أريد وطناً !/ثريا نافع

2008-01-11
تأتي //api.maakom.link/uploads/maakom/originals/3d1f9d4a-275a-4f12-b1b4-998b01b093a3.jpeg الأجازات لتهز الجميع بفانوسها السحري لتبدأ قوافل المسافرين بالاستعداد لموسم الانطلاق والتحرر من روتين يقبض على الرقاب طوال شهور العمل المضني، وحرارة تطبق على الأرواح.
وها هي الوجوه تطفح بالبهجة في كل لحظة من لحظات الاستعداد، فتمتلئ بالحياة والسرور، وكأنما يشاركون في تلوين تلك اللحظات الحميمة فلا يعود يؤرقهم ماض مستهدف ولا يخيفهم مستقبل أبيح دمه..
كل من ألتقيه متحمس للعودة إلى وطنه وأهله، وأصدقاء طفولة لا تحتمل ألم الفراق، وشوراع مدن تبثهم الحنين بالحنين..
أنظر إلى تلك الوجوه وأتحسس الحماسة والفرحة التي تغمرها وهى منطلقة بنفوس عامرة بالاشتياق لينتابني وجع السؤال عن ماهية هذا الشعور الذي لم أتذوقه أبدا. فأنا أسافر كما يسافر الناس، وربما أكثر من غيري، وربما أذهب إلى أماكن وديار يحلم بها كثيرون، ولكني ومنذ ولادتي، أتمنى في أعماقي لو أن لي وطناً آوي إليه بعد طول اغتراب، أتوق إلى ترابه، أتنشق عبير سماواته وبحاره، أقطف نجماته وأزين بها جبين نفسي المكسورة.. وطن ينتظر عودتي، وأحن أنا للعودة إليه حاملة في جعبتي حكايات وحكايات عن غربتي.

كم يحزنني بأن أكون واحدة من تلك المراكب التائهة في عرض بحور الحياة، والتي تتساوى كل البحار بالنسبة إليها.. واحدة من هذا الشعب المسجون ضمن معادلات لا يجوز له أن يتحرك إلا ضمنها... لنبدو للعيان وكأننا نسينا وتعودنا، وأينما "نرسي نمسي" دون أى شعور بألم.. فتمضى بنا الحياة تاركة فوق وجوهنا بصمات حزينة، وهموم سنين تركت أعباء تجاعيد في نفوسنا لا تلغيها أي مكانة اجتماعية وصلنا إليها. وغالباً ما نبحث عن فرح مفقود.

آهٍ .. كم أريد هذا الوطن...
إنني باحثة عن وطن.. فهل هناك من يهبني الإحساس به ؟
أريده بكل عطش السنين.. أريد أن أشم رائحة الماضي فيه عندما أمر على مدرستي القديمة أو بيتي القديم أو حتى منزل جدي الذي رحل..
أريد طفولتي الضالة بين وجوه الأطفال في كل حين..
أريده شجرة كنت أتمنى أن تكون وطني الصغير حين استند برأسي على جذعها وأغفو تحت أوراقها باطمئنان..
لا أريد مكاناً يرتد إلى ذاكرتي أحياناً، ومن ثم يختفي.. أريد صورة متكاملة عن الوطن الغائب برائحة ترابه وظلمته وضوضائه وضيائه.. بليله وصباحه وشمسه وقمره.. بروائح الياسمين وببنفسجه الحزين..
أريده واقعاً حياً بساحاته الواسعة، بأشجار زيتونه وصفاء سماواته..
أريده بكل صفاته المميزة التي تعشش في ذاكرتي..
أريد قيمة لأحاسيسي المعبقة به، أريد أن أتغرب وأعود إليه.. أريد أن أحكي عنه الحكايات في غربتي، أريد أن أتذكر أهلي وأقاربي.. أريد أن تُحفر في ذاكرتي ألوانه وأنهاره وبحاره وأزقته وشوارعه ومعالمه المبهجة القديمة والحديثة..
أريد أن أحكي له حكايات غربتي عندما أعود إليه.
أريد عاصمة لوطني افتخر بمعالمها وانجازاتها وبحضارتها المنبعثة من أعماق التاريخ والمشرئبة على المستقبل لتكون قرينة للخصب وتدفق الغيث وسراً للحياة..
أريد وطناً بأنسامه ورباه ووديانه ..
وأخيراً.. أريد أن أكون مثل أي مقيم؛ لا يضيره أن يكون مقيماً لأنه عائد إلى وطنه ليكون فيه مواطناً.
فالوطن يعيش في قلوب البشر يقتاتون من نبضاته ويحيون على دماءه ليهبهم الأمن والأمان..
هذا هو الشعور بالوطن الذي أريد.. فهل من مجيب ؟

إن شعوري كفلسطينية مختلف جداً.. موجع حتى النخاع. لقد تعرض وطني لعملية إزالة عن الخريطة العالمية، وشعبنا مازال يتعرض لضغوط ليس لها مثيل في تاريخ الشعوب لقتل الوطن داخل قلبه، وانتزاعه حتى من أفكاره.. وتدور أيامنا ما بين مهاجر بلا عودة ومقيم في مكان ما بلا أمل في رجعة، لنصبح خليطاً بلا أي انسجام، نتسابق لنسيان الماضي التهمة، ورجم المستقبل البعيد.
وكل هذا يزيد من احتراقنا وتعميق الأسى في نفوسنا، حتى أصبحنا مثل غابات كانت عامرة بالخير والحياة، ثم أكلتها النيران بفعل فاعل أو بعوامل الطبيعة ..
فهل تلومها العصافير إذا لاذت بها ولم تجد لها أوراقاً أو غصوناً لتختبئ تحت طياتها؟.. وهل يلومها طالب رزق إذا ما قصدها فوجدها تنعي نفسها بسوادها؟

وعلى الرغم من كل هذا الأسى، لا أنكر أنني قد جربت فرحة العودة لهذا البلد بالذات "مصر"، أتذوق شيئاً من فرح بانني عائدة لصدر كان ومازال ملاذي، كان لي فيه أيام عمر طويل، أعود إليها لأجد أصدقاء وأهل وبيت وأشياء كثيرة في انتظاري، لأستأنف الحياة طاوية صدري على وخزات غربة أحاول أن أتناساها لتستمر الحياة..
أتجول في شوارعها وطرقاتها؛ أحفظها وأرسمها وشماً في الذاكرة، والحقيقة إنها رغبة لا شعورية عندما أودعها وداع أي أحبة لتفترق ومن ثم تعود، لأحلم فيها في غربتي القصيرة الاختيارية فقد كانت لي العوض في غربتي التي فرضت علي.
تحية من أعماق قلبي المتعب الخائف من تصاريف الأيام أكثر من أي كائن في هذه الحياة لهذا الميناء الذي أعود إليه كلما ضجرت من التجوال وأقيم فيه بأي صفة لأنني أحبه.

ثريا نافع

www.thoryanafee.com

* كاتبة وقاصة وصحفية، مصرية الجنسية، فلسطينية الجذور، ومقيمة في الدوحة
* كاتبة عمود أسبوعي في جريدة الراية القطرية والعديد من المجلات والدوريات
* أول صحفية عربية التقت بصاحب نظرية "حوار الحضارات" الرئيس الإيراني د.خاتمي
* عضو متطوع وفاعل في جماعة حقوق الإنسان العالمية "نيويورك"
* عضو متطوع في لجنة البحوث والدراسات بجمعية الهلال الأحمر القطري
* عضو متطوع في لجنة أصدقاء البيئة
* عضو الجمعية الفلسفية المصرية
* عضو منتسب لنادي القصة القصيرة بجمهورية مصر العربية
* عضو جمعية المراسلين الأجانب بجمهورية مصر العربية
* عملت مدير عام شركة نيوترى سيستم الأمريكية 2000 - 2002
* عملت مدير علاقات عامة في المستشفى الأمريكي بقطر 2002-2004
* نائب الأمين العام والمدير الإعلامي لجمعية الترجمة العربية وحوار الثقافات بسويسرا
www.atida.org

* من مؤلفاتها :
- خاتمي الإنسان رؤية مختلفة : دار الشرق للطباعة والنشر، الدوحة 2000م
- أبواب مغلقة : مجموعة قصصية. مركز الحضارة العربية، القاهرة 2003م
- طقوس الزمن المحال : مجموعة قصصية. مركز الحضارة العربية، القاهرة 2003م
- متاهات 1 (قوافل الحمير): كتابات ساخرة. مركز الحضارة العربية، القاهرة 2003م
- متاهات 2 (متاهات في الطراوة): كتابات ساخرة. مركز الحضارة العربية، القاهرة 2004م
- باقة زهور على قبر الحب : مجموعة قصصية. مركز الحضارة العربية، القاهرة 2005م
- كلمات إلى مجهول : وجدانيات . مركز الحضارة العربية، القاهرة 2006م
- فضاء الجسد : رواية . دار الرحاب للنشر، بيروت 2007م
- تأملات في الحياة والناس : فلسفي
- متاهات 3
- متاهات 4
- دليلك إلى الطب الرياضي : مترجم عن الإنجليزية
- المساج خطوة خطوة : مترجم عن الإنجليزية

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved