافقنا منذ الشباب المبكر بأنباء القتل والفقد والغياب .. تراجع يمامه وحمامه ، وغابت الطيور المحلقة في سمائه وحلق عزرائيل فوق مدنه وأحيائه حاملاً الموت الى البيوت فاجعاً وموجعاً فما أقسى مهمة عزرائيل .. خبرت قبل أيام رحيل صديق حميم للعائلة هو الشيخ علوان صيوان الشاهين ، وهو عسكري سابق وفلّاح صاحب أرض وبستان ، وكبير اسرة ، مهاب الجانب ، مهذب الأخلاق ، كريم النفس ، صاحب مضيف ونخوة وشهامة ، زارني هو وأقربائه حينما كنت في العراق قبل نصف سنة في ديوانية أهلي، ومررت مع أقرباء وأصدقاء في مسيرة حول المدينة والسد الذي يحمي المدينة من الفيضانات حيث يقع بيتهم فعرض أبناؤه وبقوة علينا ضيافتهم ، واعتذرنا بألحاح لنواصل الرجوع الى البيت .
وأنا بصدد كتابة مواساة لأهله ولصهره أبو عمار الأستاذ كَاني ياسين الجواد صديق عائلتنا وأبن صديق والدي وصلني اليوم الخبر الآخر رحيل ابن عمي صادق كَاطع الأسدي .
صادق عسكري سابق أيضاً برتبة نائب ضابط في الجيش كان نشطاً وحيوياً الى أبعد حد ويتمتع بذكاء كبير .. من سوء حظه ان المدارس الثانوية لم تكن متوفرة في زمانه في مدينتنا، فأراد ان يختصر على نفسه المتاعب والطريق فتطوع في سلك الجيش .. كان اختصاصه في القلم العسكري والأدارة .. وخدم في مناطق عديدة من العراق ومنها مناطق كردية وتركمانية فتعلم اللغتين الكردية والتركمانية بأتقان عجيب، حتى الأمثال الشعبية والمفاراقات اللغوية والطرائف والنكات في هاتين اللغتين خبرها صادق فاصبح مترجماً لزملائه الآخرين . تقاعد من الجيش وكانت من آخر محطاته قاعدة الأمام علي الجوية في الناصرية، كان يمتلك بيتاً في مركز الناصرية في حي سومر بيد انه فضل الرجوع الى ناحية الفهود ليقيم بين بيوت أخوته وأخواته وأبناء عمومته وأبنا أخواله وخالاته وأقاربه .
قبل سنتين تقريباً حدث طاريء في حياته مما عجل موته .. كان لديه مرض السكري، وقد احس ببعض الألم في ساقه وان قدمه بدأت تتلون بلون داكن وتسوَّد . فأخبر أهله الذين أسرعوا به الى الطبيب الذي حوله الى قسم الجراحة، حيث ارتأى الأطباء بتر ساقه قبل ان يسري المرض اللعين الى كل أجزاء جسده فيقتله، وماكان له الّا الموافقة فبترت رجله ، وكان من جراء هذا ان تُصادر حريته هو الرياضي العسكري المحب للحركة والنشاط ومشّاء المسافات الطويلة ..
أخبرني أهلي في الأمر فهاتفته من برلين وتمنيت له الصحة والعافية وحاولت ان ابين له ان المهم انه قد تجاوز هذه الأزمة وبقي حياً حتى لو فقد ساقاً من ساقيه، فهو لم يزل هنا بعقله وقلبه وروحه، وسوف يقصده المحبون . ولأنني أعرف انه يعشق الشعر الشعبي ويحفظ من شعر أبي وشعراء المنطقة أهديت له بيتاً من الأبوذية كنت قد كتبته بعد سماعي بخبر بتر ساقه، حيث جعلت من كلمة صادق قافية للبيت، والبيت يقول :
لو صادقت زهر النجم صادق
النبيل وبالوعد لو وعد صادق
صدِّكَ من سمعت أخبار صادق
بدر تم وسكَط من بين ايديه
زارني أخوه الكبير ابن عمي جواد مع أبنائه وأبناء اخوته وأخواته وكانوا متواجدين طوال وقت زيارتي فأعتذروا لصادق وبأنه أراد القدوم ولم يتمكن بسبب فقد ساقه واجراءات العلاج فقلت لهم أنا سأقوم بزيارته غداً أو بعد غد، وفعلاً ذهبت اليه في بيته رفقة بعض الأقرباء . كان وجهه الوسيم لم يزل حياً بعد الّا انني كنت أحدس مقدار الألم الذي ينتابه وهو يريد الحركة أو النهوض للعناق في الأستقبال والوداع فيستعين بالعكّازة، هو الذي كان يفخر على زملائه باستمرار الشباب والحيوية والنشاط حين يمزح معهم ويردد لازمة لم أزل أذكرها حين يقول : ستوك عتيكَ .
تحدثنا كثيراً عن الذكريات ولاسيما اننا ولدنا في بيت واحد وعشنا في بيت واحد هوعبارة عن بيتين في بيت ، بيت عمي الأكبر أبيه وبيت أبي ، ولم يكن يفصل بيننا حاجز بل كنا نتنقل بين البيتين ، وحينما كان عمري عامين أو ثلاثة كنت أدرج ماشياً في الصباح الى بيتهم فتجلسني عمتي أمه الى جنبها وتمنحني استكان الحليب الطازج الساخن المحلى بالسكر الذي تحلبه في الصباح الباكر من بقراتهم .. لم أزل أذكر ذاك البيت الطيب ووجوه عمي وعمتي والأبناء والبنات وعلى جنبات البيت علقت صور منها صورة لمريم أم المسيح وصورة أخرى لجمال عبد الناصر في زي مدني .. لا أدري كيف جُمعت الصورتان معاً ولاسيما ان ابن عمي الأكبر جواد كان شيوعياً محكوماً في نقرة السلمان وسجن الحلة ومن المشتركين في حركة حسن السريع وفي عملية التحضير للهروب من سجن الحلة بواسطة نفق حفره السجناء، ولكن الناس عندنا يقدِّسون المسيح ومريم كما انهم يعتزون بالآخاء العربي، لذا أتت صورة السيدة مريم الى جنب صورة الرئيس المصري جمال عبد الناصر ..
صادق ولد وتربى في هذا البيت الذي ولدتُ وتربيتُ فيه وأمامه يقع بستان نخيلنا مع بيت عمي الأصغر وترعة ماء تتفرع عن جدول قريب .
والغريب والجميل اننا ولدنا جميعاً أخوة وأبناء عم في نفس البيت الكبير من أكبرنا الى أصغرنا رغم ان هناك مسافة ربع قرن من الزمن تقريباً بين الأكبر والأصغر .
وحينما دعاني ابن أختنا العقيد خالد الى بيتهم في سوق الشيوخ وأقام لي وليمة كبيرة فى حضور جمعٍ من الأهل والأصدقاء كنت أفتقد وجود الأخ صادق لعدم تمكنه من القدوم هو الذي لاتفوته مناسبات الأفراح ولقاء الأحبة !
خالد هو ابن أخت صادق وقد اختار الطريق العسكري ودرس العلوم البحرية العسكرية في ايطاليا واتقن الأيطالية فأصبح مترجماً عنها، كان قد تأثر، مثلما أخوه المقدم وليد بخاله صادق وبوالده في اختيار المهنة العسكرية، والأنتساب للجيش العراقي كجندي أو كضابط على حد سواء كان مفخرة للعراقي وأهله في ذاك الزمان !!
كان صادق محباً للشعر، يحفظ الكثير منه حتى ان قصيدة للشاعر عريان السد خلف بقيت في ذاكرتي دون ان أقرأها في كتاب أو ديوان وانما سمعتها من الأخ صادق ونحن في الطريق من سوق المدينة الى بيتهم ـ بيتنا القديم، حيث أنتقلنا نحن الى مركز المدينة لقربه من مدارسنا وبقي عمي وعائلته في البيت القديم وحينما يأتي أولاد عمي لزيارتنا نرافقهم الى البيت القديم.
صادق كان في ذاك الوقت في أجازة وأتى لزيارتنا فرجعنا سوياً وفي الطريق الذي كانت تتخلله السواقي والقناطر وتنتشر على جانبيه بسانين النخيل قرأ صادق لي أبيات الشاعر البارع عريان السيد خلف والتي تقول :
الك وحدك لذيذ دموعنا من تسح
يلبشوكَك الروح مفرفحة تفرفح
ينجم العيد والشافه بسعد يفلح
مثل طيبة ودادك ماوداد يصح .
وفي زيارتي له رويتُ له هذه الذكرى، وياللعجب انه يتذكر الأبيات الى الآن .
كنتُ سمعت في صغري من والدتي قصة ترويها عن جدتي لأبي وهي أيضاً جدة صادق .. فرويتها لصادق واذا به يكملها ويضيف اليها والقصة تقول حسبما روتها لي أمي ان جدتي ذهبت لمواساة عائلة في قرى المنطقة بمناسبة وفاة رجل من هذه العائلة، وكانت الشاعرة التي ترثي الميت وتندبه بصوت عالٍ من نفس عشيرة الميت، وقبل سنوات أو عقود كان لدى هذه العشيرة موقعة احتراب مع عشيرة بني أسد .. ويبدو ان الغلبة في النزاع كانت لبني أسد الّا ان الشاعرة أرادت ان تمتدح عشيرتها وتنسب النصر لهم والهزيمة لبني أسد فأنشدت تقول :
أهل الليط وأهل الكَصب شرّاده
وبيرغنه عله عليهم خذه مراده
والليط مفردة عراقية شعبية تعني أعواد القصب المقشر والمدقوق، وكان بنو أسد في مناطق الجبايش والأهوار معروفين بصناعة الحصران والبواري من قصب الأهوار والبحيرات، وهذا الى جنب ان الزراعة وصيد الأسماك والطيور من مهنهم المعروفة، بيد انهم تميّزوا في صناعة القصب فأرادت الشاعرة ان تعيّرهم بهذه المهنة .
جدتي كانت ذاهبة بكل أخلاص ومن كل قلبها للمواساة، وأمي تروي لي عنها انها بالأضافة الى قوة بنيتها الجسدية ومتانة قوامها كانت طيبة القلب ومتسامحة، فلما سمعت هذا الكلام عن أهلها من الشاعرة التي تذكرت معركة قديمة لتهجو بني أسد بحضور جدتي وهي بنت بني أسد وآل الشيخ انبرت للشاعرة التي كان اسمها تچية فردَّت في الحال وهي التي لاتجيد القراءة والكتابة مثل كل النساء العراقيات في ذاك الزمان الذي لم توجد فيه بعد مدارس في القرى العراقية حتى للرجال، فقالت منشدةً :
بسچ لاتكَولينش تچية
أهلنا الكَالبوها بيوم ظهريه
وصل طشّاركم بدعة الصافيّة
وبدعة الصافيّة مكان بعيد عن منطقة الفهود في مقاييس ذاك الزمان، وجدتي هنا ترد على الشاعرة بأن طشّار أهلها الهاربين من المعركة قد وصل الى بدعة الصافية .
فما كان من النسوة الحاضرات من قريبات المتوفي وبنات عشيرته سوى الهجوم على جدتي، بيد انها كانت شابة في ذاك الوقت ولديها من القوة الجسدية مامكنها من الدفاع عن نفسها بحيث استطاعت ان تشق لها طريقاً بين جمع النسوة المهاجمات وتصل سالمة الى البيت .
الغريب انني حين رويت هذه الحادثة للأخ صادق وجدت انه يحيط بتفاصيلها علماً بل انه أضاف بعض الأبيات من قصيدة جدتي التي القتها ارتجالا في هذه الواقعة، وما أطربني ان أبيات الشعر التي أضافها ورواها الأخ صادق تتضمن كلمات عراقية شعبية غائرة في عمق اللهجة العراقية المحكية آنذاك ولم نعد نحن نستخدمها، ففسر أخي صادق الكلمات لي .
هممتُ بكتابة الأبيات الأضافية وأحضار قلم وورقة بيد انني فكَّرت بان لي لقاءً طويلاً قادماً مع صادق يحدثني فيه عن هذه النوادر والحكايا وأنا أكتب .. وهاهو يرحل فجأة من ارباك سريع وطاريء في القلب، وأهله غير موقنين، فألى قبل ساعات من رحيله كان بينهم سليما ومعافى !!
برلين في 25. 01. 2017